المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{قُلۡ يَٰقَوۡمِ ٱعۡمَلُواْ عَلَىٰ مَكَانَتِكُمۡ إِنِّي عَامِلٞۖ فَسَوۡفَ تَعۡلَمُونَ مَن تَكُونُ لَهُۥ عَٰقِبَةُ ٱلدَّارِۚ إِنَّهُۥ لَا يُفۡلِحُ ٱلظَّـٰلِمُونَ} (135)

135- قل - أيها النبي - لهم مهدِّدا : اعملوا على النحو الذي اخترتموه بكل ما في قدرتكم ، وإني عامل في ناحية الحق ، وستعلمون حتماً من تكون له العاقبة الحسنة في الدار الآخرة ، وهي لأهل الحق لا محالة ، لأنكم ظالمون والله تعالى لم يكتب الفوز للظالمين .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{قُلۡ يَٰقَوۡمِ ٱعۡمَلُواْ عَلَىٰ مَكَانَتِكُمۡ إِنِّي عَامِلٞۖ فَسَوۡفَ تَعۡلَمُونَ مَن تَكُونُ لَهُۥ عَٰقِبَةُ ٱلدَّارِۚ إِنَّهُۥ لَا يُفۡلِحُ ٱلظَّـٰلِمُونَ} (135)

128

وتنتهي التعقيبات بتهديد آخر ملفوف ، عميق الإيحاء والتأثير في القلوب :

( قل : يا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل ، فسوف تعلمون من تكون له عاقبة الدار ، إنه لا يفلح الظالمون ) . إنه تهديد الواثق من الحق الذي معه ، والحق الذي وراءه ؛ ومن القوة التي في الحق ، والقوة التي وراء الحق . . التهديد من الرسول [ ص ] بأنه نافض يديه من أمرهم ، واثق مما هو عليه من الحق ، واثق من منهجه وطريقه ، واثق كذلك مما هم عليه من الضلال ، وواثق من مصيرهم الذي هم إليه منتهون :

( إنه لا يفلح الظالمون ) . .

فهذه هي القاعدة التي لا تتخلف . . إنه لا يفلح المشركون ، الذين يتخذون من دون الله أولياء . وليس من دون الله ولي ولا نصير . والذين لا يتبعون هدى الله . وليس وراءه إلا الضلال البعيد وإلا الخسران المبين . .

وقبل أن نمضي مع سياق السورة حلقة جديدة ، نقف وقفة سريعة مع هذه الحلقة الوسيطة بين حديث عن تشريع الذبائح - ما ذكر اسم الله عليه وما لم يذكر اسم الله عليه - وحديث عن النذور من الثمار والأنعام والأولاد . . هذه الحلقة التي تضمنت تلك الحقائق الأساسية من حقائق العقيدة البحتة ؛ كما تضمنت مشاهد وصوراً وتقريرات عن طبيعة الإيمان وطبيعة الكفر ؛ وعن المعركة بين الشياطين من الإنس والجن وبين أنبياء الله والمؤمنين بهم ، كما تضمنت ذلك الحشد من المؤثرات الموحية التي سبقت نظائرها في سياق السورة وهو يواجه ويعرض حقائق العقيدة الكبرى في محيطها الشامل . .

نقف هذه الوقفة السريعة مع هذه الحلقة الوسيطة ؛ لنرى كم يحفل المنهج القرآني بهذه الواقعيات العملية ، وهذه الجزئيات التطبيقية في الحياة البشرية ؛ وكم يحفل بانطباقها على شريعة الله ؛ وعلى تقرير الأصل الذي يجب أن تستند إليه ؛ وهو حاكمية الله . . أو بتعبير آخر ربوبية الله . .

فلماذا يحفل المنهج القرآني هكذا بهذه القضية ؟

يحفل بها لأنها من ناحية المبدأ تلخص قضية " العقيدة في الإسلام ؛ كما تلخص قضية " الدين " . فالعقيدة في الإسلام تقوم على أساس شهادة : أن لا إله إلا الله . وبهذه الشهادة يخلع المسلم من قلبه ألوهية كل أحد من العباد ويجعل الألوهية لله . ومن ثم يخلع الحاكمية عن كل أحد ويجعل الحاكمية كلها لله . . والتشريع للصغيرة هو مزاولة لحق الحاكمية كالتشريع للكبيرة . فهو من ثم مزاولة لحق الألوهية ، يأباه المسلم إلا الله . . والدين في الإسلام هو دينونة العباد في واقعهم العملي - كما هو الأمر في العقيدة القلبية - لألوهية واحدة هي ألوهية الله ، ونفض كل دينونة في هذا الواقع لغير الله من العباد المتألهين ! والتشريع هو مزاولة للألوهية ، والخضوع للتشريع هو الدينونة لهذه الألوهية . . ومن ثم يجعل المسلم دينونته في هذا لله وحده ؛ ويخلع ويرفض الدينونة لغير الله من العباد المتألهين !

