إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود - أبو السعود  
{يَتَجَرَّعُهُۥ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُۥ وَيَأۡتِيهِ ٱلۡمَوۡتُ مِن كُلِّ مَكَانٖ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٖۖ وَمِن وَرَآئِهِۦ عَذَابٌ غَلِيظٞ} (17)

{ يَتَجَرَّعُهُ } قيل : هو صفةٌ لماءٍ أو حالٌ منه والأظهر أنه استئنافٌ مبنيٌّ على السؤال ، كأنه قيل : فماذا يفعل به ؟ فقيل : يتجرعه ، أي يتكلف جَرْعه مرة بعد أخرى لغلبة العطشِ واستيلاء الحرارة عليه { وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ } أي لا يقارب أن يسيغه فضلاً عن الإساغة بل يغَصّ به فيشربُه بعد اللتيا والتي جرعةً فيطول عذابُه تارةً بالحرارة والعطش وأخرى بشربه على تلك الحالِ ، فإن السَّوغَ انحدارُ الشراب في الحلق بسهولة وقَبولِ نفس ، ونفيُه لا يوجب نفيَ ما ذكر جميعاً ، وقيل : لا يكاد يدخُله في جوفه ، وعبّر عنه بالإساغة لما أنها المعهودةُ في الأشربة وهو حالٌ من فاعل يتجرّعه أو من مفعوله أو منهما جميعاً { وَيَأْتِيهِ الموت } أي أسبابُه من الشدائد { من كُلّ مَكَانٍ } ويُحيط به من جميع الجهات أو من كل مكان من جسده حتى من أصول شعرِه وإبهامِ رجله { وَمَا هُوَ بِمَيّتٍ } أي والحالُ أنه ليس بميت كما هو الظاهرُ من مجيء أسبابِه لا سيما من جميع الجهاتِ حتى لا يتألمُ بما غشِيه من أصناف المُوبقات { وَمِن وَرَائِهِ } من بين يديه { عَذَابٍ غَلِيظٍ } يستقبل كلَّ وقت عذاباً أشدَّ وأشق مما كان قبله ، ففيه دفعُ ما يُتوهم من الخِفّة بحسب الاعتيادِ كما في عذاب الدنيا ، وقيل : هو الخلودُ في النار ، وقيل : هو حبسُ الأنفاس ، وقيل : المرادُ بالاستفتاح والخيبةِ استسقاءُ أهلِ مكةَ في سِنيهم التي أرسلها الله تعالى عليهم بدعوته عليه الصلاة والسلام وخيبتهم في ذلك ، وقد وعَد لهم بدلَ ذلك صديدَ أهل النار .