49- فإذا أصاب الإنسان ضر نادانا متضرعاً ، ثم إذا أعطيناه - تفضلا منا - نعمة قال هذا الإنسان : ما أوتيت هذه النعم إلا لعلم منى بوجوه كسبه ، وفات هذا الإنسان أن الأمر ليس كما قال ، بل هذه النعمة التي أنعم الله بها عليه اختبار له ليبين له الطائع من العاصي ، ولكن أكثر الناس لا يعلمون أنها اختبار وفتنة .
وبعد هذا المشهد المعترض لبيان حالهم يوم يرجعون إلى الله الذي به يشركون ، والذي تشمئز قلوبهم حين يذكر وحده ، وتستبشر حينما تذكر آلهتهم المدعاة . بعد هذا يعود إلى تصوير حالهم العجيب . فهم ينكرون وحدانية الله . فأما حين يصيبهم الضر فهم لا يتوجهون إلا له وحده ضارعين منيبين . حتى إذا تفضل عليهم وأنعم راحوا يتبجحون وينكرون :
( فإذا مس الإنسان ضر دعانا . ثم إذا خولناه نعمة منا ، قال : إنما أوتيته على علم . بل هي فتنة ولكن أكثرهم لا يعلمون ) . .
والآية تصور نموذجاً مكرراً للإنسان ، ما لم تهتد فطرته إلى الحق ، وترجع إلى ربها الواحد ، وتعرف الطريق إليه ، فلا تضل عنه في السراء والضراء .
إن الضر يسقط عن الفطرة ركام الأهواء والشهوات ، ويعريها من العوامل المصطنعة التي تحجب عنها الحق الكامن فيها وفي ضمير هذا الوجود . فعندئذ ترى الله وتعرفه وتتجه إليه وحده . حتى إذا مرت الشدة وجاء الرخاء ، نسي هذا الإنسان ما قاله في الضراء ، وانحرفت فطرته بتأثير الأهواء . وقال عن النعمة والرزق والفضل : ( إنما أوتيته على علم ) . . قالها قارون ، وقالها كل مخدوع بعلم أو صنعة أو حيلة يعلل بها ما اتفق له من مال أو سلطان . غافلاً عن مصدر النعمة ، وواهب العلم والقدرة ، ومسبب الأسباب ، ومقدر الأرزاق .
( بل هي فتنة . ولكن أكثرهم لا يعلمون ) . .
هي فتنة للاختبار والامتحان . ليتبين إن كان سيشكر أو سيكفر ؛ وإن كان سيصلح بها أم سيفسد ؛ وإن كان سيعرف الطريق أم يجنح إلى الضلال .
والقرآن - رحمة بالعباد - يكشف لهم عن السر ، وينبههم إلى الخطر ، ويحذرهم الفتنة . فلا حجة لهم ولا عذر بعد هذا البيان .
وهو يلمس قلوبهم بعرض مصارع الغابرين قبلهم . مصارعهم بمثل هذه الكلمة الضالة التي يقولها قائلهم : ( إنما أوتيته على علم ) . .
يقول تعالى مخبرا عن{[25175]} الإنسان أنه في حال الضراء يَضْرَع إلى الله ، عز وجل ، وينيب إليه ويدعوه ، وإذا{[25176]} خوله منه نعمة بغى وطغى ، وقال : { إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ } أي : لما يعلم الله من استحقاقي له ، ولولا أني عند الله تعالى خصيص لما خَوَّلني هذا !
قال قتادة : { عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي } على خيرٍ عندي .
قال الله عز وجل : { بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ } أي : ليس الأمر كما زعموا ، بل [ إنما ]{[25177]} أنعمنا عليه بهذه النعمة لنختبره فيما أنعمنا عليه ، أيطيع أم يعصي ؟ مع علمنا المتقدم بذلك ، فهي فتنة أي : اختبار ، { وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ } فلهذا يقولون ما يقولون ، ويدعون ما يدعون .