من هنا ذلك الاحتفال كله في القرآن كله بتقرير هذه الأصول الاعتقادية ، والاتكاء عليها على هذا النحو الذي نرى صورة منه في سياق هذه السورة المكية . . والقرآن المكي - كما أسلفنا في التقديم لهذه السورة في الجزء السابع - لم يكن يواجه قضية النظام والشرائع في حياة الجماعة المسلمة ؛ ولكنه كان يواجه قضية العقيدةوالتصور . ومع هذا فإن السورة تحفل هذا الاحتفال بتقرير هذا الأصل الاعتقادي في موضوع الحاكمية . . ولهذا دلالته العميقة الكبيرة . .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{قُلۡ يَٰقَوۡمِ ٱعۡمَلُواْ عَلَىٰ مَكَانَتِكُمۡ إِنِّي عَامِلٞۖ فَسَوۡفَ تَعۡلَمُونَ مَن تَكُونُ لَهُۥ عَٰقِبَةُ ٱلدَّارِۚ إِنَّهُۥ لَا يُفۡلِحُ ٱلظَّـٰلِمُونَ} (135)

{ قل يا قوم أعملوا على مكانتكم } على غاية تمكنكم واستطاعتكم يقال مكن مكانة إذا تمكن أبلغ التمكن ، أو على ناحيتكم وجهتكم التي أنتم عليها من قولهم مكان ومكانة كمقام ومقامة . وقرأ أبو بكر عن عاصم " مكاناتكم " بالجمع في كل القرآن وهو أمر تهديد ، والمعنى : اثبتوا على كفركم وعداوتكم . { إني عامل } ما كنت عليه من المصابرة والثبات على الإسلام ، والتهديد بصيغة الأمر مبالغة في الوعيد كأن المهدد يريد تعذيبه مجمعا عليه فيحمله بالأمر على ما يفضي به ، إليه ، وتسجيل بأن المهدد لا يتأتى منه إلا الشر كالمأمور به الذي لا يقدر أن ينقضي عنه . { فسوف تعلمون من تكون له عاقبة الدار } إن جعل { من } استفهامية بمعنى أينا تكون له عاقبة الدار الحسنى التي خلق الله لها هذه الدار ، فمحلها الرفع وفعل العلم معلق عنه وإن جعلت خبرية فالنصب ب{ تعلمون } أي فسوف تعرفون الذي تكون له عاقبة الدار ، وفيه مع الإنذار إنصاف في المقال وحسن الأدب ، وتنبيه على وثوق المنذر بأنه محق ، وقرأ حمزة والكسائي " يكون " بالياء لأنه تأنيث العاقبة غير حقيقي . { إنه لا يفلح الظالمون } وضع الظالمين موضع الكافرين لأنه أعم وأكثر فائدة .

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{قُلۡ يَٰقَوۡمِ ٱعۡمَلُواْ عَلَىٰ مَكَانَتِكُمۡ إِنِّي عَامِلٞۖ فَسَوۡفَ تَعۡلَمُونَ مَن تَكُونُ لَهُۥ عَٰقِبَةُ ٱلدَّارِۚ إِنَّهُۥ لَا يُفۡلِحُ ٱلظَّـٰلِمُونَ} (135)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

قوله: {قل يقوم اعملوا على مكانتكم}، يعني جديلتكم، يعني كفار مكة، {إني عامل}، على جديلتي التي أمرني بها ربي، {فسوف تعلمون من تكون له عاقبة الدار}، يعني الجنة، أنحن أم أنتم، ثم قال للنبي صلى الله عليه وسلم: {إنه لا يفلح}، يعني لا يسعد {الظالمون} في الآخرة، يعني المشركين، نظيرها في القصص...

