( ونقلب أفئدتهم وأبصارهم ، كما لم يؤمنوا به أول مرة ، ونذرهم في طغيانهم يعمهون . ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة ، وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلا ما كانوا ليؤمنوا - إلا أن يشاء الله - ولكن أكثرهم يجهلون ) . .
إن القلب الذي لا يؤمن بآيات الله المبثوثة في هذا الوجود - بعد توجيهه إليها على هذا النحو العجيب الذي تكفل به هذا الكتاب العجيب - ولا توحي آيات الله المبثوثة في الأنفس والآفاق إليه أن يبادر إلى ربه ، ويثوب إلى كنفه . . إن هذاالقلب هو قلب مقلوب . . والذي عاق هؤلاء عن الإيمان في أول الأمر ، ما الذي يدري المسلمين الذين يقترحون إجابة طلبهم ، أن يعوقهم عن الإيمان بعد ظهور الخارقة ؟ إن الله هو الذي يعلم حقيقة هذه القلوب . . وهو يذر المكذبين في طغيانهم يعمهون ، لأنه يعلم منهم أنهم يستحقون جزاء التكذيب ؛ كما يعلم عنهم أنهم لا يستجيبون . . لا يستجيبون ولو نزل إليهم الملائكة كما يقترحون ! ولو بعث لهم الموتى يكلمونهم - كما اقترحوا كذلك ! - ولو حشر الله عليهم كل شيء في هذا الوجود يواجههم ويدعوهم إلى الإيمان ! . . إنهم لا يؤمنون - إلا أن يشاء الله - والله سبحانه لا يشاء ، لأنهم هم لا يجاهدون في الله ليهديهم الله إليه . . وهذه هي الحقيقة التي يجهلها أكثر الناس عن طبائع القلوب . .
إنه ليس الذي ينقص الذين يلجون في الضلال أنه لا توجد أمامهم دلائل وبراهين . . إنما الذي ينقصهم آفة في القلب ، وعطل في الفطرة ، وانطماس في الضمير . .
وإن الهدى جزاء لا يستحقه إلا الذين يتجهون إليه ، والذين يجاهدون فيه . .
وقوله تعالى : { وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ } قال العَوفي عن ابن عباس في هذه الآية : لما جحد المشركون ما أنزل الله لم تثبت قلوبهم على شيء ورُدَّت عن كل أمر .
وقال مجاهد : { وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ [ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ ] }{[11052]} ونحول بينهم وبين الإيمان ولو جاءتهم كل آية ، فلا يؤمنون ، كما حلنا بينهم وبين الإيمان أول مرة .
وكذا قال عِكْرِمة وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم .
وقال ابن أبي طلحة ، عن ابن عباس أنه قال : أخبر الله ما العباد قائلون قبل أن يقولوه وعملهم قبل أن يعملوه . قال : { وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ } [ فاطر : 14 ] ، [ وقال ]{[11053]}
{ أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ [ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ . أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ . أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ ]{[11054]} لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ } [ الزمر : 56 - 58 ] فأخبر سبحانه أنهم لو ردوا لم يقدروا على الهدى ، وقال : { وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } [ الأنعام : 28 ] ، وقال { وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ } قال : لو ردوا إلى الدنيا لحيل بينهم وبين الهدى ، كما حلنا بينهم وبينه أول مرة وهم في الدنيا . وقوله : { وَنَذَرُهُمْ } أي : نتركهم { فِي طُغْيَانِهِمْ }{[11055]} قال ابن عباس والسُّدِّي : في كفرهم . وقال أبو العالية والربيع بن أنس وقتادة : في ضلالهم .
{ يَعْمَهُونَ } قال الأعمش : يلعبون . وقال ابن عباس ، ومجاهد ، وأبو العالية ، والربيع ، وأبو مالك ، وغيره : في كفرهم يترددون .
{ وَنُقَلّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوّلَ مَرّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } .
قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم : معنى ذلك : لو أنا جئناهم بآية كما سألوا ما آمنوا كما لم يؤمنوا بما قبلها أوّل مرّة ، لأن الله حال بينهم وبين ذلك . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : وَنُقَلّبُ أفْئِدَتَهُمْ وأبْصَارَهُمْ كما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أوّلَ مَرّة . . . الاَية ، قال : لما جحد المشركون ما أنزل الله لم تثبت قلوبهم على شيء ورُدّت عن كلّ أمر .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَنُقَلّبُ أفْئِدَتَهُمْ وأبْصَارَهُمْ قال : نمنعهم من ذلك كما فعلنا بهم أوّل مرّة . وقرأ : كما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أوّلَ مَرّة .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد : وَنُقَلّبُ أفْئِدَتَهُمْ وأبْصَارَهُمْ قال : نحول بينهم وبين الإيمان ، ولو جاءتهم كل آية فلا يؤمنون ، كما حلنا بينهم وبين الإيمان أوّل مرّة .
وقال آخرون : معنى ذلك : ونقلب أفئدتهم وأبصارهم لو ردّوا من الاَخرة إلى الدنيا ، فلا يؤمنون كما فعلنا بهم ذلك ، فلم يؤمنوا في الدنيا . قالوا : وذلك نظير قوله : وَلَوْ رُدّوا لعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قال : أخبر الله سبحانه ما العباد قائلون قبل أن يقولوه وعملهم قبل أن يعملوه ، قال : وَلا يُنَبّئُكَ مِثْلَ خَبِير : إنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتا على ما فَرّطْتُ فِي جَنْبِ اللّهِ وَإنْ كنْتُ لَمِنَ السّاخِرِينَ أوُ تَقُولَ لَوْ أنّ اللّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ المُتّقِينَ أوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى العَذَابَ لَوْ أنّ لي كَرّةً فأكُونَ مِنَ المُحْسِنينَ يقول : من المهتدين . فأخبر الله سبحانه ، أنهم لو ردّوا لعادوا لما نهوا عنه ، وإنهم لكاذبون ، وقال : وَنُقَلّبُ أفْئِدَتَهُمْ وأبْصَارَهُمْ كما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أوّلَ مَرّة قال : لو ردوا إلى الدنيا لحيل بينهم وبين الهدى ، كما حلنا بينهم وبينه أوّل مرّة وهم في الدنيا .
وأولى التأويلات في ذلك عندي بالصواب أن يقال : إن الله جلّ ثناؤه أخبر عن هؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمننّ بها ، أنه يقلب أفئدتهم وأبصارهم ويصرّفها كيف شاء ، وأن ذلك بيده يقيمه إذا شاء ويزيغه إذا أراد ، وأنّ قوله : كما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أوّلَ مَرّة دليل على محذوف من الكلام ، وأن قوله «كما » تشبيه ما بعده بشيء قبله . وإذ كان ذلك كذلك ، فالواجب أن يكون معنى الكلام : ونقلب أفئدتهم فنزيغها عن الإيمان ، وأبصارهم عن رؤية الحقّ ومعرفة موضع الحجة ، وإن جاءتهم الاَية التي سألوها فلا يؤمنوا بالله ورسوله وما جاء به من عند الله كما لم يؤمنوا بتقليبنا إياها قبل مجيئها مرّة قبل ذلك . وإذا كان ذلك تأويله كانت الهاء من قوله : كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ كناية ذكر التقليب .
القول في تأويل قوله تعالى : وَنَذَرُهُمْ فِي طُغيانِهِمْ يَعْمَهُونَ .
يقول تعالى ذكره : ونذر هؤلاء المشركين الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمننّ بها عند مجيئها في تمرّدهم على الله واعتدائهم في حدوده ، يتردّدون لا يهتدون لحقّ ولا يبصرون صواباً ، قد غلب عليهم الخذلان واستحوذ عليهم الشيطان .
وقوله تعالى : { ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا } المعنى على ما قالت فرقة ونقلب أفئدتهم وأبصارهم في النار وفي لهيبها في الآخرة لما لم يؤمنوا في الدنيا ثم استأنف على هذا ونذرهم في الدنيا { في طغيانهم يعمهون }{[5057]} .
