قوله : " يتَجرَّعهُ " يجوز أن تكون الجملة صفة ل " مَاءٍ " وأن تكون حالاً من الضمير في " يُسْقَى " ، وأن تكون مستأنفة ، وتجرَّع : " تَفعَّل " وفيه احتمالات :
أحدها : أنه مطاو ل " جَرَّعْته " نحو " علَّمتهُ فتعلَّمَ " .
والثاني : أنه يكون للتكلف ، نحو " تحَلَّم " ، أي : يتَكلَّف جرعهُ ، ولم يذكر الزمخشري غيره .
الثالث : أنه دالٌّ على المهلة ، نحو تفهَّمتهُ ، أي : يتناوله شيئاً فشيئاً بالجرع كما يفهم شيئاً فشيئاً بالتفهيم .
الرابع : أنه بمعنى جرع المجرد ، نحو : عَددْتُ الشيء وتعَدَّيتُه .
والمعنى : يتحسَّاه ويشربه لا بمرة واحدة ، بل يجرعهُ لِمرارَتهِ وحَرارَتهِ .
قوله : { وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ } في " يَكادُ " قولان :
أحدهما : أن نفيهُ إثبات ، وإثباتهُ نفيٌ ، فقوله : { وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ } أي : يسيغه بعد إبطاء ؛ لأن العرب تقول : ما كدت أقومُ أي : قمتُ بعد إبطاءٍ ، قال تعالى : { فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ } [ البقرة : 71 ] أي : فعلوا بعد إبطاء ، ويدلّ على حصول الإساغة قوله : { يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ } [ الحج : 20 ] ولا يحصل الصهر إلا بعد الإساغة .
وقوله : " يَتجرَّعهُ " يدل على أنهم ساغوا الشيء بعد الشيء .
والقول الثاني : أنَّ " كَادَ " للمقاربة ، فقوله " وَلا يَكادُ " لنفي المقاربة يعني ولم يقارب أن يسيغه ، فكيف تحصل الإساغة ؟ .
كقوله تعالى : { لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا } [ النور : 40 ] ، أي : لم يقرب من رؤياها ، فكيف يراها ؟ .
فإن قيل : فقد ذكرتم الدليل على الإساغة ، فكيف يجمع بين القولين ؟ .
أحدهما : أنَّ المعنى : ولا يسيغ جميعه .
والثاني : أنَّ الدَّليل الذي ذكرتم إنَّما دلَّ على وصول بعض ذلك الشَّراب إلى جوف الكافر ، إلاَّ أن ذلك ليس بإساغة ؛ لأنَّ الإساغة في اللغة : إجراء الشرب في [ الحلق ]{[19186]} بقبول النفس ، واستطابة المشروب ، والكافر يتجرّع ذلك الشرب على كراهية ولا يسيغه ، أي : لا يستطيبه ولا يشربه شرباً مرة واحدة وعلى هذين الوجهين يصح حمل : " لا يَكَادُ " على نفي المقاربة .
قوله : { وَيَأْتِيهِ الموت مِن كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ } أي : أن موجبات الموت أحاطت به من جميع الجهات .
واعلم أن الموت يقع على أنواع بحسب أنواعه الحياة :
فمنها : ما هو بإزاء القوة النامية الموجودة في الحيوان والنبات ، كقوله تعالى : { يُحْيِي الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا } [ الحديد : 17 ] .
ومنها : زوال القوة العاقلة ، وهي الجهالة ، كقوله تعالى : { أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ } [ الأنعام : 122 ] { إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الموتى } [ النمل : 80 ] .
ومنها : الحزن والخوف المكدران للحياة ، كقوله تعالى : { وَيَأْتِيهِ الموت مِن كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ } [ إبراهيم : 17 ] .
ومنها : النوم ، كقوله تعالى -عزَّ وجلَّ- { والتي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا } [ الزمر : 42 ] .
وقد قيل : النوم : الموتُ الخفيف ، والموتُ : النوم الثقيل ، وقد يستعار الموت للأحوال الشاقة كالفقر والذل ، والسؤال ، والهرم ، والمعصية ، وغير ذلك ، ومنه الحديث " أوْل من مَاتَ إبليسُ لأنَّهُ أوَّلُ من عَصَى " .
وحديث موسى -صلوات الله سلامه عليه- حين قال له ربه : " [ أمَا ]{[19187]} تَعْلَمْ أنَّ مَنْ أفْقرتُهُ فقَدْ أمَتُّهُ " .
ولنرجع إلى التفسير ، فنقول : قيل : بحدوث ألم الموت من كل مكان من أعضائه .
وقيل : يأتيه الموت من الجهات السّت { وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ } فيستريح .
قال ابن جريج : تعلق روحه عند حنجرته ، ولا تخرج من فيه فيموت ، ولا ترجع إلى مكانها من جوفه فيستريح فَتَنْفَعهُ الحياة ، نظيره : { لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يحيى } [ طه : 74 ] .
قوله : { وَمِن وَرَآئِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ } في الضمير وجهان :
أظهرهما : أنه عائد على " كُلِّ جبَّارٍ " .
والثاني : أنه عائد على العذاب المتقدم .
قيل : العذاب الغليظ : الخلود في النار .
وقيل : إنَّهُ في كل وقت يستقبله يتلقى عذاباً أشدّ مما قبله ، وتقدم الكلام على معنى " مِن وَرائهِ " .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.