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل يا محمد لقومك من قريش، الذين يجعلون مع الله إلها آخر:"اعْمَلُوا على مَكانَتِكُمْ" يقول: اعملوا على حيالكم وناحيتكم... "إنّي عامِلٌ "يقول جلّ ثناؤه لنبيه: قل لهم: اعملوا ما أنتم عاملون، فإني عامل ما أنا عامله مما أمرني به ربي. "فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ" يقول: فسوف تعلمون عند نزول نقمة الله بكم، أينا كان المحقّ في عمله والمصيب سبيل الرشاد، أنا أم أنتم؟ وقوله تعالى ذكره لنبيه: قل لقومك يا قَوْمِ اعْمَلُوا على مَكانَتِكُمْ أمر منه له بوعيدهم وتهديدهم، لا إطلاق لهم في عمل ما أرادوا من معاصي الله.

"مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدّارِ إنّهُ لا يُفْلِحُ الظّالِمُونَ"... فسوف تعلمون أيها الكفرة بالله عند معاينتكم العذاب، من الذي تكون له عاقبة الدار منا ومنكم، يقول: من الذي قعب دنياه ما هو خير له منها أو شرّ منها بما قدّم فيها من صالح أعماله أو سيئها. ثم ابتدأ الخبر جلّ ثناؤه فقال: "إنّهُ لا يُفْلِحُ الظّالِمونَ" يقول: إنه لا ينجح ولا يفوز بحاجته عند الله من عمل بخلاف ما أمره الله به من العمل في الدنيا، وذلك معنى ظلم الظالم في هذا الموضع...

النكت و العيون للماوردي 450 هـ :

{فَسَوفَ تَعْلَمُونَ مَن تَكُونَ لَهُ عاقِبَةٌ الدَّارِ} فيه وجهان: أحدهما: تعلمون ثواب الآخرة بالإيمان، وعقابها بالكفر ترغيباً منه في ثوابه وتحذيراُ من عقابه. والثاني: تعلمون نصر الله في الدنيا لأوليائه، وخذلانه لأعدائه...

لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :

هذا غاية الزجر لأنه تهديد وإن كان في صيغة الأمر...

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

والمعنى: اثبتوا على كفركم وعداوتكم لي، فإني ثابت على الإسلام وعلى مصابرتكم. {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} أينا تكون له العاقبة المحمودة. وطريقة هذا الأمر طريقة قوله {اعملوا مَا شِئْتُمْ} [فصلت: 40] وهي التخلية والتسجيل على المأمور بأنه لا يأتي منه إلاّ الشرّ، فكأنه مأمور به وهو واجب عليه حتم ليس له أن يتفصى عنه ويعمل بخلافه...

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :

ثم أمر الله عز وجل نبيه عليه السلام أن يتوعدهم بقوله {اعملوا} أي فسترون عاقبة عملكم الفاسد، وصيغة افعل هاهنا بمعنى الوعيد والتهديد، و {على مكانتكم} معناه على حالكم وطريقتكم... و {عاقبة الدار} أي مآل الآخرة، ويحتمل أن يراد مآل الدنيا بالنصر والظهور، ففي الآية إعلام بغيب، ثم جزم الحكم ب {إنه لا يفلح الظالمون} أي ينجح سعيهم...

الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :

" قل يا قوم اعملوا على مكانتكم"... فإن قيل: كيف يجوز أن يؤمروا بالثبات على ما هم عليه وهم كفار. فالجواب أن هذا تهديد، كما قال عز وجل: "فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرا 1400 "[التوبة: 82]. ودل عليه "فسوف تعلمون من تكون له عاقبة الدار" أي العاقبة المحمودة التي يحمد صاحبها عليها، أي من له النصر في دار الإسلام، ومن له وراثة الأرض، ومن له الدار الآخرة، أي الجنة...