وقالت فرقة إنما المراد بالتقليب التحويل عن الحق والهدى ، والترك في الضلالة والكفر ، ومعنى الآية أن هؤلاء الذين أقسموا أنهم يؤمنون إن جاءت آية نحن نقلب أفئدتهم وأبصارهم أن لو جاءت فلا يؤمنون بها كما لم يؤمنوا أول مرة بما دعوا إليه من عبادة الله ، فأخبر الله تعالى على هذا التأويل بصورة فعله بهم{[5058]} ، وقرأ أبو رجاء «يذرهم » بالياء ورويت عن عاصم ، وقرأ إبراهيم النخعي [ ويقلب ] [ ويذرهم ] بالياء فيهما كناية عن الله تبارك وتعالى ، وقرأ أيضاً فيما روى عنه مغيرة «وتَقلَب » بفتح التاء واللام بمعنى وتنقلب أفئدتهم وأبصارهم بالرفع فيهما{[5059]} ، «ويذرْهم » بالياء وجزم الراء ، وقالت فرقة قوله { كما } في هذه الآية إنما هي بمعنى المجازاة أي لما لم يؤمنوا أول مرة نجازيهم بأن نقلب أفئدتهم عن الهدى ونطبع على قلوبهم فكأنه قال ونحن نقلب أفئدتهم وأبصارهم جزاء لما لم يؤمنوا أول مرة بما دعوا إليه من الشرع ، والضمير في «به » يحتمل أن يعود على الله عز وجل أو على القرآن أو على النبي عليه السلام ، و { نذرهم } معناه نتركهم ، وقرأ الأعمش والهمداني «ويذرهم » بالياء وجزم الراء على وجه التخفيف ، والطغيان : التخبط في الشر والإفراط فيما يتناوله المرء ، والعمى التردد والحيرة .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ونقلب أفئدتهم وأبصارهم} عن الإيمان، {كما لم يؤمنوا به أول مرة}، يقول: كما لم يؤمن بها أوائلهم من الأمم الخالية بما سألوا من الآيات قبلها، فكذلك كفار أهل مكة لا يصدقون بها إن جاءتهم آية، ثم قال: {ونذرهم في طغيانهم يعمهون}، يعني في ضلالتهم يترددون، لا نخرجهم منها أبدا.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك؛
فقال بعضهم: معنى ذلك: لو أنا جئناهم بآية كما سألوا ما آمنوا كما لم يؤمنوا بما قبلها أوّل مرّة، لأن الله حال بينهم وبين ذلك... عن ابن عباس، قوله:"وَنُقَلّبُ أفْئِدَتَهُمْ وأبْصَارَهُمْ كما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أوّلَ مَرّة" قال: لما جحد المشركون ما أنزل الله لم تثبت قلوبهم على شيء ورُدّت عن كلّ أمر.
وقال آخرون: معنى ذلك: ونقلب أفئدتهم وأبصارهم لو ردّوا من الآخرة إلى الدنيا، فلا يؤمنون كما فعلنا بهم ذلك، فلم يؤمنوا في الدنيا. قالوا: وذلك نظير قوله: وَلَوْ رُدّوا لعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ... وأولى التأويلات في ذلك عندي بالصواب أن يقال: إن الله جلّ ثناؤه أخبر عن هؤلاء الذين "أقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمننّ بها"، أنه يقلب أفئدتهم وأبصارهم ويصرّفها كيف شاء، وأن ذلك بيده يقيمه إذا شاء ويزيغه إذا أراد، وأنّ قوله: "كما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أوّلَ مَرّة "دليل على محذوف من الكلام، وأن قوله «كما» تشبيه ما بعده بشيء قبله. وإذ كان ذلك كذلك، فالواجب أن يكون معنى الكلام: ونقلب أفئدتهم فنزيغها عن الإيمان، وأبصارهم عن رؤية الحقّ ومعرفة موضع الحجة، وإن جاءتهم الآية التي سألوها فلا يؤمنوا بالله ورسوله وما جاء به من عند الله كما لم يؤمنوا بتقليبنا إياها قبل مجيئها مرّة قبل ذلك. وإذا كان ذلك تأويله كانت الهاء من قوله: "كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ" كناية ذكر التقليب.
