( يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ )
يسقاه بعنف فيتجرعه غصبا وكرها ، ولا يكاد يسيغه ، لقذارته ومرارته ، والتقزز والتكره باديان نكاد نلمحها من خلال الكلمات ! ويأتيه الموت بأسبابه المحيطة به من كل مكان ، ولكنه لا يموت ، ليستكمل عذابه . ومن ورائه عذاب غليظ .
إنه مشهد عجيب ، يرسم الجبار الخائب المهزوم ووراءه مصيره يخايل له على هذا النحو المروع الفظيع . وتشترك كلمة( غليظ )في تفظيع المشهد ، تنسيقا له مع القوة الغاشمة التي كانوا يهددون بها دعاة الحق والخير والصلاح واليقين .
وقوله : { يتجرعه } أي : يتغصصه ويتكرهه ، أي : يشربه قهرا وقسرا ، لا يضعه في فيه{[15790]} حتى يضربه الملك بمطراق من حديد ، كما قال تعالى : { وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ } [ الحج : 21 ] .
{ وَلا يَكَادُ يُسِيغُهُ } أي : يزدرده لسوء لونه وطعمه وريحه ، وحرارته أو برده الذي لا يستطاع .
{ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ } أي : يألم له جميع بدنه وجوارحه وأعضائه .
قال ميمون بن مِهْرَان : من كل عظم ، وعرق ، وعصب .
وقال عكرمة : حتى من أطراف شعره .
وقال إبراهيم التيمي : من موضع كل شعرة ، أي : من جسده ، حتى من أطراف شعره .
وقال ابن جرير : { وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ } أي : من أمامه وورائه ، وعن يمينه وشماله ، ومن فوقه{[15791]} ومن تحت أرجله{[15792]} ومن سائر أعضاء جسده .
وقال الضحاك ، عن ابن عباس : { وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ } قال : أنواع العذاب الذي يعذبه الله بها يوم القيامة في نار جهنم ، وليس منها نوع إلا الموت يأتيه منه لو كان يموت ، ولكن لا يموت ؛ لأن الله تعالى قال : { لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا [ كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ ] {[15793]} } [ فاطر : 36 ] .
ومعنى كلام ابن عباس ، رضي الله عنه : أنه ما من نوع من هذه الأنواع من [ هذا ]{[15794]} العذاب إلا إذا ورد عليه اقتضى أن يموت منه لو كان يموت ، ولكنه لا يموت ليخلد في دوام العذاب والنكال ؛ ولهذا قال : { وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ }
وقوله : { وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ } أي : وله من بعد هذا الحال عذاب آخر غليظ ، أي : مؤلم صعب شديد أغلظ من الذي قبله وأدهى وأمر . وهذا كما قال تعالى عن شجرة الزقوم : { إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ فَإِنَّهُمْ لآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لإلَى الْجَحِيمِ } [ الصافات : 64 - 68 ] ، فأخبر أنهم تارة يكونون في أكل زقوم ، وتارة في شرب حميم ، وتارة يردون إلى الجحيم{[15795]} عياذا بالله من ذلك ، وهكذا قال تعالى : { هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ } [ الرحمن : 43 ، 44 ] ، وقال تعالى : { إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعَامُ الأثِيمِ كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ كَغَلْيِ الْحَمِيمِ خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ إِنَّ هَذَا مَا كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ } [ الدخان : 43 - 50 ] ، وقال : { وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ لا بَارِدٍ وَلا كَرِيمٍ } [ الواقعة : 41 - 44 ] ، وقال تعالى : { هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ } [ ص : 55 - 58 ] ، إلى غير ذلك من الآيات الدالة على تنوع العذاب عليهم ، وتكراره وأنواعه وأشكاله ، مما لا يحصيه إلا الله ، عز وجل ، جزاء وفاقا ، { وَمَا رَبُّكَ بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ } [ فصلت : 46 ] .
وقوله : { يتجرعه ولا يكاد يسيغه } عبارة عن صعوبة أمره عليهم{[7037]} ، وروي أن الكافر يؤتى بالبشربة من شراب أهل النار فيتكرهها ، فإذا أدنيت منه شوت وجهه وسقطت فيها فروة رأسه فإذا شربها قطعت أمعاءه .
قال القاضي أبو محمد : وهذا الخبر مفرق في آيات من كتاب الله{[7038]} .
وقوله : { ويأتيه الموت من كل مكان } ، أي من كل شعرة في بدنه ، قاله إبراهيم التيمي ، وقيل من جميع جهاته الست ، وقوله : { وما هو بميت } أي لا يراح بالموت ، وباقي الآية كأولها ، ووصف «العذاب بالغليظ » مبالغة فيه ، وقال الفضيل بن عياض : العذاب الغليظ حبس الأنفاس في الأجساد وقيل : إن الضمير في { ورائه } هنا هو للعذاب المتقدم .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.