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

لما تقرر ذلك من التهديد على إنكار البعث وتحرر، فأنتج الاجتهاد للعاقل -ولا بد- في العمل، وكان أكثر الخلق أحق، أمره سبحانه بالنصيحة بقوله: {قل يا قوم} أي يا أقرب الخلق إليّ وأعزهم عليّ ومن لهم قيام في الأمور وكفاية عند المهمات {اعملوا} وأشار إلى مزيد القوة بعد التعبير بالقوم بحرف الاستعلاء فقال: {على مكانتكم} أي على ما لكم من القدرة على العمل والمكنة قبل أن تأتي الدواهي وتسبقكم القواصم بخفوق الأجل، وفيه مع النصيحة تخويف أشد مما قبله، لأن تهديد الحاضر على لسان الغير مع الإعراض أشد من مواجهته بالتهديد، أي أنكم لم تقبلوا بذلك التهديد الأول كنتم أهلاً للإعراض والبعد. ولما كان أدل شيء على النصيحة مبادرة الناصح إلى مباشرة ما نصح به ودعا إليه، قال مستانفاً أو معللاً: {إني عامل} أي على مكانتي وبقدر استطاعتي قبل الفوت بحادث الموت. ويمكن أن يكون متمحضاً للتهديد، فيكون المعنى: اعملوا بما أنتم تعملونه الآن من مخالفتي بغاية ما لكم من القوة، إني كذلك أعمل فيما جئت به. ولما كان وقوع المتوعد به سبباً للعلم بالعاقبة، وكان السياق لعدم تذكرهم وغرورهم وقلة فطنتهم، حسن إثبات الفاء في قوله: دون إسقاطها لأن الاستئناف يتعطف للسؤال فقال: {فسوف تعلمون} أي يقع لكم بوعد لا خلف فيه العلم، فكأنه قيل: أيّ علم؟ فقيل: {من تكون له} كوناً كأنه جبل عليه {عاقبة الدار} أي بيني وبينكم، وهذا في إثبات الفاء بخلاف ما في قصة شعيب عليه السلام من سورة هود عليه السلام في حذفها؛ ولما كان التقدير جواباً لما تقرر من سؤالهم: عاقبة الدار للعامل العدل، استأنف قوله: {إنه لا يفلح الظالمون} أي الغريقون في الظلم كائنين من كانوا، فلا يكون لهم عاقبة الدار...

تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :

وقد ختم الله هذا الوعيد والتهديد بقوله لرسوله {قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدِّارِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ}. في هذا النداء ضرب في الاستمالة للكفار الذين خوطبوا بالدعوة أولا بما يذكرهم بأنهم قوم الرسول الذين يحبهم ويحرص على خيرهم ومنفعتهم بباعث الفطرة والتربية والمنافع المشتركة وقد كانت النعرة القومية عند العرب أقوى منها عند المعروف حالهم اليوم من سائر الأمم فكان نداؤهم بقوله:"يا قوم" جديرا بأن يحرك هذه العاطفة في قلوبهم فتحمل المستعد على الإصغاء لما يقول والتأمل فيه، وقد أمر الله تعالى رسوله بمثل هذا في آخر سورة هود وأواسط سورة الزمر وحكى مثله عن شعيب عليهما السلام. والمكانة في اللغة حسية وهي المكان الذي يتبوأه الإنسان، ومعنوية وهي الحال النفسية أو الاجتماعية التي يكون فيها. والمعنى اعملوا على مكانتهم وشاكلتكم التي أنتم عليها، إني عامل على مكانتي وشاكلتي التي هداني ربي إليها وأقامني فيها، فسوف تعلمون بعد حين من تكون له العاقبة الحسنى في هذه الدار بتأثير عمله. نبههم بذلك إلى الاستدلال العلمي الاجتماعي في ترتب أحوال الأمم على أعمالها المنبعثة على عقائدها وصفاتها النفسية ليستدلوا به، ثم صرح لهم بما يرشدهم على تلك العاقبة كما سنفصله...

وأقول: إن غاية هذا الإنذار وروحه الإحالة على المستقبل في صدق وعد الله لرسوله بنصره ووعيده لأعدائه بقهرهم في الدنيا إذ كان هذا شيء لا بد أن يراه جمهور المخاطبين بأعينهم فيكون حجة على صدق وعده ووعيده في أمر الآخرة إذ لا فرق بينهما في كون الإخبار بهما من الإنباء بالغيب ولا في السبب الذي لأجله كانت عاقبة الرسول ومن اتبعه هي الحسنى في الدنيا والآخرة وجعل عاقبة من كفر به وناوأه هي السوءى. وقد أشار إلى هذا السبب بفاصلة الآية {إنه لا يفلح الظالمون} أي لأنفسهم بالكفر بنعم الله واتخاذ الشركاء له في ألوهيته بالتوجه إليهم فيما يتقرب به إليه تعالى أو فيما لا يطلب إلا منه وهو كل ما أعيت المرء أسبابه أو كانت مجهولة عنده فيجب أن يتوجه إليه ويدعي في هذا وحده. وأما ما عرف سببه فيطلب من طريق السبب مع العلم بأن خالق الأسباب ومسخرها هو الله خالق كل شيء {إن الشرك لظلم عظيم} (لقمان 13) فهذا شر الظلم وأشده إفسادا للعقول والآداب والأعمال فيلزمه إذا سائر أنواع الظلم أنواع الظلم الحقيقي والإضافي.

