( ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطراً ورئاء الناس ويصدون عن سبيل الله ، والله بما يعملون محيط ) .
يبقى هذا التعليم ليحمي العصبة المؤمنة من أن تخرج للقتال متبطرة طاغية تتعاجب بقوتها ! وتستخدم نعمة القوة التي أعطاها الله لها في غير ما أرادها . . والعصبة المؤمنة إنما تخرج للقتال في سبيل الله ؛ تخرج لتقرير ألوهيته سبحانه في حياة البشر ، وتقرير عبودية العباد لله وحده . وتخرج لتحطيم الطواغيت التي تغتصب حق الله في تعبيد العباد له وحده ، والتي تزاول الألوهية في الأرض بمزاولتها للحاكمية - بغير إذن الله وشرعه - وتخرج لإعلان تحرير " الإنسان " في " الأرض " من كل عبودية لغير الله ، تستذل إنسانية الإنسان وكرامته . وتخرج لحماية حرمات الناس وكراماتهم وحرياتهم ، لا للاستعلاء على الناس واستعبادهم والتبطر بنعمة القوة باستخدامها هذا الإستخدام المنكر . وتخرج متجردة من حظ نفسها في المعركة جملة ، فلا يكون لها من النصر والغلب إلا تحقيق طاعة الله في تلبية أمره بالجهاد ؛ وفي إقامة منهجه في الحياة ؛ وفي إعلاء كلمته في الأرض ؛ وفي التماس فضله بعد ذلك ورضاه . . حتى الغنائم التي تخلفها المعركة فهي من فضل الله . .
ولقد كانت صورة الخروج بطراً ورئاء الناس وصدا عن سبيل الله حاضرة أمام العصبة المسلمة ؛ يرونها في خروج قريش بالصورة التي خرجت بها ؛ كما كانت صورة العاقبة لهذا الخروج حاضرة فيما أصاب قريشاً التي خرجت في ذلك اليوم بفخرها وعزها وكبريائها تحاد الله ورسوله : وعادت في آخر اليوم بالذل والخيبة والانكسار والهزيمة . . وكان الله سبحانه يذكر العصبة المسلمة بشيء حاضر له وقعه وله إيحاؤه :
( ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطراً ورئاء الناس ويصدون عن سبيل الله . والله بما يعملون محيط ) .
والبطر والمراءاة والصد عن سبيل الله تتجلى كلها في قولة أبي جهل ، وقد جاءه رسول أبي سفيان - بعد أن ساحل بالعير فنجت من رصد المسلمين - يطلب إليه الرجوع بالنفير ، إذ لم تعد بهم حاجة لقتال محمد وأصحابه . وكانت قريش قد خرجت بالقيان والدفوف يغنون وينحرون الجزر على مراحل الطريق . فقال أبو جهل : " لا والله لا نرجع حتى نرد بدراً ، فنقيم ثلاثاً ، ننحر الجزر ، ونطعم الطعام ، ونشرب الخمر ،
وتعزف القيان علينا ، فلن تزال العرب تهابنا أبداً " . . فلما عاد الرسول إلى أبي سفيان برد أبي جهل قال : " واقوماه ! هذا عمل عمرو بن هشام [ يعني أبا جهل ] كره أن يرجع ، لأنه ترأس على الناس فبغى ، والبغي منقصة وشؤم ، إن أصاب محمد النفير ذللنا " . . وصحت فراسة أبي سفيان ، وأصاب محمد [ ص ] النفير ؛ وذل المشركون بالبطر والبغي والرياء والصد عن سبيل الله ؛ وكانت بدر قاصمة الظهر لهم :
لا يفوته منهم شيء ، ولا يعجزه من قوتهم شيء ، وهو محيط بهم وبما يعملون .
يقول تعالى بعد أمره المؤمنين بالإخلاص في القتال في سبيله وكثرة ذكره ، ناهيًا لهم عن التشبه بالمشركين في خروجهم من ديارهم { بَطَرًا } أي : دفعا للحق ، { وَرِئَاءَ النَّاسِ } وهو : المفاخرة والتكبر عليهم ، كما قال أبو جهل - لما قيل له : إن العير قد نجا فارجعوا - فقال : لا والله لا نرجع حتى نرد ماء بدر ، وننحر الجُزُر ، ونشرب الخمر ، وتعزف{[13055]} علينا القيان ، وتتحدث العرب بمكاننا فيها يومنا أبدا ، فانعكس ذلك عليه أجمع ؛ لأنهم لما وردوا ماء بدر وردوا به الحمام ، ورُمُوا في أطواء بدر مهانين أذلاء ، صغرة أشقياء في عذاب سرمدي أبدي ؛ ولهذا قال : { وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ } أي : عالم بما جاءوا به وله ، ولهذا جازاهم على ذلك شر الجزاء لهم .
قال ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة ، والضحاك ، والسدي في قوله تعالى : { وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ } قالوا : هم المشركون ، الذين قاتلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر .
وقال محمد بن كعب : لما خرجت قريش من مكة إلى بدر ، خرجوا بالقيان والدفوف ، فأنزل الله{ وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ }
وقوله تعالى : { ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم } الآية ، آية تتضمن الطعن على المشار إليهم وهم كفار قريش ، وخرج ذلك على طريق النهي عن سلوك سبيلهم ، والإشارة هي إلى كفار قريش بإجماع ، و «البطر » الأشر وغمط النعمة والشغل بالمرح فيها عن شكرها ، و «الرياء » المباهاة والتصنع بما يراه غيرك ، وهو فعال من راءى يرائي سهلت همزته ، وروي أن أبا سفيان لما أحس أنه قد تجاوز بعيره الخوف من النبي صلى الله عليه وسلم ، وأصحابه بعث إلى قريش فقال : «إن الله قد سلم عيركم التي خرجتم إلى نصرتها فارجعوا سالمين قد بلغتم مرادكم » ، فأتى رأي الجماعة على ذلك ، فقال أبو جهل : والله لا نفعل حتى نأتي بدراً ، وكانت بدر سوقاً من أسواق العرب لها يوم موسم ، فننحر عليها الإبل ونشرب الخمر وتعزف علينا القيان ويسمع بنا العرب ويهابنا الناس .
قال القاضي أبو محمد : فهذا معنى قوله تعالى : { ورئاء الناس } ، ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «اللهم إن قريشاً أقبلت بفخرها وخيلائها تحادّك وتكذب رسولك ، اللهم فاحنها الغداة »{[5398]} ، وقال محمد بن كعب القرظي : خرجت قريش بالقيان والدفوف ، وقوله { ويصدون عن سبيل الله } ، أي غيرهم .
قال القاضي أبو محمد : لأنهم أحرى بذلك من أن يقتصر صدهم على أنفسهم ، وقوله { والله بما يعملون محيط } آية تتضمن الوعيد والتهديد لمن بقي من الكفار ونفوذ القدر فيمن مضى بالقتل .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.