فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{يَتَجَرَّعُهُۥ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُۥ وَيَأۡتِيهِ ٱلۡمَوۡتُ مِن كُلِّ مَكَانٖ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٖۖ وَمِن وَرَآئِهِۦ عَذَابٌ غَلِيظٞ} (17)

{ يَتَجَرَّعُهُ وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِن وَرَآئِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ ( 17 ) }

وقال عكرمة : هو القيح والدم . وقال محمد بن كعب القرظي : هو ما يسيل في فروج الزناة يسقاه الكافر والصديد صفة لماء أو بدل منه ، وقيل عطف بيان له { يَتَجَرَّعُهُ } التجرع التحسي أي يتحساه مرة بعد مرة لا مرة واحدة لمرارته وحرارته ونتنه وكراهته ، وقيل يكلف تجرعه ويقهر عليه ولم يذكر الزمخشري غيره ، وقيل إنه دال على المهلة أي يتناوله شيئا فشيئا . وقيل إنه بمعنى جرعه المجرد { وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ } يقال ساغ الشراب في الحلق يسوغ سوغا إذا كان سهلا ، والمعنى لا يقارب أن يسيغه ويبتلعه فكيف يكون الإساغة بل يغص به بعد اللتيا واللتي فيشربه جرعة بعد جرعة فيطول عذابه بالحرارة والعطش تارة ، ويشربه على هذه الحالة أخرى ، فإن السوغ انحدار الشراب في الحلق بسهولة وقبول نفس ونفيه لا يوجب نفي ما ذكر جميعا .

وقيل لا يكاد يدخله في جوفه ، وعبر عنه بالإساغة لما أنها المعهودة في الأشربة وقيل أنه يسيغه بعد شدة وإبطاء كقوله : { وما كادوا يفعلون } أي يفعلون بعد إبطاء كما يدل عليه قوله تعالى في آية أخرى : { يصهر به ما في بطونهم } قيل كاد صلة ، وقال الزمخشري للمبالغة ، وقيل معناه لا يجيزه .

أخرج أحمد والترمذي واستغربه والنسائي وابن أبي الدنيا وأبو يعلى وابن مردويه والبيهقي وأبو نعيم في الحيلة وصححه عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الآية قال : ( يقرب إلى فيه فيكرهه فإذا أدنى منه شوى وجهه ووقعت فروة رأسه ، فإذا شربه قطع أمعاءه حتى تخرج من دبره ) يقول الله : { وسقوا ماء حميما فقطع أمعاءهم } وقال : { وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه بئس الشراب وساءت مرتفقا } .

{ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ } أي أسبابه { مِن كُلِّ مَكَانٍ } أي من كل جهة من الجهات من قدامه ومن خلفه ومن فوقه ومن تحته وعن يمينه وعن شماله ، أو من كل موضع من مواضع بدنه .

وقال الأخفش : المراد بالموت هنا البلايا التي تصيب الكافر في النار ، سماها موتا لشدتها .

وقال ابن عباس : يعني أنواع العذاب وليس منها نوع إلا الموت يأتيه منه لو كان يموت ، ولكنه لا يموت لأن الله يقول لا يقضى عليهم فيموتوا .

وقال ميمون بن مهران : المعنى من كل عظم وعرق وعصب . وعن محمد بن كعب نحوه ، وعن إبراهيم التيمي قال : من موضع كل شعرة في جسده .

{ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ } أي والحال أنه لم يمت حقيقة فيستريح . وقيل تعلق نفسه في حنجرته فلا تخرج من فيه فيموت ، ولا ترجع إلى مكانها من جوفه فيحيا ، ومثله قوله : { لا يموت فيها ولا يحيى } .

وقيل المعنى وما هو بميت لتطاول شدائد الموت به وامتداد سكراته عليه ، والأولى تفسير الآية بعدم الموت حقيقة لما ذكرنا من قوله سبحانه : { لا يموت فيها ولا يحيى } وقوله : { لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها } .

{ وَمِن وَرَآئِهِ } أي من أمامه أو من بعده أو من بين يديه ، قاله البيضاوي . وقيل الضمير عائد على كل جبار كما في السمين { عَذَابٌ غَلِيظٌ } أي شديد يستقبل في كل وقت عذابا أشد مما هو عليه ، قيل هو الخلود في النار ، قال إبراهيم التيمي وقيل حبس الأنفاس ، قاله فضيل بن عياض .