القول في تأويل قوله تعالى : { فَإِذَا مَسّ الإِنسَانَ ضُرّ دَعَانَا ثُمّ إِذَا خَوّلْنَاهُ نِعْمَةً مّنّا قَالَ إِنّمَآ أُوتِيتُهُ عَلَىَ عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلََكِنّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } .
يقول تعالى ذكره : فإذا أصاب الإنسان بؤس وشدّة دعانا مستغيثا بنا من جهة ما أصابه من الضرّ ، ثُمّ إذَا خَوّلْناهُ نِعْمَةً مِنّا يقول : ثم إذا أعطيناه فرجا مما كان فيه من الضرّ ، بأن أبدلناه بالضرّ رخاء وسعة ، وبالسقم صحة وعافية ، فقال : إنما أعطيت الذي أعطيت من الرخاء والسعة في المعيشة ، والصحة في البدن والعافية ، على علم عندي ، يعني على علم من الله بأني له أهل لشرفي ورضاه بعملي ( عندي ) يعني : فيما عندي ، كما يقال : أنت محسن في هذا الأمر عندي : أي فيما أظنّ وأحسب . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ثُمّ إذَا خَوّلْناهُ نِعْمَةً مِنّا حتى بلغ عَلى عِلْمِ عندي : أي على خير عندي .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : إذَا خَوّلْناهُ نِعْمَةً مِنّا قال : أعطيناه .
وقوله : أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ : أي على شرف أعطانيه .
وقوله : بَلْ هَيَ فِتْنَةٌ يقول تعالى ذكره : بل عطيتنا إياهم تلك النعمة من بعد الضرّ الذي كانوا فيه فتنة لهم يعني بلاء ابتليناهم به ، واختبارا اختبرناهم به وَلَكِنّ أكْثَرَهُمْ لجهلهم ، وسوء رأيهم لا يَعْلَمُونَ لأي سبب أعطوا ذلك . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ : أي بلاء .
الفاء لتفريع هذا الكلام على قوله : { وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة } [ الزمر : 45 ] الآية وما بينهما اعتراض مسلسل بعضه مع بعض للمناسبات .
وتفريع ما بعد الفاء على ما ذكرناه تفريع وصف بعض من غرائب أحوالهم على بعض ، وهل أغرب من فزعهم إلى الله وحْده بالدعاء إذا مسهم الضر وقد كانوا يشمئزّون من ذكر اسمه وحده فهذا تناقض من أفعالهم وتعكيس ، فإنه تسببُ حديثثٍ على حديثثٍ وليس تسبباً على الوجود . وهذه النكتة هي الفارقة بين العطف بالفاء هنا وعطف نظيرها بالواو في قوله أول السورة { وإذا مس الإنسان ضر دعا ربه منيباً إليه } [ الزمر : 8 ] . والمقصود بالتفريع هو قوله : { فإذا مَسَّ الإنسان ضُرٌ دعانا } ، وأما ما بعده فتتميم واستطراد .
وقد تقدم القول في نظير صدر هذه الآية في قوله : { وإذا مسّ الإِنسان ضرّ دعا ربه منيباً إليه ثم إذا خوّله نعمة منه نسي } [ الزمر : 8 ] الآية . وأن المراد بالإِنسان كل مشرك فالتعريف تعريف الجنس ، والمرادُ جماعةٌ من الناس وهم أهل الشرك فهو للاستغراق العرفي . والمخالفة بين الآيتين تفنن ولئلا تخلو إعادة الآية من فائدة زائدة كما هو عادة القرآن في القصص المكررة .
