157- وأخص بها الذين يتبعون الرسول محمدا ، الذي لا يكتب ولا يقرأ ، وهو الذي يجدون وصفه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل ، يأمرهم بكل خير وينهاهم عن كل شر ، ويحل لهم الأشياء التي يستطيبها الطبع ، ويُحرم عليهم الأشياء التي يستخبثها الطبع كالدم والميتة ، ويزيل عنهم الأثقال والشدائد التي كانت عليهم . فالذين صدقوا برسالته وآزروه وأيدوه ونصروه على أعدائه ، واتبعوا القرآن الذي أنزل معه كالنور الهادي ، أولئك هم الفائزون دون غيرهم ممن لم يؤمنوا به .
( الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل ؛ يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ، ويحل لهم الطيبات ، ويحرم عليهم الخبائث ، ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم . فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون ) .
وإنه لنبأ عظيم ، يشهد بأن بني إسرائيل قد جاءهم الخبر اليقين بالنبي الأمي ، على يدي نبيهم موسى ونبيهم عيسى - عليهما السلام - منذ أمد بعيد . جاءهم الخبر اليقين ببعثه ، وبصفاته ، وبمنهج رسالته ، وبخصائص ملته . فهو ( النبي الأمي ) ، وهو يأمر الناس بالمعروف وينهاهم عن المنكر ، وهو يحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ، وهو يضع عمن يؤمنون به من بني إسرائيل الأثقال والأغلال التي علم الله أنها ستفرض عليهم بسبب معصيتهم ، فيرفعها عنهم النبي الأمي حين يؤمنون به . وأتباع هذا النبي يتقون ربهم ، ويخرجون زكاة أموالهم ، ويؤمنون بآيات الله . . وجاءهم الخبر اليقين بأن الذين يؤمنون بهذا النبي الأمي ؛ ويعظمونه ويوقرونه ، وينصرونه ويؤيدونه ، ويتبعون النور الهادي الذي معه ( أولئك هم المفلحون ) . .
وبذلك البلاغ المبكر لبني إسرائيل - على يد نبيهم موسى عليه السلام - كشف الله سبحانه عن مستقبل دينه ، وعن حامل رايته ، وعن طريق أتباعه ، وعن مستقر رحمته . . فلم يبق عذر لأتباع سائر الديانات السابقة ، بعد ذلك البلاغ المبكر بالخبر اليقين .
وهذا الخبر اليقين من رب العالمين لموسى عليه السلام - وهو والسبعون المختارون من قومه في ميقات ربه - يكشف كذلك عن مدى جريمة بني إسرائيل في استقبالهم لهذا النبي الأمي وللدين الذي جاء به . وفيه التخفيف عنهم والتيسير ، إلى جانب ما فيه من البشارة بالفلاح للمؤمنين !
إنها الجريمة عن علم وعن بينة ! والجريمة التي لم يألوا فيها جهداً . . فقد سجل التاريخ أن بني إسرائيل كانوا هم ألأم خلق وقف لهذا النبي وللدين الذي جاء به . . اليهود أولاً والصليبيون أخيراً . . وأن الحرب التي شنوها على هذا النبي ودينه وأهل دينه كانت حرباً خبيثة ماكرة لئيمة قاسية ؛ وأنهم أصروا عليها ودأبوا ؛ وما يزالون يصرون ويدأبون !
والذي يراجع - فقط - ما حكاه القرآن الكريم من حرب أهل الكتاب للإسلام والمسلمين - وقد سبق منه في سورة البقرة وآل عمران والنساء والمائدة ما سبق - يطلع على المدى الواسع المتطاول الذي أداروا فيه المعركة مع هذا الدين في عناد لئيم !
والذي يراجع التاريخ بعد ذلك - منذ اليوم الذي استعلن فيه الإسلام بالمدينة ، وقامت له دولة - إلى اللحظة الحاضرة ، يدرك كذلك مدى الإصرار العنيد على الوقوف لهذا الدين وإرادة محوه من الوجود !
ولقد استخدمت الصهيونية والصليبية في العصر الحديث من ألوان الحرب والكيد والمكر أضعاف ما استخدمته طوال القرون الماضية . . وهي في هذه الفترة بالذات تعالج إزالة هذا الدين بجملته ؛ وتحسب أنها تدخل معه في المعركة الأخيرة الفاصلة . . لذلك تستخدم جميع الأساليب التي جربتها في القرون الماضية كلها - بالإضافة إلى ما استحدثته منها - جملة واحدة !