وقد تقدم شرح هذا المعنى في تفسير {الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون} (الأنعام 82) من هذه السورة، وإذا كان فلاح الظالمين لأنفسهم وللناس بالأولى منتفيا بشرع الله وسنته العادلة، انحصر الفلاح والفوز في أهل الحق والعدل الذين يقومون بحقوق الله وحقوق أنفسهم ومن يرتبط معهم في شؤون الحياة وهذا لا يكمل إلا لرسل الله وجندهم من المؤمنين الصالحين. ألم تر كيف نصر الله رسوله على الظالمين من قومه أولا كأكابر مجرمي مكة المستهزئين به؟ ثم على سائر مشركي العرب ثم نصر أصحابه على أعظم أمم الأرض وأقواها جندا وأعظمها ملكا وأرقاها نظاما كالرومان والفرس؟ ثم نصر من بعدهم من المسلمين من كل أمة وشعب على من ناوأهم وقاتلهم من أهل الشرق والغرب في الحروب الصليبية والفتوح العثمانية وغيرها بقدر حظهم من اتباع ما جاء به من الحق والعدل.

فلما ظلموا أنفسهم وظلموا الناس وصار حظهم من هداية دينهم نحوا مما كان من حظ أهل الكتاب قبلهم من هداية رسلهم أو أقل لم يعد لهم مزية ثابتة في هذا السبب المعنوي للنصر والفلاح بل انحصر الفوز في الأسباب المادية والفنية، وسائر الأسباب المعنوية، كالصبر والثبات والعدل والنظام ونرى كثيرا من الجاهلين بالإسلام يقولون ما بال المسلمين قد أضاعوا ملكهم إذ كان الله قد وعد بنصرهم؟ وجوابه أن الله تعالى لم يعد قط بنصر من يسمون مسلمين كيفما كانت حالهم، وإنما وعد بنصر من ينصره ويقيم ما شرعه من الحق والعدل وبإهلاك الظالمين مهما تكن أسمائهم وألقابهم إذا نازعهم البقاء من هم أقرب إلى الحق والعدل أو النظام منهم {فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين ولنسكننكم الأرض من بعدهم} (إبراهيم 13- 14) وقد سبق تفصيل لهذا البحث غير مرة...

