ويعقب على الأمر بالإحسان ، بتقبيح الاختيال والفخر ، والبخل والتبخيل ، وكتمان نعمة الله وفضله ، والرياء في الإنفاق ؛ والكشف عن سبب هذا كله ، وهو عدم الإيمان بالله واليوم الآخر ، واتباع الشيطان وصحبته :
( الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ، ويكتمون ما آتاهم الله من فضله . وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا . والذين ينفقون أموالهم رئاء الناس ، ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر . ومن يكن الشيطان له قرينا فساء قرينا ! ) . .
وهكذا تتضح مرة أخرى تلك اللمسة الأساسية في المنهج الإسلامي . وهي ربط كل مظاهر السلوك ، وكل دوافع الشعور ، وكل علاقات المجتمع بالعقيدة . فإفراد الله - سبحانه - بالعبادة والتلقي ، يتبعه الإحسان إلى البشر ، ابتغاء وجه الله ورضاه ، والتعلق بثوابه في الآخرة ؛ في أدب ورفق ومعرفة بأن العبد لا ينفق إلا من رزق الله . فهو لا يخلق رزقه ، ولا ينال إلا من عطاء الله . . والكفر بالله وباليوم الآخر يصاحبه الاختيال والفخر ، والبخل والأمر بالبخل ، وكتمان فضل الله ونعمته بحيث لا تظهر آثارها في إحسان أو عطاء ؛ أو الإنفاق رياء وتظاهرا طلبا للمفخرة عند الناس ؛ إذ لا إيمان بجزاء آخر غير الفخر والخيلاء بين العباد !
وهكذا تتحدد " الأخلاق " . . أخلاق الإيمان . وأخلاق الكفر . . فالباعث على العمل الطيب ، والخلق الطيب ، هو الإيمان بالله واليوم الآخر ، والتطلع إلى رضاء الله . . وجزاء الآخرة . فهو باعث رفيع لا ينتظر صاحبة جزاء من الناس ، ولا يتلقاه ابتداء من عرف الناس ! فاذا لم يكن هناك إيمان باله يبتغي وجهه ، وتتحدد بواعث العمل بالرغبة في رضاه . وإذا لم يكن هناك اعتقاد بيوم آخر يتم فيه الجزاء . . اتجه هم الناس إلى نيل القيم الأرضية المستمدة من عرف الناس . وهذه لا ضابط لها في جيل واحد في رقعة واحدة ، فضلا عن أن يكون لها ضابط ثابت في كل زمان وفي كل مكان ! وكانت هذه هي بواعثهم للعمل . وكان هناك التأرجح المستمر كتأرجح أهواء الناس وقيمهم التي لا تثبت على حال ! وكان معها تلك الصفات الذميمة من الفخر والخيلاء ، والبخل والتبخيل ، ومراءاة الناس لا التجرد والإخلاص !
والتعبير القرآني يقول : إن الله " لا يحب هؤلاء . . والله - سبحانه - لا ينفعل انفعال الكره والحب . إنما المقصود ما يصاحب هذا الانفعال في مألوف البشر من الطرد والأذى وسوء الجزاء : " وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا " . . والإهانة هي الجزاء المقابل للفخر والخيلاء . ولكن التعبير القرآني يلقي ظلاله - إلى جوار المعنى المقصود - وهي ظلال مقصودة ؛ تثير في النفوس الكره لهذه الصفات ، ولهذه التصرفات ؛ كما تثير الاحتقار والاشمئزاز . وبخاصة حين يضم إليها أن الشيطان هو قرينهم : " ومن يكن الشيطان له قرينًا فساء قرينًا ! "
وقد ورد أن هذه النصوص نزلت في جماعة من يهود المدينة . . وهي صفات تنطبق على اليهود ، كما تنطبق على المنافقين . . وكلاهما كان موجودا في المجتمع المسلم في ذلك الحين . . وقد تكون الإشارة إلى كتمانهم ما آتاهم الله من فضله ، تعني كذلك كتمانهم للحقائق التي يعرفونها في كتبهم عن هذا الدين ، وعن رسوله الأمين . . ولكن النص عام ، والسياق بصدد الإحسان بالمال وبالمعاملة . فأولى أن نترك مفهومه عاما . لأنه الأقرب إلى طبيعة السياق .
{ الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل } بدل من قوله من كان ، أو نصب على الذم أو رفع عليه أي هم الذين ، أو مبتدأ خبره محذوف تقديره الذين يبخلون بما منحوا به ويأمرون الناس بالبخل به . وقرأ حمزة والكسائي ههنا وفي " الحديد " { بالبخل } بفتح الحرفين وهي لغة . { ويكتمون ما آتاهم الله من فضله } الغنى والعلم فهم أحقاء بكل ملامة . دوأعتدنا للكافرين عذابا مهينا } وضع الظاهر فيه موضع المضمر إشعارا بأن من هذا شأنه هو كافر لنعمة الله ، وما كان كافرا لنعمة الله فله عذاب يهينه كما أهان النعمة بالبخل والإخفاء . والآية نزلت في طائفة من اليهود كانوا يقولون للأنصار تنصيحا : لا تنفقوا أموالكم فإنا نخشى عليكم الفقر . وقيل في الذين كتموا صفة محمد صلى الله عليه وسلم .
قالت فرقة { الذين } في موضع نصب بدل من { من } في قوله { من كان مختالاً فخوراً }{[4031]} ومعناه على هذا : «يبخلون بأموالهم ويأمرون الناس » يعني إخوانهم ، ومن هو مظنة طاعتهم بالبخل بالأموال ، فلا تنفق في شيء من وجود الإحسان إلى من ذكر ، { ويكتمون ما آتاهم من فضله } ، يعني : من الرزق والمال ، فيجيء على هذا أن الباخلين منفية عنهم محبة الله ، والآية إذاً في المؤمنين ، فالمعنى : أحسنوا أيها المؤمنون إلى من سمي ، فإن الله لا يحب من فيه الخلال المانعة من الإحسان إليهم من المؤمنين ، وأما الكافرون فإنه أعد لهم { عذاباً مهيناً } ، ففصل توعد المؤمنين من توعد الكافرين ، بأن جعل الأول عدم المحبة ، والثاني { عذاباً مهيناً } وقالت فرقة : { الذين } - في موضع بالابتداء ، والخبر محذوف ، تقديره بعد قوله { من فضله } معذبون أو مجازون أو نحوه ، وقال الزجّاج : الخبر في قوله تعالى : { إن الله لا يظلم مثقال ذرة ، وإن تك حسنة يضاعفها } [ النساء : 40 ] وفي هذا تكلف ما ، والآية على هذا كله في كفار ، وقد روي : أنها نزلت في أحبار اليهود بالمدينة ، فإنهم بخلوا بالإعلام بصفة محمد عليه السلام ، وبما عندهم من العلم في ذلك وأمروا الناس بالبخل على جهتين ، بأن قالوا لأتباعهم وعوامهم : اجحدوا أمر محمد ، وابخلوا به ، وبأن قالوا للأنصار : لم تنفقون أموالكم على هؤلاء المهاجرين فتفتقرون ؟ ونحو هذا مروي عن مجاهد وحضرمي وابن زيد وابن عباس . وحقيقة «البخل » : منع ما في اليد ، والشح : هو البخل الذي تقترن به الرغبة فيما في أيدي الناس ، «وكتمان الفضل » هو على هذا : كتمان العلم ، والتوعد بالعذاب المهين لهم ، وقرأ عيسى ابن عمر والحسن «بالبُخْل » بضم الباء والخاء ، وقرأ الجمهور بضم الباء وسكون الخاء ، وقرأ حمزة والكسائي هنا وفي الحديد «بالبَخَل » بفتح الباء والخاء ، وقرأ ابن الزبير وقتادة وجماعة : بفتح الباء وسكون الخاء ، وهي كلها لغات ، { وأعتدنا } معناه : يسرنا وأعددنا وأحضرنا ، والعتيد ، الحاضر ، والمهين : الذي يقترن به خزي وذل ، وهو أنكى وأشد على المعذب .
