جنات عدن يدخلونها يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤاً ولباسهم فيها حرير . وقالوا : الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن . إن ربنا لغفور شكور . الذي أحلّنا دار المقامة من فضله لا يمسنا فيها نصب ولا يمسنا فيها لغوب ) . .
إن المشهد يتكشف عن نعيم مادي ملموس ، ونعيم نفسي محسوس . فهم ( يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤاً ولباسهم فيها حرير ) . . وذلك بعض المتاع ذي المظهر المادي ، الذي يلبي بعض رغائب النفوس . وبجانبه ذلك الرضا وذلك الأمن وذلك الاطمئنان :
يخبر تعالى أن مأوى هؤلاء المصطفين من عباده ، الذين أورثوا الكتاب المنزل من رب العالمين يوم القيامة { جَنَّاتُ عَدْنٍ } أي : جنات الإقامة يدخلونها يوم معادهم وقدومهم على ربهم ، عز وجل ، { يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا } ، كما ثبت في الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " تبلغ الحلية{[24569]} من المؤمن حيث يبلغ الوضوء " . {[24570]}
{ وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ } ولهذا كان محظورا عليهم في الدنيا ، فأباحه الله لهم في الدار الآخرة ، وثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة " . وقال : " [ لا تشربوا في آنية الذهب والفضة ]{[24571]} هي لهم في الدنيا ولكم{[24572]} في الآخرة " .
وقال{[24573]} ابن أبي حاتم : حدثنا عمرو بن سواد السَّرْحي ، أخبرنا ابن وهب ، عن ابن لَهِيعَة ، عن عقيل بن خالد ، عن الحسن ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ؛ أن أبا أمامة حدث : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثهم ، وذكر حلي أهل الجنة فقال : " مسورون بالذهب والفضة ، مُكَلَّلة بالدّر ، وعليهم أكاليل من دُرّ وياقوت متواصلة ، وعليهم تاج كتاج الملوك ، شباب جُرْدٌ مُردٌ مكحَّلُون " . {[24574]}
القول في تأويل قوله تعالى : { جَنّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ * وَقَالُواْ الْحَمْدُ للّهِ الّذِيَ أَذْهَبَ عَنّا الْحَزَنَ إِنّ رَبّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ } .
يقول تعالى ذكره : بساتين إقامة يدخلونها هؤلاء الذين أورثناهم الكتاب ، الذين اصطفينا من عبادنا يوم القيامة يُحَلّوْنَ فِيها مِنْ أساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ يلبسون في جنات عدن أسورة من ذهب وَلُؤْلُؤا وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ يقول : ولباسهم في الجنة حرير .
{ جنات عدن يدخلونها } مبتدأ وخبر والضمير للثلاثة أو ل { الذين } أو لل { مقتصد } وال { سابق } ، فإن المراد بهما الجنس وقرئ " جنة عدن " و { جنات عدن } منصوب بفعل يفسره الظاهر ، وقرأ أبو عمرو " يدخلونها " على البناء للمفعول . { يحلون فيها } خبر ثان أو حال مقدرة ، وقرئ " يحلون " من حليت المرأة فهي حالية . { من أساور من ذهب } { من } الأولى للتبعيض والثانية للتبيين . { ولؤلؤا } عطف على { ذهب } أي { من ذهب } مرصع باللؤلؤ ، أو { من ذهب } في صفاء اللؤلؤ ونصبه نافع وعاصم رحمهما الله تعالى عطفا على محل { من أساور } { ولباسهم فيها حرير } .
الأظهر أنه بدل اشتمال من قوله : { ذلك هو الفضل الكبير } [ فاطر : 32 ] فإن مما يشتمل عليه الفضل دخولهم الجنة كما علمت وتخصيص هذا الفضل من بين أصنافه لأنه أعظم الفضل لأنه أمارة على رضوان الله عنهم حين إدخالهم الجنة ، { ورضوانٌ من الله أكبر } [ التوبة : 72 ] .
ويجوز أن يكون استئنافاً بيانياً لبيان الفضل الكبير وقد بيّن بأعظم أصنافه . والمعنى واحد .
وضمير الجماعة في { يدخلونها } راجع إلى { الذين اصطفينا } [ فاطر : 32 ] المقسم إلى ثلاثة أقسام : ظالممٍ ، ومقتصدٍ ، وسابققٍ ، أي هؤلاء كلهم يدخلون الجنة لأن المؤمنين كلهم مآلهم الجنة كما دلت عليه الأخبار التي تكاثرت . وقد روى الترمذي بسند فيه مجهولان عن أبي سعيد الخدري « أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في هذه الآية : { ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات } [ فاطر : 32 ] قال : " هؤلاء كلهم بمنزلة واحدة وكلهم في الجنة " . قال الترمذي : هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه . قال أبو بكر بن العربي في « العارضة » : من الناس من قال : إن هذه الأصناف الثلاثة هم الذين في سورة الواقعة ( 8 10 ) : { أصحاب الميمنة وأصحاب المشأمة والسابقون } وهذا فاسد لأن أصحاب المشأمة في النار الحامية ، وأصحاب سورة فاطر في جنة عالية لأن الله ذكرهم بين فاتحة وخاتمة فأما الفاتحة فهي قوله : { ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا } [ فاطر : 32 ] فجعلهم مصطفَيْن . ثم قال في آخرهم { جنات عدن يدخلونها } [ فاطر : 33 ] ولا يصطفَى إلا من يدخل الجنة ، ولكن أهل الجنة ظالم لنفسه فقال : { فمنهم ظالم لنفسه } [ فاطر : 32 ] وهو العاصي والظالم المطلق هو الكافر ، وقيل عنه : الظالم لنفسه رفقاً به ، وقيل للآخر : السابق بإذن الله إنباء أن ذلك بنعمة الله وفضله لا من حال العبد ا ه .
