ثم يعود السياق من تعظيم حرمات الله باتقائها والتحرج من المساس بها . . إلى تعظيم شعائر الله - وهي ذبائح الحج - باستسمانها وغلاء أثمانها :
( ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب . لكم فيها منافع إلى أجل مسمى ، ثم محلها إلى البيت العتيق ) .
ويربط بين الهدى الذي ينحره الحاج وتقوى القلوب ؛ إذ أن التقوى هي الغاية من مناسك الحج وشعائره . وهذه المناسك والشعائر إن هي إلا رموز تعبيرية عن التوجه إلى رب البيت وطاعته . وقد تحمل في طياتها ذكريات قديمة من عهد إبراهيم - عليه السلام - وما تلاه . وهي ذكريات الطاعة والإنابة ، والتوجه إلى الله منذ نشأة هذه الأمة المسلمة . فهي والدعاء والصلاة سواء .
يقول تعالى : هذا { وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ } أي : أوامره ، { فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ } ومن ذلك تعظيم الهدايا والبدن ، كما قال الحكم ، عن مقْسَم ، عن ابن عباس : تعظيمها : استسمانها واستحسانها .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشجّ ، حدثنا حفص بن غياث ، عن ابن أبي ليلى ، عن ابن أبي نَجِيح ، عن مجاهد ، عن ابن عباس : { ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ } قال : الاستسمان والاستحسان والاستعظام .
وقال أبو أمامة بن سهل : كنا نسمن الأضحية بالمدينة ، وكان المسلمون يُسمّنون . رواه البخاري{[20185]} .
وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " دم عفراءَ أحبّ إلى الله من دم سَوداوين " . رواه أحمد ، وابن ماجه{[20186]} .
قالوا : والعفراء هي البيضاء بياضًا ليس بناصع ، فالبيضاء أفضل من غيرها ، وغيرها يجزئ أيضا ؛ لما ثبت في صحيح البخاري ، عن أنس : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحى بكبشين أملحين أقرنين{[20187]} .
وعن أبي سعيد : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحى بكبش أقرن فَحيل{[20188]} يأكل في سواد ، وينظر في سواد ، ويمشي في سواد .
رواه أهل السنن ، وصححه الترمذي{[20189]} ، أي : بكبش أسود{[20190]} في هذه الأماكن .
وفي سنن ابن ماجه ، عن أبي رافع : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحى بكبشين عظيمين سمينين أقرنين أملحين موجوءين{[20191]} . قيل : هما الخَصِيَان . وقيل : اللذان رُضَّ خُصْياهما ، ولم يقطعهما{[20192]} ، والله أعلم .
وكذا روى أبو داود وابن ماجه عن جابر : ضحى رسول الله صلى الله عليه وسلم بكبشين أقرنين أملحين موجوءين [ والموجوءين قيل : هما الخصيين ]{[20193]}-{[20194]} .
وعن علي رضي الله عنه ، قال : أمرنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أن نستشرف العين والأذن ، وألا نضحي بمقابَلَة ، ولا مدابَرَة ، ولا شَرْقاء ، ولا خَرْقاء .
رواه أحمد ، وأهل السنن ، وصححه الترمذي{[20195]} .
ولهم عنه ، قال : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نُضحي{[20196]} بأعضب القرن والأذن{[20197]} .
وقال سعيد بن المسيب : العضب : النصْف فأكثر .
وقال بعض أهل اللغة : إن كُسر قرنها الأعلى فهي قصماء ، فأما العَضْب فهو كسر الأسفل ، وعضب الأذن قطع بعضها .
وعند الشافعي أن التضحية بذلك مجزئة ، لكن تكره .
وقال [ الإمام ]{[20198]} أحمد : لا تجزئ الأضحية بأعضب القرن والأذن ؛ لهذا الحديث .
وقال مالك : إن كان الدم يسيل من القرن لم يجزئ ، وإلا أجزأ ، والله أعلم .
وأما المقابلة : فهي التي قطع مقدم أذنها ، والمدابرة : من مؤخر أذنها . والشرقاء : هي التي قطعت أذنها طولا قاله الشافعي . والخرقاء : هي التي خَرَقت السّمَةُ أذنها خرقا مُدَوّرًا ، والله أعلم .
وعن البراء قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أربع لا تجوز في الأضاحي : العوراء البيّن عَوَرها ، والمريضة البين مَرَضها ، والعرجاء البين ظَلَعها{[20199]} ، والكسيرة التي لا تُنقِي " .
رواه أحمد ، وأهل السنن ، وصححه الترمذي{[20200]} .
وهذه العيوب تنقص اللحم ، لضعفها وعجزها عن استكمال الرعي ؛ لأن الشاء يسبقونها إلى المرعى ، فلهذا لا تجزئ التضحية{[20201]} بها عند الشافعي وغيره من الأئمة ، كما هو ظاهر الحديث .
واختلف قول الشافعي في المريضة مرضًا يسيرًا ، على قولين .
وروى أبو داود ، عن عُتبة بن عبد السّلَمي ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن المُصْفَرَةِ ، والمستأصَلَة ، والبَخْقاء ، والمشيَّعة ، والكسراء{[20202]}-{[20203]} .
فالمصفرة قيل : الهزيلة . وقيل : المستأصلة الأذنُ . والمستأصلة : المكسورة القرن . والبخقاء : هي العوراء . والمشيعة : هي التي لا تزال تُشَيَّع خَلفَ الغنم ، ولا تَتْبَع لضعفها . والكسراء : العرجاء .