ذلك في الوقت الذي يقوم ممن ينتسبون إلى الإسلام ناس يدعون في غرارة ساذجة إلى التعاون بين أهل الإسلام وأهل بقية الأديان للوقوف في وجه تيار المادية والإلحاد ! أهل بقية الأديان الذين يذبحون من ينتسبون إلى الإسلام في كل مكان ؛ ويشنون عليهم حرباً تتسم بكل بشاعة الحروب الصليبية ومحاكم التفتيش في الأندلس - سواء عن طريق أجهزتهم المباشرة في المستعمرات في آسيا وإفريقية أو عن طريق الأوضاع التي يقيمونها ويسندونها في البلاد [ المستقلة ! ] لتحل محل الإسلام عقائد ومذاهب علمانية ! تنكر " الغيبية " لأنها " علمية ! " و " تطوّر " الأخلاق لتصبح هي أخلاق البهائم التي ينزو بعضها على بعض في " حرية ! " ، و " تطوّر " كذلك الفقه الإسلامي ، وتقيم له مؤتمرات المستشرقين لتطويره . كيما يحل الربا والاختلاط الجنسي وسائر المحرمات الإسلامية ! !
إنها المعركة الوحشية الضارية يخوضها أهل الكتاب مع هذا الدين ، الذي بشروا به وبنبيه منذ ذلك الأمد البعيد . ولكنهم تلقوه هذا التلقي اللئيم الخبيث العنيد !
{ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإنْجِيلِ } وهذه صفة محمد صلى الله عليه وسلم في كتب الأنبياء بشروا أممهم ببعثه{[12191]} وأمروهم بمتابعته ، ولم تزل صفاته موجودة في كتبهم يعرفها علماؤهم وأحبارهم كما قال الإمام أحمد :
حدثنا إسماعيل ، عن الجُرَيري ، عن أبي صخر العقيلي ، حدثني رجل من الأعراب ، قال : جلبت جَلُوبَةً إلى المدينة في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما فرغت من بيعتي{[12192]} قلت : لألقين هذا الرجل فلأسمعن منه ، قال : فتلقاني بين أبي بكر وعمر يمشون ، فتبعتهم في أقفائهم حتى أتوا على رجل من اليهود ناشرًا التوراة يقرؤها ، يعزي بها نفسه عن ابن له في الموت كأحسن الفتيان وأجمله ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أنشدك بالذي أنزل التوراة ، هل تجد{[12193]} في كتابك هذا صفتي ومخرجي ؟ " فقال برأسه هكذا ، أي : لا . فقال ابنه ، إي : والذي أنزل التوراة إنا لنجد في كتابنا صفتك ومَخرجك ، وإني أشهد أن لا إله إلا الله ، وأنك{[12194]} رسول الله فقال : " أقيموا اليهودي عن أخيكم " . ثم ولى كفنه{[12195]} والصلاة عليه{[12196]}
هذا حديث جيد قوي له شاهد في الصحيح ، عن أنس .
وقال الحاكم صاحب المستدرك : أخبرنا أبو محمد - عبد الله بن إسحاق البغوي ، حدثنا إبراهيم بن الهيثم البلدي{[12197]} حدثنا عبد العزيز بن مسلم بن إدريس ، حدثنا عبد الله بن إدريس ، عن شُرَحْبِيل بن مسلم ، عن أبي أمامة الباهلي ، عن هشام بن العاص الأموي قال : بعثت أنا ورجل آخر إلى هرقل صاحب الروم ندعوه إلى الإسلام ، فخرجنا حتى قدمنا الغوطة - يعني غوطة دمشق - فنزلنا على جبلة بن الأيهم الغساني ، فدخلنا عليه ، فإذا هو على سرير له ، فأرسل إلينا برسوله نكلمه ، فقلنا : والله لا نكلم رسولا إنما بعثنا إلى الملك ، فإن أذن لنا كلمناه{[12198]} وإلا لم نكلم
الرسول{[12199]} فرجع إليه الرسول فأخبره بذلك ، قال : فأذن لنا فقال : تكلموا{[12200]} فكلّمه هشام بن العاص ، ودعاه إلى الإسلام ، فإذا عليه ثيابُ سوادٍ{[12201]} فقال له هشام : وما هذه التي عليك ؟ فقال : لبستها وحلفت ألا أنزعها حتى أخرجكم من الشام . قلنا : ومجلسك هذا ، والله{[12202]} لنأخذنه منك ، ولنأخذن ملك الملك الأعظم ، إن شاء الله ، أخبرنا بذلك نبينا{[12203]} صلى الله عليه وسلم . قال : لستم بهم ، بل هم قوم يصومون بالنهار ، ويقومون بالليل ، فكيف صومكم ؟ فأخبرناه ، فمُلئ وجهه سوادًا فقال : قوموا . وبعث معنا رسولا إلى الملك ، فخرجنا ، حتى إذا كنا قريبًا من المدينة ، قال لنا الذي معنا : إن دوابكم هذه لا تدخل مدينة الملك ، فإن شئتم حملناكم على براذين وبغال ؟ قلنا : والله لا ندخل إلا عليها ، فأرسلوا إلى الملك أنهم يأبون ذلك . فدخلنا على رواحلنا متقلدين سيوفنا ، حتى انتهينا إلى غرفة{[12204]} فأنخنا في أصلها وهو ينظر إلينا ، فقلنا : لا إله إلا الله ، والله أكبر فالله يعلم لقد تَنَفَّضَت الغرفة حتى صارت كأنها عِذْق تصَفّقه الرياح ، فأرسل{[12205]} إلينا : ليس لكم أن تجهروا علينا بدينكم . وأرسل إلينا : أن ادخلوا فدخلنا عليه وهو على فراش له ، وعنده بطارقته من الروم ، وكل شيء في مجلسه أحمر ، وما حوله حمرة ، وعليه ثياب من الحمرة ، فدنونا منه فضحك ، فقال : ما كان عليكم لو حييتموني بتحيتكم فيما بينكم ؟ وإذا عنده رجل فصيح بالعربية ، كثير الكلام ، فقلنا : إن تحيتنا فيما بيننا لا تحل لك ، وتحيتك التي تُحيى بها لا تحل{[12206]} لنا أن نحييك بها . قال : كيف تحيتكم فيما بينكم ؟ قلنا : السلام عليك . قال : وكيف تحيون ملككم ؟ قلنا : بها . قال : وكيف يرد عليكم ؟ قلنا : بها . قال : فما أعظم كلامكم ؟ قلنا : لا إله إلا الله ، والله أكبر فلما تكلمنا بها والله يعلم - لقد تَنَفَّضت الغرفة حتى رفع رأسه إليها ، قال : فهذه الكلمة التي قلتموها حيث تنفضت الغرفة ، كلما قلتموها في بيوتكم تنفضت عليكم غرفكم ؟ قلنا : لا ما رأيناها فعلت هذا قط إلا عندك . قال : لوددت أنكم كلما قلتم تَنَفَّضَ كل شيء عليكم . وإني خرجت{[12207]} من نصف ملكي . قلنا : لم ؟ قال : لأنه كان أيسر لشأنها ، وأجدر ألا تكون من أمر النبوة ، وأنها{[12208]} تكون من حيل الناس . ثم سألنا عما أراد فأخبرناه . ثم قال : كيف صلاتكم وصومكم ؟ فأخبرناه ، فقال : قوموا فقمنا . فأمر لنا بمنزل حسن ونزل كَثير ، فأقمنا ثلاثًا .
فأرسل إلينا ليلا فدخلنا عليه ، فاستعاد قولنا ، فأعدناه . ثم دعا بشيء كهيئة الرَّبْعَةِ العظيمة مذهبة ، فيها بيوت صغار عليها أبواب ، ففتح بيتا وقفلا فاستخرج حريرة سوداء ، فنشرها ، فإذا فيها صورة حمراء ، وإذا فيها رجل ضخم العينين . عظيم الأليتين ، لم أر مثل طول عنقه ، وإذا ليست له لحية ، وإذا له ضفيرتان أحسن ما خلق الله . قال : أتعرفون هذا ؟ قلنا : لا . قال : هذا آدم ، عليه السلام ، وإذا هو أكثر الناس شعرًا .
ثم فتح بابًا آخر ، فاستخرج منه حريرة سوداء ، وإذا فيها صورة بيضاء ، وإذا له شعر كشعر القطط ، أحمر العينين ، ضخم الهامة ، حسن اللحية ، فقال : هل تعرفون هذا ؟ قلنا : لا . قال : هذا نوح ، عليه السلام .
ثم فتح بابًا آخر ، فاستخرج{[12209]} حريرة سوداء ، وإذا فيها رجل شديد البياض ، حسن العينين ، صَلْت الجبين ، طويل الخد ، أبيض اللحية كأنه يبتسم ، فقال : هل تعرفون هذا ؟ قلنا : لا . قال : هذا إبراهيم ، عليه السلام .
ثم فتح بابا آخر{[12210]} فإذا فيه صورة بيضاء ، وإذا - والله - رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال{[12211]} أتعرفون هذا ؟ قلنا : نعم ، محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : وبكينا . قال : والله يعلم أنه قام قائما ثم جلس ، وقال : والله إنه لهو ؟ قلنا : نعم ، إنه لهو ، كأنك تنظر إليه ، فأمسك ساعة ينظر إليها ، ثم قال : أما إنه كان آخر البيوت ، ولكني عَجَّلته لكم لأنظر ما عندكم .
