اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{فَإِذَا مَسَّ ٱلۡإِنسَٰنَ ضُرّٞ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلۡنَٰهُ نِعۡمَةٗ مِّنَّا قَالَ إِنَّمَآ أُوتِيتُهُۥ عَلَىٰ عِلۡمِۭۚ بَلۡ هِيَ فِتۡنَةٞ وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَهُمۡ لَا يَعۡلَمُونَ} (49)

قوله : { فَإِذَا مَسَّ الإنسان ضُرٌّ دَعَانَا . . . } الآية . وهذه حكاية طريقة أخرى من طرائقهم الفاسدة وهي أنهم عند الوقوع في الضر الذي هو الفَقْر والمَرَضُ يفزعون إلى الله تعالى ويرون أن دفع ذلك البلاء لا يكون إلا منه ، ثم إنه تعالى إذا خَوَّله أعطاه نعمة يقول : إنما أوتيته على علم أي علم من الله أني أهل له .

وقيل : إنْ كان ذلك سعادة{[47538]} في الحال أو عافية في النفس يقول إنما حصل له ذلك بجدِّه واجتهاده ، وإن كان مالاً يقول : إنما أوتيته بكسبي وإن كان صحة قال : إنما حصل بسبب العلاج الفلاني ، وهذا تناقض عظيم ، لأنه لما كان عاجزاً محتاجاً أضاف الكل إلى الله وفي حال السلامة والصحة قطعه من الله وأسنده إلى كسب نفسه وهذا تناقض قبيح{[47539]} .

قوله : { إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ } يجوز أن تكون ( ما ) مهيئة زائدة على نحو : إنما قام زيدٌ ، وأن تكون موصولة ، والضمير عائد عليها من «أوتيته » أي إن الذي أوتيته على علم مني ، أو على علم من الله في أني{[47540]} أستحق ذلك .

قوله : «بَلْ هِيَ » الضمير للنعمة ذكرها أولاً في قوله : «إنما أوتيته » لأنها بمعنى الإنعام ، وقيل : تقديره «شيئاً » . وأنَّث هنا اعتبارا بلفظها ، وقيل : بل الحالة أو الإتيانة{[47541]} ، وإنما عظمت هذه الجملة وهي قوله : { فَإِذَا مَسَّ الإنسان } بالفاء والتي في أول السورة بالواو لأن هذه مسببة عن قوله : «وَإذَا ذُكِرَ » أي يشمئزون من ذكر الله ويستبشرون بذكر آلهتهم فإذا مس أحدهم بخلاف الأولى حيث لا تسبب فيها ، فجيء بالواو التي لمطلق العطف وعلى هذا فما بين السبب والمسبب جمل اعتراضية . قال معناه الزمخشري{[47542]} . واستبعده أبو حيان من حيث إن أبا عليّ يمنع الاعتراض بجملتين فكيف بهذه الجمل الكثيرة ؟{[47543]} .

ثم قال : «والذي يظهر في الربْط أنه لما قال : { وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ . . . . . } الآية كان ذلك إشعاراً بما ينال الظالمين من شدة العذاب وأنه يظهر لهم القيامة من العذاب{[47544]} أتبع ذلك بما يدل على ظلمه وبغيه إذ كان إذا مسه ضر دعا الله فإذا أحسن إليه لم ينسب ذلك إليه »{[47545]} . وقال ابن الخطيب : إن السبب في عطف هذه الآية بالفاء أنه تعالى حكى عنهم قبل هذه الآية أنهم يَشمَئِزُّون من سماع التوحيد ، ويستبشرون بسماع ذكر الشركاء ، ثم ذكر «بفاء » التعقيب أنهم إذا وَقَعُوا{[47546]} في الضرر والبلاء التَجأُوا{[47547]} إلى الله وحده ، فكان الفعل الأول مناقضاً للفعل الثاني ، فذكر بفاء التَّعْقِيب ليدل به على أنهم واقعون في المناقضة الصريحة في الحال وأنه ليس بين الأول والثاني فاصل{[47548]} مع أن كل واحد منهما مناقض للثاني ، فهذا فائدةُ ذكرِ فاء التعقيب ههنا وأما الآية الأولى فليس المقصودُ منها بيانَ وقوعهم في التناقض في الحال فلا جرم ذكره تعالى بحرف الواو لا بحرف الفاء{[47549]} .

ومعنى قوله : { فِتْنَةٌ } استدراجٌ من الله تعالى وامتحان .


[47538]:في الرازي سعة.
[47539]:مع تصرف من المؤلف في عبارة الرازي 26/287، 288. والتخويل مختص بالتفضل يقال: خولني إذا أعطاك على غير جزاء الكشاف 3/401، 402 ومعاني القرآن وإعرابه 4/357.
[47540]:في الدر المصون: في أي أستحق ذلك. وهذان الوجهان قال بهما الزمخشري في الكشاف 3/402 والسمين في الدر 4/656. واختار أبو حيان الوجه الأول قال: "والظاهر أن (ما) في أنها كافة مهيئة لدخول أن على الجملة الفعلية" البحر 7/433.
[47541]:اسم مرة من غير ثلاثي وانظر هذه الأقوال في المراجع السوابق.
[47542]:في الكشاف المرجع السابق وذكره أبو حيان وعقب عله كما سيأتي كما ذكره صاحب الدر المصون 4/656 وهو ما ذكره المؤلف أعلى.
[47543]:قال أبو حيان معقبا على هذا العطف وهو ملتقط أكثره من كلام الزمخشري وهو متكلف.
[47544]:في البحر بعذه "ما لم يكن في حسبانهم".
[47545]:البحر المحيط 7/433.
[47546]:في الرازي: وقعوا في الضر بدل الضرر.
[47547]:وفيه: والتجأو بالواو.
[47548]:في أ: فاصلة.
[47549]:مع تصرف بسيط في مقولته تلك انظر الفخر الرازي 26/288.