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

استئناف ابتدائي بعد قوله: {إنَّ ما توعدون لآتٍ} [الأنعام: 134] فإنّ المقصود الأوّل منه هو وعيد المشركين، كما مرّ، فأعقبه بما تمحّض لوعيدهم: وهو الأمر المستعمل في الإنذار والتّهديد، لِيُمْلِيَ لَهُمْ في ضلالهم إملاء يشعر، في متعارف التّخاطُب، بأنّ المأمور به ممّا يزيد المأمور استحقاقاً للعقوبة، واقتراباً منها. أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يُناديهم ويُهَدّدهم. وأمر أن يبتدئ خطابهم بالنّداء للاهتمام بما سيقال لهم، لأنّ النّداء يسترعي إسماع المنادَيْن، وكان المنادي عنوانَ القوم لما يشعر به من أنّه قد رقّ لحالهم حين توعدهم بقوله: {إنَّ ما توعدون لآتٍ وما أنتم بمعجزين} [الأنعام: 134] لأنّ الشأن أنّه يحبّ لقومه ما يحبّ لنفسه. والنّداء: للقوم المعاندين بقرينة المقام، الدالّ على أنّ الأمر للتّهديد، وأنّ عملهم مخالف لعمله، لقوله: {اعملوا} مع قوله {إني عامل}. فالأمر في قوله: {اعملوا} للتسوية والتخلية لإظهار اليأس من امتثالهم للنّصح بحيث يغيِّر ناصِحهم نُصحهم إلى الإطلاق لهم فيما يحبّون أن يفعلوا، كقوله تعالى: {اعملوا ما شئتم} [فصلت: 40] وهذا الاستعمال استعارة إذ يشبَّه المغضوب عليه المأيوس من ارعوائهِ بالمأمور بأن يَفعل ما كان يُنهى عنه، فكأنّ ذلك المنهي صار واجباً، وهذا تهكّم. والمكانة: المَكان، جاء على التّأنيث مثل ما جاء المقامة للمقام... والمكانة هنا مستعارة للحالة الّتي تلبّس بها المرء، تشبَّه الحالة في إحاطتها وتلبّس صاحبها بها بالمكان الّذي يحوي الشّيء، كما تقدّم اطلاق الدّار آنفاً في قوله تعالى: {لهم دار السّلام} [الأنعام: 127]، أو تكون المكانة كناية عن الحالة لأنّ أحوال المرء تظهر في مكانه ومقرّه، فلذلك يقال: « يا فلان على مَكانتك» أي أثبت على ما أنت عليه لا تنحرفْ عنه. ومفعول {اعملوا} محذوف لأنّ الفعل نزّل منزلة اللاّزم، أي اعملوا عملكم المألوف الّذي هو دأبكم، وهو الإعراض والتّكذيب بالحقّ. و {عَلَى} مستعملة في التمكّن على وجه الاستعارة التّبعيّة، وهي مناسبة لاستعارة المكانة للحالة. لأنّ العلاوة تناسب المكان، فهي ترشيح للاستعارة، مستعار من ملائم المشبه به لملائم المشبه. والمعنى: الزموا حالكم فلا مَطمع لي في اتِّباعكم... وجملة: {إني عامل} تعليل لمفاد التّسوية من الأمر في قوله: {اعملوا} أي لا يضرّني تصميمكم على ما أنتم عليه، لكنّي مستمرّ على عملي، أي أنِّي غير تارك لما أنا عليه من الإيمان والدّعاء إلى الله. وحذف متعلّق: {إني عامل} للتّعميم مع الاختصار، وسيأتي تفصيله في نظيره من سورة الزمر. ورُتِّب على عملهم وعَمَلِه الإنذارُ بالوعيد {فسوف تعلمون} بفاء التّفريع للدّلالة على أنّ هذا الوعيد متفرّع على ذلك التّهديد. وحرف التّنفيس مراد منه تأكيد الوقوع... وهذا صريح في التّهديد، لأنّ إخبارهم بأنَّهم سيعلمون يفيد أنّه يعلم وقوع ذلك لا محالة، وتصميمه على أنَّه عامل على مكانته ومخالف لعملهم يدلّ على أنّه موقن بحسن عقباه وسوء عقباهم، ولولا ذلك لعَمِل عملهم، لأنّ العاقل لا يرضى الضرّ لنفسه، فدلّ قوله: {فسوف تعلمون} على أنّ علمهم يقع في المستقبل، وأمّا هُو فَعَالِم من الآن، ففيه كناية عن وثوقه بأنَّه مُحِقّ، وأنَّهم مبطلون، وسيجيئ نظِير هذه الآية في قصّة شعيب من سورة هود. وقوله: {من تكون له عاقبة الدار} استفهام، وهو يُعلِّق فعل العِلم عن العمل، فلا يعطَى مفعولين استغناء بمُفاد الاستفهام؛ إذ التّقديرُ: تعلمون أحدَنا تكون له عاقبة الدار. وموضع: {من} رفع على الابتداء، وجملة: {تكون له عاقبة الدار} خبره. والعاقبة، في اللّغة: آخر الأمر، وأثر عمل العامل، فعاقبة كلّ شيء هي ما ينجلي عنه الشّيء ويظهرُ في آخره من أثر ونتيجة، وتأنيثه على تأويل الحالة فلا يقال: عاقب الأمر، ولكن عاقبة وعُقْبى. وقد خصّص الاستعمال لفظ العاقبة بآخرة الأمر الحَسَنَةِ، قال الراغب: العاقبة والعقبى يختصّان بالثّواب نحو {والعاقبة للمتّقين} [الأعراف: 128]، وبالإضافة قد يستعمل في العقوبة نحو {ثمّ كان عاقبة الّذين أساءوا السُّوأى} [الروم: 10] وقَلّ من نبَّه على هذا، وهو من تدقيقه، وشواهدُه في القرآن كثيرة. والدّار الموضع الّذي يحلّ به النّاس من أرض أو بناء، وتقدّم آنفاً عند قوله تعالى: {لهم دار السّلام} [الأنعام: 127]، وتعريف الدّار هنا تعريف الجنس. فيجوز أن يكون لفظ {الدار} مطلقاً، على المعنى الحقيقي، فإضافةُ {عاقبة} إلى {الدار} إضافة حقيقية، أي حُسن الأخارة الحاصلُ في الدّار، وهي الفوز بالدّار، والفلج في النّزاع عليها، تشبيهاً بما كان العرب يتنازعون على المنازل والمَراعي، وبذلك يكون قوله: {من تكون له عاقبة الدار} استعارة تمثيلية مكنية، شُبّهت حالة المؤمنين الفائزين في عملهم، مع حالة المشركين، بحالة الغالب على امتلاك دار عَدُوّه، وطُوي المركَّب الدالّ على الهيئة المشبَّه بها، ورُمز إليه بذكر ما هو من رَوادفه، وهو {عاقبة الدار}، فإنّ التّمثيليّة تكون مصرّحة، وتكون مكنية، وإن لم يُقسِّمُوهَا إليهما، لكنّه تقسيم لا محيص منه. ويجوز أن تكون {الدار} مستعارة للحالة الّتي استقرّ فيها أحد، تشبيها للحالة بالمكان في الاحتواء، فتكون إضافة عاقبَة إلى الدار إضافة بيانية، أي العاقبة الحسنى الّتي هي حالُه، فيكون الكلام استعارة مصرّحة. ومن محاسنها هنا: أنّها بنت على استعارة المكانة للحالة في قوله: {اعملوا على مكانتكم} فصار المعنى: اعملوا في داركم ما أنتم عاملون فسوف تعلمون من تكون له عاقبة الدار. وفي الكلام مع ذلك إيماء إلى أنّ عاقبة تلك الدار، أي بلد مكة، أن تكون للمسلمين، كقوله تعالى: {أنّ الأرض يرثها عبادي الصّالحون} [الأنبياء: 105] وقد فسّر قوله: {من تكون له عاقبة الدار} بغير هذا المعنى. وقرأ الجمهور: {مَن تكون} بتاء فوقيّة وقرأه حمزة، والكسائي، بتحتيّة، لأنّ تأنيث عاقبة غير حقيقي، فلمّا وقع فاعلاً ظاهراً فيجوز فيه أن يقرن بعلامة التّأنيث وبدونها. وجملة: {إنه لا يفلح الظالمون} تذييل للوعيد يتنزّل منزلة التّعليل، أي لأنّه لا يفلح الظّالمون، ستكون عقبى الدار للمسلمين، لا لكم، لأنّكم ظالمون. والتّعريف في {الظالمون} للاستغراق، فيشمل هؤلاء الظّالمين ابتداء، والضّمير المجعول اسم (إنّ) ضميرُ الشأن تنبيها على الاهتمام بهذا الخبر وأنّه أمر عظيم...

التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :

ومنها آية تتضمن تقرير سنة من سنن الله في عباده، ألا وهي إمهاله للظالم دون إهماله، واستدراجه بتمكينه من وسائل التصرف، واستعماله لها أسوأ استعمال، حتى ينتهي إلى نهايته المحتومة، وهي أخذه أخذا وبيلا وذلك قوله تعالى: {قل يا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل، فسوف تعلمون من تكون له عاقبة الدار،، إنه لا يفلح الظالمون} على غرار قوله تعالى في سورة الأعراف: {والذين كذبوا بآياتنا سنستدرجهم من حيث لا يعلمون، وأملي لهم، إن كيدي متين، أولم يتفكروا}...

تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :

وذلك هو منطق العاملين في سبيل الله عندما يواجهون الكفر المتعنّت المتصلّب الذي لا يقبل حواراً، ولا يتحرك في موقف فكر، ولا يستجيب لترغيب الله، ولا يخاف من ترهيبه، فهم أي الدعاة لا يضعفون ولا ييأسون، ولا يشعرون بالإحباط والسقوط، بل يزيدهم ذلك إصراراً على العمل، وتصميماً على الاستمرار في خط الجهاد في سبيل الله، والدعوة إلى دينه، وتحدّياً صارخاً للكافرين {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ} التي يعيش فيها النتائج الطيّبة في رضوان الله وفي نعيم الجنّة، وفي سعادة الروح، ولن ينتظر الآخرون كثيراً في معرفة هؤلاء الذين تكون لهم عاقبة الدار.. إنهم المطيعون لله، المؤمنون به المجاهدون في سبيله، {إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} الذين ظلموا أنفسهم بالكفر والمعصية والضلال...