الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{وَنُقَلِّبُ أَفۡـِٔدَتَهُمۡ وَأَبۡصَٰرَهُمۡ كَمَا لَمۡ يُؤۡمِنُواْ بِهِۦٓ أَوَّلَ مَرَّةٖ وَنَذَرُهُمۡ فِي طُغۡيَٰنِهِمۡ يَعۡمَهُونَ} (110)

قوله : { ونُقَلِّب } في هذه الجملة وجهان ، أحدهما ولم يقل الزمخشري غيره أنها وما عطف عليها من قوله " وَيذَرُهم " عطف على " يُؤْمنون " داخلٌ في حكم وما يُشْعركم ، بمعنى : وما يشعركم أنهم لا يؤمنون ، وما يُشْعركم أنَّا نقلِّب أفئدتَهم وأبصارَهم ، وما يُشْعركم أنَّا نَذَرَهم " وهذا يساعده ما جاء في التفسير عن ابن عباس ومجاهد وابن زيد ، والثاني : أنها استئناف إخبار ، وجعله الشيخُ الظاهرَ ، والظاهرُ ما تقدَّم .

والأفْئِدة : جمع فؤاد وهو القلب ، ويُطلق على العقل . وقال الراغب : " الفؤاد كالقلب لكن يقال له فؤاد إذا اعتُبِرَ به معنى التَّفَؤُّد أي التوقُّد يقال : فَأَدْتُ اللحم : شَوَيْتُه ومنه لحم فئيد أي مَشْويٌّ ، وظاهر هذا أن الفؤاد غير القلب ويقال له فُؤاد بالواو الصريحة ، وهي بدلٌ من الهمزة لأنه تخفيفٌ قياسيٌّ وبه يَقْرأ ورش فيه وفي نظائره ، وصلاً ووقفاً ، وحمزة وقفاً ، ويُجْمع على أفئدة ، وهو جمعٌ منقاس نحو غُراب وأغْرِبة ، ويجوز أفْيدة بياء بعد الهمزة ، وقرأ بها هشام في سورة إبراهيم وسيأتي .

قوله : { كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ } الكافُ في محل نصب نعتاً لمصدرٍ محذوفٍ و " ما " مصدرية ، والتقدير : كما قال أبو البقاء تقليباً ككفرهم عقوبةً مساوية لمعصيتهم ، وقَدَّره الحوفي بلا يُؤْمنون به إيماناً ثابتاً كما لم يؤمنوا به أول مرة . وقيل : الكاف هنا للتعليل أي : نقلِّبُ أفئدتهم وأبصارهم لعدم إيمانهم به أولَ مرة . وقيل : في الكلام حَذْفٌ تقديره : فلا يؤمنون به ثاني مرة كما لم يؤمنوا به أول مرة . وقال بعضُ المفسِّرين : " الكافُ هنا معناها المجازاة أي : لمَّا لم يؤمنوا به أولَ مرة نجازيهم بأَنْ نُقَلِّب أفئدتهم عن الهدى ونطبع على قلوبهم ، فكأنه قيل : ونحن نقلِّب أفئدتهم جزاءً لما لم يؤمنوا به أول مرة قاله ابن عطية . قال الشيخ : " وهو معنى التعليل الذي ذكرناه ، إلا أن تسميتَه ذلك بالمجازاة غريبة لا تُعْهَدُ في كلام النحويين " . قلت : قد سُبِقَ ابن عطية إلى هذه العبارة ، قال الواحدي : " وقال بعضهم : معنى الكاف في { كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ } معنى الجزاءِ ، ومعنى الآية : ونقلِّب أفئدتَهم وأبصارهم عقوبةً لهم على تَرْك الإِيمان في المرة الأولى ، والهاء في " به " تعود على الله تعالى أو على رسوله أو على القرآن ، أو على القلب المدلول عليه بالفعل ، وهو أبعدها/ و " أول مرة " نصبٌ على ظرف الزمان وقد تقدَّم تحقيقه .

وقرأ إبراهيم النخعي " ويُقَلِّب ويَذَرُهم " بالياء ، والفاعلُ ضمير الباري تعالى . وقرأ الأعمش : " وتُقَلَّبُ أفئدتهم وأبصارهم " على البناء للمفعول ورفعِ ما بعده على قيامه مَقامَ الفاعل ، كذا رواها الزمخشري عنه ، والمشهورُ بهذه القراءةِ إنما هو النخعي أيضاً ، ورُوي عنه " ويذرهم " بياء الغَيْبة كما تقدم وسكون الراء . وخَرَّج أبو البقاء هذا التسكينَ على وجهين : أحدهما : التسكين لتوالي الحركات . والثاني : أنه مجزوم عطفاً على " يؤمنوا " ، والمعنى : جزاء على كفرهم ، وأنه لم يذرْهم في طغيانهم بل بَيَّنَ لهم " . وهذا الثاني ليس بظاهر . و " يَعْمَهون " في محلِّ حال أو مفعول ثان ؛ لأن الترك بمعنى التصيير .