"وَنَذَرُهُمْ فِي طُغيانِهِمْ يَعْمَهُونَ" يقول تعالى ذكره: ونذر هؤلاء المشركين الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمننّ بها عند مجيئها في تمرّدهم على الله واعتدائهم في حدوده، يتردّدون لا يهتدون لحقّ ولا يبصرون صواباً، قد غلب عليهم الخذلان واستحوذ عليهم الشيطان.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{ونقلب أفئدتهم وأبصارهم} أي نقلب أفئدتهم وأبصارهم بالحجج والآيات، ونرددها، فلا يؤمنون {كما لم يؤمنوا به أول مرة}... ثم تخصيص الأفئدة والأبصار دون غيرها من الجوارح لأن القلب والبصر لا يقع إلا على ما يشهد كل على وحدانية الله وألوهيته...
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
{وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُم وَأَبْصَارَهُم كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} وهذا من الله عقوبة لهم، وفيها ثلاثة أقاويل: أحدها: أنها عقوبة من الله في الآخرة يقلبها في النار. والثاني: في الدنيا بالحيرة حتى يزعج النفس ويغمها...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ...
وَنَذَرُهُمْ} عطف على (يؤمنون)، داخل في حكم وما يشعركم، بمعنى: وما يشعركم أنهم لا يؤمنون، وما يشعركم أنّا نقلب أفئدتهم وأبصارهم: أي نطبع على قلوبهم وأبصارهم فلا يفقهون ولا يبصرون الحق كما كانوا عند نزول آياتنا، أو لا يؤمنون بها لكونهم مطبوعاً على قلوبهم، وما يشعركم أنا نذرهم في طغيانهم أي نخليهم وشأنهم لا نكفهم عن الطغيان حتى يعمهوا فيه.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
...ومعنى الآية أن هؤلاء الذين أقسموا أنهم يؤمنون إن جاءت آية نحن نقلب أفئدتهم وأبصارهم أن لو جاءت فلا يؤمنون بها كما لم يؤمنوا أول مرة بما دعوا إليه من عبادة الله، فأخبر الله تعالى على هذا التأويل بصورة فعله بهم... وقالت فرقة قوله {كما} في هذه الآية إنما هي بمعنى المجازاة أي: لما لم يؤمنوا أول مرة نجازيهم بأن نقلب أفئدتهم عن الهدى ونطبع على قلوبهم فكأنه قال ونحن نقلب أفئدتهم وأبصارهم جزاء لما لم يؤمنوا أول مرة بما دعوا إليه من الشرع، والضمير في «به» يحتمل أن يعود على الله عز وجل أو على القرآن أو على النبي عليه السلام، و {نذرهم} معناه نتركهم...والطغيان: التخبط في الشر والإفراط فيما يتناوله المرء، والعمى التردد والحيرة.
... {ونقلب أفئدتهم وأبصارهم}...وإنما قدم الله تعالى ذكر تقليب الأفئدة على تقليب الأبصار، لأن موضع الدواعي والصوارف هو القلب. فإذا حصلت الداعية في القلب انصرف البصر إليه شاء أم أبى، وإذا حصلت الصوارف في القلب انصرف البصر عنه، فهو وإن كان يبصره في الظاهر. إلا أنه لا يصير ذلك الإبصار سببا للوقوف على الفوائد المطلوبة. وهذا هو المراد من قوله تعالى: {ومنهم من يستمع إليك وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفى آذانهم وقرا} فلما كان المعدن هو القلب، وأما السمع والبصر فهما آلتان للقلب، كانا لا محالة تابعين لأحوال القلب. فلهذا السبب وقع الابتداء بذكر تقليب القلوب في هذه الآية، ثم أتبعه بذكر تقليب البصر، وفي الآية الأخرى وقع الابتداء بذكر تحصيل الكنان في القلب ثم أتبعه بذكر السمع، فهذا هو الكلام القوي العقلي البرهاني الذي ينطبق عليه لفظ القرآن...