وفي الإِخبار بالمسند الفعلي عن المسنْد إليه إفادة تقوي الحكم وصوَغ الفعل بصيغة المضارع لأنه مستقبل ، وكذلك صوغ { يحلون } وهو خبر ثانٍ عن { جنات عدن } . وتقدم نظيرها في سورة الحج فانظره .
وقرأ نافع وعاصم وأبو جعفر { ولؤلؤاً } بالنصب عطفاً على محل { أساور } لأنه لما جر بحرف الجر الزائد كان في موضع نصب على المفعول الثاني لفعل { يحلون } فجاز في المعطوف أن ينصب على مراعاة محل المعطوف عليه . وقرأه الباقون بالجر على مراعاة اللفظ ، وهما وجهان .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{جنات عدن} تجري من تحتها الأنهار.
{يدخلونها} هؤلاء الأصناف الثلاثة.
{يحلون فيها من أساور من ذهب}... {ولؤلؤا ولباسهم فيها حرير}.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: بساتين إقامة يدخلونها هؤلاء الذين أورثناهم الكتاب، الذين اصطفينا من عبادنا يوم القيامة.
"يُحَلّوْنَ فِيها مِنْ أساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ" يلبسون في جنات عدن أسورة من ذهب "وَلُؤْلُؤا وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ" يقول: ولباسهم في الجنة حرير.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
ذكر التّحلي فيها بالذهب واللؤلؤ ولبس الحرير وليس للرجال رغبة في هذه الدنيا في التحلي بذلك ولا لبس الحرير، اللهم إلا أن يكون للعرب رغبة في ما ذكر، فخرج الوعد لهم بذلك والترغيب في ذلك، وهو ما ذكر من الخيام فيها والقِباب والغُرُفات، وتلك أشياء تستعمل في حال الضرورة في الأسفار وعند عدم وجود غيره من المنازل والغُرف عند ضيق المكان، فأما في حال الاختيار ووجود غيره فلا، لكنه خرّج ذلك لما لهم في ذلك من فضل رغبة، ألا ترى أنهم قالوا: {فلولا أُلقي عليه أسورة من ذهب}؟ [الزخرف: 53] ذكروا ذلك لما لذلك عندهم فضل قدر ومنزلة ورغبة في ذلك.
أو ذكر هذا لهم في الجنة، أعني الذهب والفضة والحرير، وما ذكر ليس على أن هذا مما يشاهد بحاله، أو يماثله في الجوهر على التحقيق سوى موافقة الاسم؛ لما رُوي في الخبر أن فيها، يعني في الجنة (ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر) [البخاري 3244].
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
نَبّهَ على أن دخولهم الجنة لا باستحقاقٍ بل بفضله، وليس في الفضل تمييز...
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
ثبت في الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:"تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء".
{وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} ولهذا كان محظورا عليهم في الدنيا، فأباحه الله لهم في الدار الآخرة، وثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة"،وقال: "[لا تشربوا في آنية الذهب والفضة] هي لهم في الدنيا ولكم في الآخرة".
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما ذكر تعالى أحوالهم، بين جزاءهم ومآلهم، فقال مستأنفاً جواباً لمن سأل عن ذلك: {جنات} أي هي مسببة عن سبب السبق الذي هو الفضل، ويصح كونها بدلاً من الفضل لأنه سببها، فكان كأنه هو الثواب {عدن} أي إقامة بلا رحيل لأنه لا سبب للرحيل عنها.
{يدخلونها} أي الثلاثة أصناف، ومن دخلها لم يخرج منها؛ لأنه لا شيء يخرجه ولا هو يريد الخروج على أن الضمير ل "الذين "ومن قال ل "عبادنا" خص الدخول بالمقتصد والسابق -هذا على قراءة الجماعة بفتح الياء وضم الخاء، وعلى قراءة أبي عمرو بالبناء للمفعول يكون الضمير للسابق فقط، لأنهم يكونون في وقت الحساب على كثبان المسك ومنابر النور فيستطيبون مكانهم، فإذا دعوا إلى الجنة أبطأوا فيساقون إليها كما في آخر الزمر.
ولما كان الداخل إلى مكان أول ما ينظر إلى ما فيه من النفائس قال: {يحلّون فيها} أي يلبسون على سبيل التزين والتحلي.
{من أساور} ولما كان للإبهام ثم البيان مزيد روعة النفس، وكان مقصود السورة إثبات القدرة الكاملة لإثبات اتم الإبقاءين، شوق إلى الطاعة الموصلة إليه بأفضل ما نعرف من الحلية، فقال مبيناً لنوع الأساور: {من ذهب ولؤلؤاً}.
ولما كانت لا تليق إلى على اللباس الفاخر، قال معرفاً أنهم حين الدخول يكونون لابسين: {ولباسهم فيها حرير}...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
الأظهر أنه بدل اشتمال من قوله: {ذلك هو الفضل الكبير}، فإن مما يشتمل عليه الفضل دخولهم الجنة كما علمت، وتخصيص هذا الفضل من بين أصنافه لأنه أعظم الفضل؛ لأنه أمارة على رضوان الله عنهم حين إدخالهم الجنة.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
«عدن» بمعنى الاستقرار والثبات، ومنه سمّي المعدن لأنّه مستقر الجواهر والمعادن. وعليه فإنّ «جنّات عدن» بمعنى «جنّات الخلد والدوام والاستقرار»، وأهل الجنّة ليست لهم جنّة واحدة، بل جنّات متعدّدة تحت تصرّفهم...