الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري - الزمخشري  
{فَإِذَا مَسَّ ٱلۡإِنسَٰنَ ضُرّٞ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلۡنَٰهُ نِعۡمَةٗ مِّنَّا قَالَ إِنَّمَآ أُوتِيتُهُۥ عَلَىٰ عِلۡمِۭۚ بَلۡ هِيَ فِتۡنَةٞ وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَهُمۡ لَا يَعۡلَمُونَ} (49)

التخويل : مختص بالتفضل . ويقال : خولني ، إذا أعطاك على غير جزاء { على عِلْمٍ } أي على علم مني أني سأعطاه ، لما فيّ من فضل واستحقاق . أو على علم من الله بي وباستحقاقي أو على علم مني بوجوه الكسب ، كما قال قارون : { على علم عندي } [ القصص : 78 ] .

فإن قلت : لم ذكر الضمير في { أُوتِيتُهُ } وهو للنعمة ؟ قلت : ذهاباً به إلى المعنى ؛ لأنّ قوله : { نِعْمَةً مّنَّا } شيئاً من النعم وقسماً منها . ويحتمل أن تكون ( ما ) في إنما موصولة لا كافة ، فيرجع إليها المضير . على معنى : أن الذي أوتيته على علم { بَلْ هِىَ فِتْنَةٌ } إنكار لقوله كأنه قال : ما خوّلناك من خولناك من النعمة لما تقول ، بل هي فتنة ، أي : ابتلاء وامتحان لك ، أتشكر أم تكفر ؟

فإن قلت : كيف ذكر الضمير ثم أنثه ؟ قلت : حملاً على المعنى أوّلاً ، وعلى اللفظ آخراً ؛ ولأنّ الخبر لما كان مؤنثاً أعني { فِتْنَةً } : ساغ تأنيث المبتدأ لأجله لأنه في معناه ، كقولهم : ما جاءت حاجتك . وقرىء : «بل هو فتنة »على وفق { إِنَّمَا أُوتِيتُهُ } .

فإن قلت : ما السبب في عطف هذه الآية بالفاء وعطف مثلها في أوّل السورة بالواو ؟ قلت : السبب في ذلك أنّ هذه وقعت مسببة عن قوله : { وَإِذَا ذُكِرَ الله وَحْدَهُ اشمأزت } [ الزمر : 45 ] على معنى أنهم يشمئزون عن ذكر الله ويستبشرون بذكر الآلهة ، فإذا مسّ أحدهم ضرّ دعا من اشمأزّ من ذكره ، دون من استبشر بذكره ، وما بينهما من الآي اعتراض .

فإن قلت : حق الاعتراض أن يؤكد المعترض بينه وبينه . قلت : ما في الاعتراض من دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ربه بأمر منه وقوله : أَنتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عبادك ثم ما عقبه من الوعيد العظيم : تأكيد لإنكار اشمئزازهم واستبشارهم ورجوعهم إلى الله في الشدائد دون آلهتهم ، كأنه قيل : يا رب لا يحكم بيني وبين هؤلاء الذين يجترئون عليك مثل هذه الجراءة ، ويرتكبون مثل هذا المنكر إلا أنت . وقوله : { وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ } [ الزمر : 47 ] متناول لهم ولكل ظالم إن جعل مطلقاً ، وإياهم خاصة إن عنيتهم به ، كأنه قيل : ولو أنّ لهؤلاء الظالمين ما في الأرض جميعاً ومثله معه لافتدوا به . حين أحكم عليهم بسوء العذاب ، وهذه الأسرار والنكت لا يبرزها إلا علم النظم ، وإلا بقيت محتجبة في أكمامها . وأما الآية الأولى فلم تقع مسببة وما هي إلاّ جملة ناسبت جملة قبلها فعطفت عليها بالواو ، كقولك : قام زيد وقعد عمرو .

فإن قلت : من أي وجه وقعت مسببة ؟ والاشمئزاز عن ذكر الله ليس بمقتض لالتجائهم إليه ، بل هو مقتض لصدوفهم عنه . قلت : في هذا التسبيب لطف ، وبيانه أنك تقول : زيد مؤمن بالله ، فإذا مسّه ضرّ التجأ إليه ، فهذا تسبيب ظاهر لا لبس فيه ، ثم تقول : زيد كافر بالله ، فإذا مسّه ضرّ التجأ إليه ، فتجيء بالفاء مجيئك به ثمة ، كأنّ الكافر حين التجأ إلى الله التجاء المؤمن إليه ، مقيم كفره مقام الإيمان ، ومجريه مجراه في جعله سبباً في الالتجاء ، فأنت تحكي ما عكس فيه الكافر . ألا ترى أنك تقصد بهذا الكلام الإنكار والتعجب من فعله . ؟