وتنتهي التعقيبات بتهديد آخر ملفوف ، عميق الإيحاء والتأثير في القلوب :
( قل : يا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل ، فسوف تعلمون من تكون له عاقبة الدار ، إنه لا يفلح الظالمون ) . إنه تهديد الواثق من الحق الذي معه ، والحق الذي وراءه ؛ ومن القوة التي في الحق ، والقوة التي وراء الحق . . التهديد من الرسول [ ص ] بأنه نافض يديه من أمرهم ، واثق مما هو عليه من الحق ، واثق من منهجه وطريقه ، واثق كذلك مما هم عليه من الضلال ، وواثق من مصيرهم الذي هم إليه منتهون :
فهذه هي القاعدة التي لا تتخلف . . إنه لا يفلح المشركون ، الذين يتخذون من دون الله أولياء . وليس من دون الله ولي ولا نصير . والذين لا يتبعون هدى الله . وليس وراءه إلا الضلال البعيد وإلا الخسران المبين . .
وقبل أن نمضي مع سياق السورة حلقة جديدة ، نقف وقفة سريعة مع هذه الحلقة الوسيطة بين حديث عن تشريع الذبائح - ما ذكر اسم الله عليه وما لم يذكر اسم الله عليه - وحديث عن النذور من الثمار والأنعام والأولاد . . هذه الحلقة التي تضمنت تلك الحقائق الأساسية من حقائق العقيدة البحتة ؛ كما تضمنت مشاهد وصوراً وتقريرات عن طبيعة الإيمان وطبيعة الكفر ؛ وعن المعركة بين الشياطين من الإنس والجن وبين أنبياء الله والمؤمنين بهم ، كما تضمنت ذلك الحشد من المؤثرات الموحية التي سبقت نظائرها في سياق السورة وهو يواجه ويعرض حقائق العقيدة الكبرى في محيطها الشامل . .
نقف هذه الوقفة السريعة مع هذه الحلقة الوسيطة ؛ لنرى كم يحفل المنهج القرآني بهذه الواقعيات العملية ، وهذه الجزئيات التطبيقية في الحياة البشرية ؛ وكم يحفل بانطباقها على شريعة الله ؛ وعلى تقرير الأصل الذي يجب أن تستند إليه ؛ وهو حاكمية الله . . أو بتعبير آخر ربوبية الله . .
فلماذا يحفل المنهج القرآني هكذا بهذه القضية ؟
يحفل بها لأنها من ناحية المبدأ تلخص قضية " العقيدة في الإسلام ؛ كما تلخص قضية " الدين " . فالعقيدة في الإسلام تقوم على أساس شهادة : أن لا إله إلا الله . وبهذه الشهادة يخلع المسلم من قلبه ألوهية كل أحد من العباد ويجعل الألوهية لله . ومن ثم يخلع الحاكمية عن كل أحد ويجعل الحاكمية كلها لله . . والتشريع للصغيرة هو مزاولة لحق الحاكمية كالتشريع للكبيرة . فهو من ثم مزاولة لحق الألوهية ، يأباه المسلم إلا الله . . والدين في الإسلام هو دينونة العباد في واقعهم العملي - كما هو الأمر في العقيدة القلبية - لألوهية واحدة هي ألوهية الله ، ونفض كل دينونة في هذا الواقع لغير الله من العباد المتألهين ! والتشريع هو مزاولة للألوهية ، والخضوع للتشريع هو الدينونة لهذه الألوهية . . ومن ثم يجعل المسلم دينونته في هذا لله وحده ؛ ويخلع ويرفض الدينونة لغير الله من العباد المتألهين !
من هنا ذلك الاحتفال كله في القرآن كله بتقرير هذه الأصول الاعتقادية ، والاتكاء عليها على هذا النحو الذي نرى صورة منه في سياق هذه السورة المكية . . والقرآن المكي - كما أسلفنا في التقديم لهذه السورة في الجزء السابع - لم يكن يواجه قضية النظام والشرائع في حياة الجماعة المسلمة ؛ ولكنه كان يواجه قضية العقيدةوالتصور . ومع هذا فإن السورة تحفل هذا الاحتفال بتقرير هذا الأصل الاعتقادي في موضوع الحاكمية . . ولهذا دلالته العميقة الكبيرة . .
وقوله تعالى : { قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ } هذا تهديد شديد ، ووعيد أكيد ، أي : استمروا على طريقكم{[11245]} وناحيتكم إن كنتم تظنون أنكم على هدى ، فأنا مستمر على طريقتي ومنهجي ، كما قال تعالى : { وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ } [ هود : 121 ، 122 ] .
قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { عَلَى مَكَانَتِكُمْ } أي : ناحيتكم .
{ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ } أي : أتكون لي أو لكم . وقد أنجز موعده له ، صلوات الله عليه ، فإنه تعالى مكن له في البلاد ، وحكمه في نواصي مخالفيه من العباد ، وفتح له مكة ، وأظهره على من كذبه من قومه وعاداه وناوأه ، واستقر أمره على سائر جزيرة العرب ، وكذلك اليمن والبحرين ، وكل ذلك في حياته . ثم فتحت الأمصار والأقاليم والرساتيق بعد وفاته في أيام خلفائه ، رضي الله عنهم أجمعين ، كما قال الله تعالى : { كَتَبَ اللَّهُ لأغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي } [ المجادلة : 20 ] ، وقال { إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأشْهَادُ . يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ } [ غافر : 51 ، 52 ] ، وقال تعالى : { وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ } [ الأنبياء : 105 ] ، وقال تعالى إخبارًا عن رسله : { فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ . وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ } [ إبراهيم : 13 ، 14 ] ، وقال تعالى : { وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا } الآية [ النور : 55 ] ، وقد فعل الله [ تعالى ]{[11246]} ذلك بهذه الأمة ، وله الحمد والمنة أولا وآخرًا ، باطنًا وظاهرًا{[11247]} .
ثم أمر الله عز وجل نبيه عليه السلام أن يتوعدهم بقوله { اعملوا } أي فسترون عاقبة عملكم الفاسد ، وصيغة افعل هاهنا بمعنى الوعيد والتهديد ، و { على مكانتكم } معناه على حالكم وطريقتكم ، وقرأ أبو بكر عن عاصم «على مكاناتكم » بجمع المكانة في كل القرآن ، وقرأ الجميع بالإفراد في كل القرآن ، و { مَنْ } يتوجه أن يكون بمعنى الذي ، فتكون في موضع نصب ب { تعلمون } ، ويتوجه أن يكون استفهاماً في موضع رفع بالابتداء والخبر في قوله { تكون له } ، و { عاقبة الدار } أي مآل الآخرة ، ويحتمل أن يراد مآل الدنيا بالنصر والظهور ففي الآية إعلام بغيب{[5103]} ، ثم جزم الحكم ب { إنه لا يفلح الظالمون } أي ينجح سعيهم ، وقرأ حمزة والكسائي من «يكون له عاقبة » بالياء ها هنا وفي القصص{[5104]} على تذكير معنى العاقبة .