ثم فتح بابا آخر ، فاستخرج منه حريرة سوداء ، فإذا فيها صورة أدماء سحماء{[12212]} وإذا رجل جعد قطط ، غائر العينين ، حديد النظر ، عابس متراكب الأسنان ، مقلَّص{[12213]} الشفة كأنه غضبان ، فقال : هل تعرفون هذا ؟ قلنا : لا . قال : هذا موسى{[12214]} عليه السلام . وإلى جانبه صورة تشبهه ، إلا أنه مُدْهَان الرأس ، عريض الجبين ، في عينيه قبل ، فقال : هل تعرفون هذا ؟ قلنا : لا . قال : هذا هارون بن عمران ، عليه السلام .
ثم فتح بابًا آخر ، فاستخرج منه حريرة بيضاء ، فإذا فيها صورة رجل آدم سَبْط رَبْعَة ، كأنه غضبان ، فقال : هل تعرفون هذا ؟ قلنا : لا . قال : هذا لوط ، عليه السلام .
ثم فتح بابًا آخر ، فاستخرج منه حريرة بيضاء ، فإذا فيها صورة رجل أبيض مُشْرَب حُمرة ، أقنى ، خفيف العارضين ، حسن الوجه فقال : هل تعرفون هذا ؟ قلنا : لا . قال هذا إسحاق ، عليه السلام .
ثم فتح بابًا آخر ، فاستخرج{[12215]} حريرة بيضاء ، فإذا فيها صورة تشبه إسحاق ، إلا أنه على شفته خال ، فقال : هل تعرفون هذا ؟ قلنا : لا . [ قال ]{[12216]} هذا يعقوب ، عليه السلام .
ثم فتح بابًا آخر ، فاستخرج منه حريرة سوداء ، فيها صورة رجل أبيض ، حسن الوجه ، أقنى الأنف ، حسن القامة ، يعلو وجهه نور ، يعرف في وجهه الخشوع ، يضرب إلى الحمرة ، قال : هل تعرفون هذا ؟ قلنا : لا . قال : هذا إسماعيل جد نبيكم ، عليهما السلام .
ثم فتح بابًا آخر ، فاستخرج{[12217]} حريرة بيضاء ، فيها صورة كأنها آدم ، عليه السلام ، كأن وجهه الشمس ، فقال : هل تعرفون هذا ؟ قلنا : لا . قال : هذا يوسف ، عليه السلام .
ثم فتح بابا آخر فاستخرج{[12218]} حريرة بيضاء ، فإذا فيها صورة رجل أحمر حَمْش الساقين ، أخفش العينين ضخم البطن ، رَبْعة متقلد سيفا ، فقال : هل تعرفون هذا ؟ قلنا : لا . قال : هذا داود ، عليه السلام .
ثم فتح بابًا آخر ، فاستخرج{[12219]} حريرة بيضاء ، فيها صورة رجل ضخم الأليتين ، طويل الرجلين ، راكب فرسًا ، فقال : هل تعرفون هذا ؟ قلنا : لا . قال : هذا سليمان بن داود ، عليه{[12220]} السلام .
ثم فتح بابًا آخر ، فاستخرج منه حريرة سوداء ، فيها صورة بيضاء ، وإذا شابٌّ{[12221]} شديد سواد اللحية ، كثير الشعر ، حسن العينين ، حسن الوجه ، فقال : هل تعرفون هذا ؟ قلنا : لا . قال : هذا عيسى ابن مريم ، عليه السلام .
قلنا : من أين لك هذه الصور ؟ لأنا نعلم أنها على ما صورت عليه الأنبياء ، عليهم السلام ، لأنا رأينا صورة نبينا عليه السلام مثله . فقال : إن آدم ، عليه السلام ، سأل ربه أن يريه الأنبياء من ولده ، فأنزل عليه صورهم ، فكان في خزانة آدم ، عليه السلام ، عند مغرب الشمس ، فاستخرجها ذو القرنين من مغرب الشمس فدفعها إلى دانيال . ثم قال : أما والله إن نفسي طابت بالخروج من ملكي ، وإني كنت عبدًا لأشركم ملكه ، حتى أموت . ثم أجازنا فأحسن جائزتنا ، وسرحنا ، فلما أتينا أبا بكر الصديق ، رضي الله عنه ، فحدثناه بما أرانا ، وبما قال لنا ، وما أجازنا ، قال : فبكى أبو بكر وقال : مسكين ! لو أراد الله به خيرًا لفعل . ثم قال : أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم واليهود يجدون نعت محمد صلى الله عليه وسلم عندهم .
هكذا أورده الحافظ الكبير أبو بكر البيهقي ، رحمه الله ، في كتاب " دلائل النبوة " ، عن الحاكم إجازة ، فذكره{[12222]} وإسناده لا بأس به .