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة} هذا عطف على قوله: «لا يؤمنون» وبيان لسنة الله تعالى في عدم إيمانهم برؤية الآية. أي وما يشعركم أيضا أننا نقلب أفئدتهم عند مجيء الآية بالخواطر والتأويلات، والتفكير في استنباط الاحتمالات، وأبصارهم في توهم التخيلات، كشأنهم في عدم إيمانهم بما جاءهم أول مرة من الآيات وقيل الضمير في قوله « به» للقرآن وقيل للنبي عليه الصلاة والسلام، وتقليب الأبصار من قبيل قوله تعالى: {ولو فتحنا عليهم بابا من السماء فظلوا فيه يعرجون لقالوا إنما سكرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون} [الحجر: 14، 15] فإن من لم يقنعه ما اشتمل عليه القرآن من الآيات العقلية العلمية، لا يقنعه ما يراه بعينيه من الآيات الحسية، بل يدعي أن عينيه خدعتا أو أصيبتا بآفة فهي لا ترى إلا صورا خيالية. أو أنه من أعمال السحر الصناعية، وهل هذا إلا خلق الأولين، في مكابرة آيات من بعث فيهم من المرسلين؟
{ونذرهم في طغيانهم يعمهون} العمه: التردد في الأمر من الحيرة فيه، أي وندعهم في تجاوزهم الحدود في الكفر والعصيان، المشابه لطغيان الماء في الطوفان، الذي رسخوا فيه فترتب عليه ما ذكر من سنتنا في تقليب القلوب والأبصار، يترددون متحيرين فيما سمعوا ورأوا من الآيات، هل هو الحق المبين، أم السحر الذي يخدع الناظرين؟ وهل الأرجح إتباع الحق بعدما تبين، أم المكابرة له والجدال فيه كبرا وأنفة من الخضوع لمن يرونه دونهم. وهذا صريح في أن رسوخهم في الطغيان، الذي هو منتهى الإسراف في الكفر والعصيان. هو سبب تقليب القلوب والأبصار، وإنما إسناده إلى الخالق لها لبيان سنته الحكيمة فيها. كغيره من ربط المسببات بأسبابها...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
أي: ونعاقبهم، إذا لم يؤمنوا أول مرة يأتيهم فيها الداعي، وتقوم عليهم الحجة، بتقليب القلوب، والحيلولة بينهم وبين الإيمان، وعدم التوفيق لسلوك الصراط المستقيم. وهذا من عدل الله، وحكمته بعباده، فإنهم الذين جنوا على أنفسهم، وفتح لهم الباب فلم يدخلوا، وبين لهم الطريق فلم يسلكوا، فبعد ذلك إذا حرموا التوفيق، كان مناسبا لأحوالهم.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
إن القلب الذي لا يؤمن بآيات الله المبثوثة في هذا الوجود -بعد توجيهه إليها على هذا النحو العجيب الذي تكفل به هذا الكتاب العجيب- ولا توحي آيات الله المبثوثة في الأنفس والآفاق إليه أن يبادر إلى ربه، ويثوب إلى كنفه.. إن هذا القلب هو قلب مقلوب.. والذي عاق هؤلاء عن الإيمان في أول الأمر، ما الذي يدري المسلمين الذين يقترحون إجابة طلبهم، أن يعوقهم عن الإيمان بعد ظهور الخارقة؟ إن الله هو الذي يعلم حقيقة هذه القلوب.. وهو يذر المكذبين في طغيانهم يعمهون، لأنه يعلم منهم أنهم يستحقون جزاء التكذيب؛ كما يعلم عنهم أنهم لا يستجيبون.. لا يستجيبون ولو نزل إليهم الملائكة كما يقترحون! ولو بعث لهم الموتى يكلمونهم -كما اقترحوا كذلك!- ولو حشر الله عليهم كل شيء في هذا الوجود يواجههم ويدعوهم إلى الإيمان!.. إنهم لا يؤمنون -إلا أن يشاء الله- والله سبحانه لا يشاء، لأنهم هم لا يجاهدون في الله ليهديهم الله إليه.. وهذه هي الحقيقة التي يجهلها أكثر الناس عن طبائع القلوب.. إنه ليس الذي ينقص الذين يلجون في الضلال أنه لا توجد أمامهم دلائل وبراهين.. إنما الذي ينقصهم آفة في القلب، وعطل في الفطرة، وانطماس في الضمير.. وإن الهدى جزاء لا يستحقه إلا الذين يتجهون إليه، والذين يجاهدون فيه..