وقوله : { إنما أوتيته على علم إنَّمَا } فيه هي الكلمة المركبة من ( إنّ ) الكافة التي تصير كلمة تدل على الحصر بمنزلة ( مَا ) النافية التي بعدها ( إلاّ ) الاستثنائية . والمعنى : ما أوتيت الذي أوتيتُه من نعمة إلا لعلم منيّ بطرق اكتسابه . وتركيز ضمير الغائب في قوله : { أوتيته } عائد إلى { نِعْمَة } على تأويل حكاية مقالتهم بأنها صادرة منهم في حال حضور ما بين أيديهم من أنواع النعم فهو من عود الضمير إلى ذات مشاهدة ، فالضمير بمنزلة اسم الإِشارة كقوله تعالى : { بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم } [ الأحقاف : 24 ] .
ومعنى { قال إنما أوتيته على علم } اعتقَد ذلك فجرى في أقواله إذ القولُ على وفق الاعتقاد . و { عَلى } للتعليل ، أي لأجل عِلممٍ ، أي بسبب علم . وخولف بين هذه الآية وبين آية سورة [ القصص : 78 ] في قوله : { على علم عندي } فلم يذكر هنا عندي لأن المراد بالعلم هنا مجرد الفطْنة والتدبير ، وأريد هنالك علم صَوغ الذهب والفضة والكيمياء التي اكتسب بها قارون من معرفة تدابيرها مالاً عظيماً ، وهو علم خاص به ، وأما مَا هنا فهو العلم الذي يوجد في جميع أهل الرأي والتدبير
والمراد : العِلم بطرق الكسب ودفع الضرّ كمثل حِيَل النوتيّ في هول البحر . والمعنى : أنه يقول ذلك إذا ذكَّره بنعمة الله عليه الرسولُ أو أحدُ المؤمنين ، وبذلك يظهر موقع صيغة الحصر لأنه قصد قلب كلام من يقول له إن ذلك من رحمة الله به .
و بل } للإِضراب الإِبطالي وهو إبطال لزعمهم أنهم أوتوا ذلك بسبب علمهم وتدبيرهم ، أي بل إن الرحمة التي أوتوها إنما آتاهم الله إياها ليظهر للأمم مقدار شكرهم ، أي هي دالّة على حالة فيهم تشبه حالة الاختبار لمقدار علمهم بالله وشكرهم إياه لأن الرحمة والنعمة بها أثر في المنع عليه إمّا شاكراً وإمّا كفوراً والله عالم بهم وغنيّ عن اختبارهم .
وضمير { هِيَ } عائد إلى القول المستفاد من { قال } على طريقة إعادة الضمير على المصدر المأخوذ من فعل نحو { اعدلوا هو أقرب للتقوى } [ المائدة : 8 ] ، وإنما أُنّث ضميره باعتبار الإِخبار عنه بلفظ فتنة } ، أو على تأويل القول بالكلمة كقوله تعالى : { كلا إنها كلمة هو قائلها } [ المؤمنون : 100 ] بعد قوله : { قال رب ارجعون لعلي أعمل صالحاً فيما تركت } [ المؤمنون : 99 ، 100 ] والمراد : أن ذلك القول سبب فتنة أو مسبب عن فتنة في نفوسهم . ويجوز أن يكون الضمير عائداً إلى { نِعْمَة } .
والاستدراك بقوله تعالى : { ولكن أكثرهم لا يعلمون } ناشىء عن مضمون جملة { إذا خولناه نعمة منا قال إنما أوتيته على علم } ، أي لكن لا يعلم أكثر الناس ومنهم القائلون ، أنهم في فتنة بما أُوتوا من نعمة إذا كانوا مثل هؤلاء القائلين الزاعمين أن ما هم فيه من خير نتيجةُ مساعيهم وحيلهم .
وضمير { أكثرهم } عائد إلى معلوم من المقام غير مذكور في الكلام إذ لم يتقدم ما يناسب أن يكون له معاداً ، والمراد به الناس ، أي لكن أكثر الناس لا يعلمون أن بعض ما أوتوه من النعمة في الدنيا يكون لهم فتنة بحسب ما يتلقونها به من قلة الشكر وما يفضي إلى الكفر ، فدخل في هذا الأكثر جميع المشركين الذين يقول كل واحد منهم : إنما أوتيته على علم .