وقال ابن جرير : حدثنا المثنى ، حدثنا عثمان بن عُمَر ، حدثنا فُلَيْح ، عن هلال بن علي ، عن عطاء بن يسار ، قال : لقيت عبد الله بن عمرو فقلت : أخبرني عن صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة . قال : أجل والله ، إنه لموصوف في التوراة كصفته في القرآن : " يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدًا ومبشرًا ونذيرًا وحرزًا للأميين ، أنت عبدي ورسولي ، سميتك المتوكل ، ليس بفظ ولا غليظ ، ولا صخَّاب في الأسواق ، ولا يجزي بالسيئة السيئة ، ولكن يعفو ويصفح ، ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء ، بأن يقولوا : لا إله إلا الله ويفتح به قلوبا غُلفا ، وآذانًا صمًا ، وأعينًا عميًا " قال عطاء : ثم لقيت كعبا فسألته عن ذلك ، فما اختلف حرفا ، إلا أن كعبا قال بلغته ، قال : " قلوبًا غُلوفيًا وآذانًا صموميًا وأعينًا عموميًا " .
وقد رواه البخاري في صحيحه ، عن محمد بن سِنَان ، عن فُلَيْح ، عن هلال بن علي - فذكر بإسناده نحوه{[12223]} وزاد بعد قوله : " ليس بفظ ولا غليظ " : " ولا صخاب في الأسواق ، ولا يجزي بالسيئة السيئة ، ولكن يعفو ويصفح " .
ويقع في كلام كثير من السلف إطلاق " التوراة " على كتب أهل الكتاب . وقد ورد في بعض الأحاديث ما يشبه هذا ، والله أعلم .
وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني : حدثنا موسى بن هارون ، حدثنا محمد بن إدريس ورَّاق الحميدي{[12224]} حدثنا محمد بن عمر بن إبراهيم - من ولد جبير بن مطعم - قال : حدثتني أم عثمان بنت سعيد - وهي جدتي - عن أبيها سعيد بن محمد بن جبير ، عن أبيه محمد بن جبير ، عن أبيه جبير بن مطعم ، قال : خرجت تاجرًا إلى الشام ، فلما كنت بأدنى الشام ، لقيني رجل من أهل الكتاب ، فقال : هل عندكم رجل نبيًا ؟ قلت : نعم . قال : هل تعرف صورته إذا رأيتها ؟ قلت : نعم . فأدخلني بيتا فيه صور ، فلم أر صورة النبي صلى الله عليه وسلم ، فبينما أنا كذلك إذ دخل رجل منهم علينا ، فقال : فيم أنتم ؟ فأخبرناه ، فذهب بنا إلى منزله ، فساعة ما دخلت نظرت إلى صورة النبي صلى الله عليه وسلم ، وإذا رجل آخذ بعقب النبي صلى الله عليه وسلم ، قلت : من هذا الرجل القابض على عقبه ؟ قال : إنه لم يكن نبي إلا كان بعده نبي إلا هذا النبي ، فإنه لا نبي بعده ، وهذا الخليفة بعده ، وإذا صفة أبي بكر ، رضي الله عنه{[12225]}
وقال أبو داود : حدثنا حفص بن عمر أبو عمر الضرير{[12226]} حدثنا حماد بن سلمة أن سعيد بن إياس الجريري أخبرهم ، عن عبد الله بن شقيق العقيلي ، عن الأقرع مؤذن عمر بن الخطاب قال : بعثني عمر إلى الأسقف ، فدعوته ، فقال له عمر : هل تجدني في الكتاب ؟ قال : نعم . قال : كيف تجدني ؟ قال : أجدك قَرْنا . قال : فرفع عمر الدرة وقال{[12227]} قرن مه ؟ قال : قرن حديد ، أمير شديد . قال : فكيف تجد الذي بعدي ؟ قال : أجد خليفة صالحا ، غير أنه يؤثر قرابته قال عمر : يرحم الله عثمان ، ثلاثا . قال : كيف تجد الذي بعده ؟ قال : أجد صدأ حديد . قال : فوضع عمر يده على رأسه وقال : يا دفراه ، يا دَفْراه ! قال : يا أمير المؤمنين ، إنه خليفة صالح ، ولكنه يُستخلف حين يُستخلف والسيف مسلول ، والدم مهراق{[12228]}
وقوله تعالى { يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ } هذه صفة الرسول صلى الله عليه وسلم{[12229]} في الكتب المتقدمة ، وهكذا كان{[12230]} حاله ، عليه الصلاة والسلام ، لا يأمر إلا بخير ، ولا ينهى إلا عن شر ، كما قال عبد الله بن مسعود : إذا سمعت الله يقول : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا } فَأرْعها سمعك ، فإنه خير يأمر به أو شر ينهى عنه . ومن أهم ذلك وأعظمه ، ما بعثه الله [ تعالى ]{[12231]} به من الأمر بعبادته وحده لا شريك له ، والنهي عن عبادة من سواه ، كما أرسل به جميع الرسل