البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{يَتَجَرَّعُهُۥ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُۥ وَيَأۡتِيهِ ٱلۡمَوۡتُ مِن كُلِّ مَكَانٖ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٖۖ وَمِن وَرَآئِهِۦ عَذَابٌ غَلِيظٞ} (17)

يتجرعه يتكلف جرعه .

ولا يكاد يسيغه أي : ولا يقارب أن يسيغه ، فكيف تكون الإساغة .

والظاهر هنا انتفاء مقاربة إساغته إياه ، وإذا انتفت انتفت الإساغة ، فيكون كقوله : { لم يكد يراها } أي لم يقرب من رؤيتها فكيف يراها ؟ والحديث : «جاءنا ثم يشربه » فإن صح الحديث كان المعنى : ولا يكاد يسيغه قبل أن يشربه ثم شربه ، كما جاء

{ فذبحوها وما كادوا يفعلون } أي وما كادوا يفعلون قبل الذبح .

وتجرع تفعل ، ويحتمل هنا وجوهاً أن يكون للمطاوعة أي جرعه فتجرع كقولك : علمته فتعلم .

وأنْ يكون للتكلف نحو : تحلم ، وأن يكون لمواصلة العمل في مهلة نحو : تفهم أي يأخذه شيئاً فشيئاً .

وأن يكون موافقاً للمجرد أي : تجرعه كما تقول : عدا الشيء وتعدّاه .

ويتجرعه صفة لما قبله ، أو حال من ضمير ويسقى ، أو استئناف .

ويأتيه الموت أي : أسبابه .

والظاهر أنّ قوله : من كل مكان معناه من الجهات الست ، وذلك لفظيع ما يصيبه من الآلام .

وقال إبراهيم التيمي : من كل مكان من جسده ، حتى من أطراف شعره .

وقيل : حتى من إبهام رجليه ، والظاهر أنّ هذا في الآخرة .

وقال الأخفش : أراد البلايا التي تصيب الكافر في الدنيا ، سماها موتاً وهذا بعيد ، لأنّ سياق الكلام يدل على أنّ هذا من أحوال الكافر في جهنم .

وقوله : وما هو بميت لتطاول شدائد الموت ، وامتداد سكراته .

ومن ورائه الخلاف في من ورائه كالخلاف في من ورائه جهنم .

وقال الزمخشري : ومن بين يديه عذاب غليظ أي : في كل وقت يستقبله يتلقى عذاباً أشد مما قبله وأغلظ .

وعن الفضيل : هو قطع الأنفاس وحبسها في الأجساد انتهى .

وقيل : الضمير في ورائه هو يعود على العذاب المتقدم لا على كل جبار .