ثم يمضي السياق القرآني يفضح موقف أهل الكتاب في مخالفتهم عن عهد الله معهم يوم آتاهم الكتاب . ونبذهم له . وكتمانهم لما ائتمنهم عليه منه ، حين يسألون عنه :
( وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب : لتبيننه للناس ولا تكتمونه . فنبذوه وراء ظهورهم ، واشتروا به ثمنا قليلا . فبئس ما يشترون ) !
وقد تضمن سياق السورة الكثير من أفاعيل أهل الكتاب وأقاويلهم - وبخاصة اليهود - وأبرز هذه الأفاعيل والأقاويل كتمانهم للحق الذي يعلمونه ، ولبسه بالباطل ، لإحداث البلبلة والاضطراب في مفهوم الدين ، وفي صحة الإسلام ، وفي وحدة الأسس والمبادىء بينه وبين الأديان قبله ، وفي تصديقه لها وتصديقها له . . وكانت التوراة بين أيديهم يعلمون منها أن ما جاء به محمد حق ؛ وأنه من ذات المصدر الذي جاءتهم منه التوارة . .
فالآن يبدو هذا الموقف منهم بشعا غاية البشاعة ؛ حين ينكشف أيضا أن الله - سبحانه - قد أخذ عليهم العهد - وهو يعطيهم الكتاب - أن يبينوه للناس ، ويبلغوه ، ولا يكتموه أو يخفوه . وأنهم نبذوا هذا العهد مع الله - والتعبير يجسم إهمالهم وإخلافهم للعهد ؛ فيمثله في حركة :
وأنهم فعلوا هذه الفعلة الفاضحة ، ابتغاء ثمن قليل :
هو عرض من أعراض هذه الأرض ، ومصلحة شخصية للأحبار أو قومية لليهود ! وكله ثمن قليل ، ولو كان ملك الأرض كلها طوال الدهور ! فما أقل هذا الثمن ثمنا لعهد الله ! وما أقل هذا المتاع متاعا حين يقاس بما عند الله !
هذا توبيخ من الله وتهديد لأهل الكتاب ، الذين أخَذ عليهم العهد على ألسنة الأنبياء أن يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم ، وأن ينوهوا بذكره في الناس ليكونوا{[6325]} على أهْبَة من أمره ، فإذا أرسله الله تابعوه ، فكتموا ذلك وتعوضوا عما وعدوا عليه من الخير في الدنيا والآخرة بالدون الطفيف ، والحظ الدنيوي السخيف ، فبئست الصفقة صفقتهم ، وبئست البيعة بيعتهم .
وفي هذا تَحْذير للعلماء أن يسلكوا مسلكهم فيصيبهم ما أصابهم ، ويُسْلكَ بهم مَسْلكهم ، فعلى العلماء أن يبذلوا ما بأيديهم من العلم النافع ، الدال على العمل الصالح ، ولا يكتموا{[6326]} منه شيئا ، فقد ورد في الحديث المروي من طرق متعددة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " من سُئِل عن عِلْم فكَتَمه ألْجِم يوم القيامة بِلجَامٍ من نار " .
{ وإذ أخذ الله } أي اذكر وقت أخذه . { ميثاق الذين أوتوا الكتاب } يريد به العلماء . { لتبيننه للناس ولا تكتمونه } حكاية لمخاطبتهم . وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم في رواية ابن عياش بالياء لأنهم غيب ، واللام جواب القسم الذي ناب عنه قوله : { أخذ الله ميثاق الذين } والضمير للكتاب . { فنبذوه } أي الميثاق . { وراء ظهورهم } فلم يراعوه ولم يتلفتوا إليه . والنبذ وراء الظهر مثل في ترك الاعتداد وعدم الالتفات ، ونقيضه جعله نصب عينيه وإلقاؤه بين عينيه . { واشتروا به } . وأخذوا بدله .
{ ثمنا قليلا } من حطام الدنيا وأعراضها . { فبئس ما يشترون } يختارون لأنفسهم ، وعن النبي صلى الله عليه وسلم " من كتم علما عن أهله ألجم بلجام من نار " . وعن علي رضي الله تعالى عنه ( ما أخذ الله على أهل الجهل أن يتعلموا حتى أخذ على أهل العلم أن يعلموا ) .
قوله تعالى : { وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب } الآية ، توبيخ لمعاصري النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم هو مع ذلك خبر عام لهم ولغيرهم . والعامل في { إذ } فعل مقدر تقديره اذكر ، وأخذ هذا الميثاق هو على ألسنة الأنبياء أمة بعد أمة ، وقال ابن عباس والسدي وابن جريج : الآية في اليهود خاصة ، أخذ الله عليهم الميثاق في أمر محمد فكتموه ونبذوه{[3765]} ، قال مسلم البطين{[3766]} : سأل الحجاج بن يوسف جلساءه عن تفسير هذه الآية فقام رجل إلى سعيد بن جبير فسأله فقال له : نزلت في يهود أخذ الميثاق عليهم في أمر محمد فكتموه ، وروي عن ابن عباس أنه قرأ «وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لتبيننه » فيجيء قوله { فنبذوه } عائداً على الناس الذين بين الأنبياء لهم ، وقال قوم من المفسرين : الآية في اليهود والنصارى ، وقال جمهور من العلماء : الآية عامة في كل من علمه الله علماً ، وعلماء هذه الأمة داخلون في هذا الميثاق ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( من سئل عن علم فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار ) {[3767]} ، وقد قال أبو هريرة : ( إني لأحدثكم حديثاً ، ولولا آية في كتاب الله ما حدثتكموه ثم تلا { إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب } ){[3768]} [ البقرة : 174 ] وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم في رواية أبي بكر : «ليبيننه للناس ولا يكتمونه » ، بالياء من أسفل فيهما ، وقرأ الباقون وحفص وعاصم بالتاء من فوق فيهما ، وكلا القراءتين متجه ، والضمير في الفصلين عائد على الكتاب ، وفي قراءة ابن مسعود «لتبينونه » دون النون الثقيلة ، وقد لا تلزم هذه النون لام القسم ، قاله سيبويه ، و «النبذ » الطرح ، وقوله تعالى : { وراء ظهورهم } ، استعارة لما يبالغ في اطراحه ، ومنه { واتخذتموه وراءكم ظهرياً }{[3769]} ومنه قول الفرزدق : [ الطويل ]
تَميم بْنَ مُرٍّ لا تَكُونَنَّ حاجتي . . . بظهرٍ فَلا يعيى عليَّ جَوابُها{[3770]}
ومنه بالمعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم : لا تجعلوني كقدح الراكب{[3771]} . أراد عليه السلام ، لا تجعلوا ذكري وطاعتي خلف أظهركم ، وهو موضع القدح ومنه قول حسان : [ الطويل ]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** كَمَا نِيطَ خلْفَ الراكِبِ الْقَدَحُ الْفَرْدُ {[3772]}
والتشبيه بالقدح إنما هو في هيئته لا في معناه ، لأن الراكب يحتاجه ، ومحله من محلات الراكب جليل ، والثمن القليل : هو مكسب الدنيا . وباقي الآية بين .
قال أبو محمد : والظاهر في هذه الآية أنها نزلت في اليهود ، وهم المعنيون ثم إن كل كاتم من هذه الأمة يأخذ بحظه من هذه المذمة ويتصف بها .