قبله ، كما قال تعالى : { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ } [ النحل : 36 ] وقال الإمام أحمد : حدثنا أبو عامر - هو العقدي عبد الملك بن عمرو - حدثنا سليمان - هو ابن بلال - عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن ، عن عبد الملك بن سعيد ، عن أبي حميد وأبي أسيد ، رضي الله عنهما ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إذا سمعتم الحديث عني تعرفه قلوبكم ، وتلين له أشعاركم وأبشاركم ، وترون أنه منكم قريب ، فأنا أولاكم به . وإذا سمعتم الحديث عني تنكره قلوبكم ، وتنفر منه أشعاركم وأبشاركم ، وترون أنه منكم بعيد ، فأنا أبعدكم منه " {[12232]}
هذا [ حديث ]{[12233]} جيد الإسناد ، لم يخرجه أحد من أصحاب الكتب [ الستة ]{[12234]}
وقال الإمام أحمد : حدثنا أبو معاوية ، حدثنا الأعمش ، عن عمرو بن مرة ، عن أبي البختري ، عن علي ، رضي الله عنه ، قال : إذا حدثتم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثا ، فظنوا به الذي هو أهدى ، والذي هو أهنا ، [ والذي هو أنجي ]{[12235]} والذي هو أتقى{[12236]} {[12237]}
ثم رواه عن يحيى عن بن سعيد ، عن مسعر ، عن عمرو بن مرة ، عن أبي البختري ، عن أبي عبد الرحمن ، عن علي ، رضي الله عنه ، قال : إذا حدثتم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثا ، فظنوا به الذي هو أهداه وأهناه وأتقاه{[12238]}
وقوله : { وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ } أي : يحل لهم ما كانوا حرموه على أنفسهم من البحائر ، والسوائب ، والوصائل ، والحام ، ونحو ذلك ، مما كانوا ضيقوا به على أنفسهم ، ويحرم عليهم الخبائث .
قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : كلحم الخنزير والربا ، وما كانوا يستحلونه من المحرمات من المآكل التي حرمها الله تعالى .
وقال بعض العلماء : كل ما أحل الله تعالى ، فهو طيب نافع في البدن والدين ، وكل ما حرمه ، فهو خبيث ضار في البدن والدين .
وقد تمسك بهذه الآية الكريمة من يرى التحسين والتقبيح العقليين ، وأجيب عن ذلك بما لا يتسع هذا الموضع له .
وكذا احتج بها من ذهب من العلماء إلى أن المرجع في حل المآكل التي لم ينص على تحليلها ولا تحريمها ، إلى ما استطابته العرب في حال رفاهيتها ، وكذا في جانب التحريم إلى ما استخبثته . وفيه{[12239]} كلام طويل أيضا .
وقوله : { وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ } أي : إنه جاء بالتيسير والسماحة ، كما ورد الحديث من طرق عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " بعثت بالحنيفية السمحة " . وقال لأميريه معاذ وأبي موسى الأشعري ، لما{[12240]} بعثهما إلى اليمن : " بشرا ولا تنفرا ، ويسرا ولا تعسرا ، وتطاوعا ولا تختلفا " . وقال صاحبه أبو برزة الأسلمي : إني صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم وشهدت تيسيره .
وقد كانت الأمم الذين{[12241]} كانوا قبلنا في شرائعهم ضيق عليهم ، فوسع الله على هذه الأمة أمورها ، وسهلها لهم ؛ ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها ، ما لم تقل أو تعمل " {[12242]} وقال : " رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه " {[12243]} ؛ ولهذا قد أرشد الله هذه الأمة أن يقولوا : { رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ } [ البقرة : 286 ] وثبت في صحيح مسلم أن الله تعالى قال بعد كل سؤال من هذه : قد فعلت ، قد فعلت{[12244]}
وقوله : { فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ } أي : عظموه ووقروه ، { وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزلَ مَعَهُ } أي : القرآن والوحي الذي جاء به مبلغًا إلى الناس ، { أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } أي : في الدنيا والآخرة .