يجوز أن يكون استئنافاً ابتدائياً ، جيء به عقب الأمر بالإحسان لمن جرى ذكرهم في الجملة السابقة ، ومناسبة إرداف التحريض على الإحسان بالتحذير من ضدهّ وما يشبه ضدّه من كلّ إحسان غير صالح ؛ فقوبل الخُلق الذي دعاهم الله إليه بأخلاق أهل الكفر وحِزب الشيطان كما دلّ عليه ما في خلال هذه الجملة من ذِكر الكافرين الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر .
فيكون قوله : { الذين يبخلون } مبتدأ ، وحُذف خبره ودَلّ عليه قولُه : { وأعتدنا للكافرين عذاباً مهيناً } . وقُصد العدول عن العطف : لتكون مستقلّة ، ولما فيه من فائدة العموم ، وفائدة الإعلام بأنّ هؤلاء من الكافرين . فالتقدير : الذين يبخلون أعتدنا لهم عذاباً مهينا وأعتدنا ذلك للكافرين أمثالهم ، تكون جملة : { والذين ينفقون أموالهم رئاء الناس } معطوفة أيضاً على جملة { والذين يبخلون } محذوفة الخبر أيضاً ، يدلّ عليه قوله : { ومن يكن الشيطان له قرينا } إلخ . والتقدير : والذين ينفقون أموالهم رثاء الناس قرينهم الشيطان . ونكتة العدول إلى العطف مثل نكتة ما قبلها .
ويجوز أن يكون { الذين يبخلون } بدلاَ من ( مَن ) في قوله : { من كان مختالاً فخوراً } [ النساء : 36 ]
يكون قوله : { والذين ينفقون أموالهم } معطوفاً على { الذين يبخلون } ، وجملة { وأعتدنا } معترضة . وهؤلاء هم المشركون المتظاهرون بالكفر ، وكذلك المنافقون .
والبخل بضمّ الباء وسكون الخاء اسم مصدر بخل من باب فرح ، ويقال البَخَل بفتح الباء والخاء وهو مصدره القياسي ، قرأه الجمهور بضم الباء وقرأه حمزة ، والكسائي ، وخلَف بفتح الباء والخاء .
والبخل : ضدّ الجود وقد مضى عند قوله تعالى : { ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله } في سورة آل عمران ( 180 ) . ومعنى { ويأمرون الناس بالبخل } يحضّون الناس عليه ، وهذا أشدّ البخل ، قال أبو تمّام :
وإنّ امر أضنّت يداه على امرىء *** بنيل يَدٍ من غيره لبخيل
والكتمان : الإخفاء . و { ما آتاهم الله من فضله } يحتمل أنّ المراد به المال ، كقوله تعالى : { ولا تحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله } [ آل عمران : 180 ] ؛ فيكون المعنى : أنّهم يبخلون ويعتذرون بأنّهم لا يجدون ما ينفقون منه ، ويحتمل أنّه أريد به كتمان التوراة بما فيها من صفة النبي صلى الله عليه وسلم فعلى الاحتمال الأوّل يكون المراد بالذين يبخلون : المنافقين ، وعلى الثاني يكون المراد بهم : اليهود ؛ وهذا المأثور عن ابن عباس . ويجوز أن تكون في المنافقين ، فقد كانوا يأمرون الناس بالبخل { هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا } [ المنافقون : 7 ] . وقوله : { وأعتدنا للكافرين عذاباً مهيناً } ، عَقِبَه ، يؤذن بأنّ المراد أحد هذين الفريقين . وجملة : { وأعتدنا للكافرين عذاباً مهيناً } معترضة .
وأصل و { أعتدنا } أعددنا ، أبدلت الدال الأولى تاء ، لثقل الدالين عند فكّ الإدغام باتّصال ضمير الرفع ، وهكذا مادّة أعدّ في كلام العرب إذا أدغموها لم يبدلوا الدال بالتاء لأنّ الإدغام أخفّ ، وإذا أظهروا أبدلوا الدال تاء ، ومن ذلك قولهم : عَتاد لعُدّة السلاح ، وأعْتُد جمع عتاد .