هذه الألفاظ أخرجت اليهود والنصارى من ا?شتراك الذي يظهر في قوله { فسأكتبها للذين يتقون } [ الأعراف : 156 ] وخلصت هذه العدة لأمة محمد صلى الله عليه وسلم قاله ابن عباس وابن جبير وغيرهما ، و { يتبعون } معناه في شرعه ودينه ، و { الرسول } و { النبي } اسمان لمعنيين فإن الرسول ، أخص من النبي هذا في الآدميين لاشتراك الملك في لفظة الرسول ، و { النبي } مأخوذ من النبأ ، وقيل لما كان طريقاً إلى رحمة الله تعالى وسبباً شبه بالنبي الذي هو الطريق ، ونشدوا :
لأصبح رتماً ُدَقاَق الحصى*** مكان النبي من الكاثب
وأصله الهمز ولكنه خفف كذا قال سيبويه وذلك كتخفيفهم خابية وهي من خبأ ، واستعمل تخفيفه حتى قد روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «لا تنبروا اسمي » وقدم الرسول اهتماماً بمعنى الرسالة عند المخاطبين بالقرآن وإلا فمعنى النبوءة هو المتقدم وكذلك رد رسول الله صلى الله عليه وسلم على البراء بن عازب حين قال آمنت بكتابك الذي أنزلت وبرسولك الذي أرسلت ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : «وبنبيك الذي أرسلت » ليترتب الكلام كما ترتب الأمر في نفسه ، لأنه نبىء ثم أرسل ، وأيضاً في العبارة المردودة تكرار الرسالة وهو معنى واحد ، و «الأُّمي » بضم الهمزة قيل نسب إلى أم القرى وهي مكة .
قال القاضي أبو محمد : واللفظة على هذا مختصة بالنبي صلى الله عليه وسلم وغير مضمنة معنى عدم الكتابة ، وقيل هو منسوب لعدمه الكتابة والحساب إلى الأم ، أي هو على حال الصدر عن الأم في عدم الكتابة ، وقالت فرقة هو منسوب إلى الأمة ، وهذا أيضاً مضمن عدم الكتابة لأن الأمة بجملتها غير كاتبة حتى تحدث فيها الكتابة كسائر الصنائع ، وقرأ بعض القراء فيما ذكر أبو حاتم «الأَمي » بفتح الهمزة وهو منسوب إلى الأم وهو القصد ، أي لأن هذا النبي مقصد للناس وموضع أم يؤمونه بأفعالهم وتشرعهم ، قال ابن جني : وتحتمل هذه القراءة أن يريد الأمي فغير تغيير النسب .
والضمير في قوله : { يجدونه } لبني إسرائيل والهاء منه لمحمد صلى الله عليه وسلم ، والمراد صفته ونعته .
وروي أن الله عز وجل قال لموسى قل لبني إسرائيل أجعل لكم الأرض مسجداً وطهوراً وأجعل السكينة معكم في بيوتكم وأجعلكم تقرؤون التوراة عن ظهر قلوبكم ، فأخبر موسى بني إسرائيل فقالوا : إنما نريد أن نصلي في الكنائس وأن تكون السكينة كما كانت في التابوت وأن لا نقرأ التوراة إلا نظراً ، فقيل لهم فنكتبها للذين يتقون يعني أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، وروي عن عبد الله بن عمر ، وفي البخاري أو غيره أن في التوراة من صفة محمد صلى الله عليه وسلم «يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً وحرزاً للأميين أنت عبدي ورسولي سميتك المتوكل ليس بفظ ولا غليظ ولا صَّخاب في الأسواق ، ولا يجزي بالسيئة السيئة ، ولكن يعفو ويصفح ، ولن أقبضه حتى أقيم به الملة العوجاء بأن يقولوا : لا إله إلا الله ، فنقيم به قلوباً غلفاً وآذاناً صماً وأعيناً عمياً » .
وفي البخاري «فنفتح به عيوناً عمياً وآذاناً صماً وقلوباً غلفاً » ونص كعب الأحبار نحو هذه الألفاظ إلا أنه قال «قلوباً غلفاً وآذاناً صموماً » ، قال الطبري وهي لغة حميرية وقد رويت «غلوفياً وصمومياً » .
قال القاضي أبو محمد : وأظن هذا وهماً وعجمة .
وقوله تعالى : { يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر } يحتمل أن يريد ابتداء وصف الله تعالى النبي صلى الله عليه وسلم ويحتمل أن يجعله متعلقاً ب { يجدونه } في موضع الحال على تجوز ، أي يجدونه في التوراة أمراً بشرط وجوده فالمعنى الأول لا يقتضي أنهم علموا من التوراة أنه يأمرهم وينهاهم ويحل ويحرم ، والمعنى الثاني يقتضي ذلك فالمعنى الثاني على هذا ذم لهم ، ونحا إلى هذا أبو إسحاق الزجّاج ، وقال أبو علي الفارسي في الإغفال { يأمرهم } عندي تفسير لما كتب من ذكره كما أن قوله تعالى { خلقه من تراب } تفسير للمثل ، ولا يجوز أن يكون حالاً من الضمير في { يجدونه } لأن الضمير للذكر والاسم ، والذكر والاسم لا يأمران .
قال القاضي أبو محمد : وما قدمته من التجوز وشرط الوجود يقرب ما منع منه أبو علي ، وانظر و { بالمعروف } ما عرف الشرع ، وكل معروف من جهة المروءة فهو معروف بالشرع ، فقد قال صلى الله عليه وسلم «بعثت لأتمم محاسن الأخلاق » و { المنكر } مقابله .
و { الطيبات } قال فيها بعض المفسرين إنها إشارة إلى البحيرة ونحوها ، ومذهب مالك رحمه الله أنها المحللات فكأنه وصفها بالطيب إذ هي لفظة تتضمن مدحاً وتشريفاً ، وبحسب هذا يقول في { الخبائث } إنها المحرمات وكذلك قال ابن عباس «الخبائث » هي لحم الخنزير والربا وغيره ، وعلى هذا حلل مالك المتقذرات كالحيات والخنافس والعقارب ونحوها ، ومذهب الشافعي رحمه الله أن الطيبات هي من جهة الطعم إلا أن اللفظة عنده ليست على عمومها بهذا الوجه من الطعم يقتضي تحليل الخمر والخنزير بل يراها مختصة فيما حلله الشرع ، ويرى «الخبائث » لفظاً عاماً في المحرمات بالشرع وفي المتقذرات فيحرم العقارب والخنافس والوزغ وما جرى هذا المجرى ، والناس على هذين القولين إلا أن في تعيين الخبائث اختلافاً ليس هذا موضع تقصيه .
وقوله تعالى : { ويضع عنهم إصرهم } الآية ، { يضع } كأن قياسه أن يكون «يضِع » بكسر الضاد لكن رده حرف الحلق إلى فتح الضاد ، قال أبو حاتم وأدغم أبو عمرو «ويضع عنهم » العين في العين وأشمها الرفع وأشبعها أبو جعفر وشيبة ونافع ، وطلحة ويذهب عنهم إصرهم ، و «الإصر » الثقل وبه فسر هنا قتادة وابن جبير ومجاهد ، و «الإصر » أيضاً العهد وبه فسر ابن عباس والضحاك والحسن وغيرهم ، وقد جمعت هذه الآية المعنيين فإن بني إسرائيل قد كان أخذ عليهم عهد أن يقوموا بأعمال ثقال فوضع عنهم بمحمد صلى الله عليه وسلم ذلك العهد وثقل تلك الأعمال ، وحكى أبو حاتم عن ابن جبير ، قال : «الإصر » شدة العبادة .
وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم وحمزة والكسائي والناس «إصرهم » وقرأ ابن عامر وحده وأيوب السختياني ويعلى بن حكيم وأبو سراج الهذلي وأبو جعفر «آصارهم » بالجمع لما كانت الأعمال كثيرة كانت أثقالها متغايرة ، ومن وحد الإصر فإنما هو مفرد اسم جنس يراد به الجمع ، قال أبو حاتم : في كتاب بعض العلماء «أصرهم » واحد مفتوح الهمزة عن نافع وعيسى والزيات وذلك غلط ، وذكرها مكي عن أبي بكر عن عاصم وقال : هي لغة .
{ والأغلال التي كانت عليهم } عبارة مستعارة أيضاً لتلك الأثقال كقطع الجلد من أثر البول ، وأن لا دية ولا بد من قتل للقاتل ، وترك الأشغال يوم السبت ، فإنه روي أن موسى عليه السلام رأى يوم السبت رجلاً يحمل قصباً فضرب عنقه ، هذا قول جمهور المفسرين ، وهذا مثل قولك طوق فلان كذا إذا ألزمه ، ومنه قول الشاعر : [ مجزوء الكامل ]
إذهب بها إذهب بها*** طوقتها طوق الحمامه
أي لزمك عارها ومن هذا المعنى قول الهذلي :
فليس كعهد الدار يا أم مالك*** ولكن أحاطت بالرقاب السلاسل
وعاد الفتى كالكهل ليس بقابل*** سوى الحق شيئاً فاستراح العواذل
يريد أوامر الإسلام ولوازم الإيمان الذي قيد الفتك كما قال صلى الله عليه وسلم ، وقال ابن زيد : إنما المراد هنا ب { الأغلال } قول الله عز وجل في اليهود { غلت أيديهم } فمن آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم زالت عنه الدعوة وتغليلها .
ثم أخبر تعالى عن حال المؤمنين فقال : { فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه } وقرأ الجحدري وسليمان التيمي وقتادة وعيسى «عزروه » بالتخفيف ، وجمهور الناس على التشديد في الزاي ، ومعناه في القراءتين وقروه ، والتعزير والنصر مشاهدة خاصة للصحابة ، واتباع النور يشترك فيه معهم المؤمنون إلى يوم القيامة ، و { النور } كناية عن جملة الشرع ، وقوله : { معه } فيه حذف مضاف والتقدير مع بعثه أو نبوته أو نحو هذا ، وشبه الشرع والهدى بالنور إذ القلوب تستضيء به كما يستضيء بالنور ، و { المفلحون } معناه الفائزون ببغيتهم ، وهذا يعم معاني الفلاح فإن من بقي فقد فاز ببغيته .