فهذه العيوب كلها مانعة [ من الإجزاء ، فإن طرأ العيب ]{[20204]} بعد تعيين الأضحية فإنه لا يضر عيبه عند الشافعي خلافا لأبي حنيفة .
وقد روى الإمامُ أحمد ، عن أبي سعيد قال : اشتريت كبشا أضحي به ، فعدا الذئب فأخذ الألية . فسألت النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : " ضَحِّ به " {[20205]} ولهذا [ جاء ]{[20206]} في الحديث : أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نستشرف العين والأذن . أي : أن تكون
الهدية أو الأضحية سمينة حسنة ثمينة ، كما رواه الإمام أحمد وأبو داود ، عن عبد الله بن عمر قال : أهدى عمر نَجيبًا ، فأعطى بها ثلاثمائة دينار ، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، إني أهديت نجيبًا ، فأعطِيتُ بها ثلاثمائة دينار ، أفأبيعها وأشتري بثمنها بدْنًا ؟ قال : " لا انحرها إياها " {[20207]} .
وقال الضحاك ، عن ابن عباس : البدن من شعائر الله .
وقال محمد بن أبي موسى : الوقوف ومزدلفة والجمار والرمي والبدن والحلق : من شعائر الله .
القول في تأويل قوله تعالى : { ذَلِكَ وَمَن يُعَظّمْ شَعَائِرَ اللّهِ فَإِنّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ } .
يقول تعالى ذكره : هذا الذي ذكرت لكم أيها الناس وأمرتكم به من اجتناب الرجس من الأوثان واجتناب قول الزور ، حنفاء لله ، وتعظيم شعائر الله ، وهو استحسان البُدن واستسمانها وأداء مناسك الحجّ على ما أمر الله جلّ ثناؤه ، من تقوى قلوبكم .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا إسماعيل بن إبراهيم ، قال : حدثنا محمد بن زياد ، عن محمد بن أبي ليلى ، عن الحكم ، عن مِقْسم ، عن ابن عباس ، في قوله : وَمَنْ يُعَظّمْ شَعائِرَ اللّهِ فإنّها مِنْ تَقْوَى القُلوبِ قال : استعظامها ، واستحسانها ، واستسمانها .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، عن عنبسة ، عن محمد بن عبد الرحمن ، عن القاسم بن أبي بَزّة عن مجاهد ، في قوله : وَمَنْ يُعَظّمْ شَعائِرَ اللّهِ قال : الاستسمان والاستعظام .
وبه عن عنبسة ، عن ليث ، عن مجاهد ، مثله ، إلا أنه قال : والاستحسان .
حدثنا عبد الحميد بن بيان الواسطيّ ، قال : أخبرنا إسحاق ، عن أبي بشر ، وحدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : وَمَنْ يُعَظّمْ شَعائِرَ اللّهِ قال : استعظام البدن ، واستسمانها ، واستحسانها .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا يزيد بن هارون ، قال : أخبرنا داود بن أبي هند ، عن محمد بن أبي موسى ، قال : الوقوف بعرفة من شعائر الله ، وبجَمْع من شعائر الله ، ورمي الجمار من شعائر الله ، والبُدْن من شعائر الله ، ومن يعظمها فإنها من شعائر الله في قوله : وَمَنْ يُعَظّمْ شَعائِرَ اللّهِ فمن يعظمها فإنها من تقوى القلوب .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَمَنْ يُعَظّمْ شَعائِرَ اللّهِ قال : الشعائر : الجمار ، والصفا والمروة من شعائر الله ، والمَشْعَر الحرام والمزدلفة ، قال : والشعائر تدخل في الحرم ، هي شعائر ، وهي حرم .
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب : أن يقال : إن الله تعالى ذكره أخبر أن تعظيم شعائره ، وهي ما جعله أعلاما لخلقه فيما تعبّدهم به من مناسك حجهم ، من الأماكن التي أمرهم بأداء ما افترض عليهم منها عندها والأعمال التي ألزمهم عملها في حجهم : من تقوى قلوبهم لم يخصص من ذلك شيئا ، فتعظيم كلّ ذلك من تقوى القلوب ، كما قال جلّ ثناؤه وحقّ على عباده المؤمنين به تعظيم جميع ذلك . وقال : إنّها مِنْ تَقْوَى القُلُوبِ وأنّث ولم يقل : «فإنه » ، لأنه أريد بذلك . فإن تلك التعظيمة مع اجتناب الرجس من الأوثان من تقوى القلوب ، كما قال جلّ ثناؤه : إنّ رَبّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ . وعني بقوله : فإنّها مِنْ تَقْوَى القُلوبِ فإنها من وجل القلوب من خشية الله ، وحقيقة معرفتها بعظمته وإخلاص توحيده .
{ ذلك ومن يعظم شعائر الله } دين الله أو فرائض الحج ومواضع نسكه ، أو الهدايا لأنها من معالم الحج وهو أوفق لظاهر ما بعده ، وتعظيمها أن تختارها حسانا سمانا عالية الأثمان . روي أنه صلى الله عليه وسلم أهدى مائة بدنة فيها جمل لأبي جهل في أنفة برة من ذهب ، وأن عمر رضي الله تعالى عنه أهدى نجيبة طلبت منه بثلاثمائة دينار { فإنها من تقوى القلوب } فإن تعظيمها منه من أفعال ذوي تقوى القلوب ، فحذفت هذه المضافات والعائد إلى من وذكر القلوب لأنها منشأ التقوى والفجور أو الآمرة بهما .
التقدير في هذا الموضع الأمر ذلك ، و «الشعائر » جميع شعيرة وهي كل لله تعالى ، فيه أمر أشعر به وأعلم ، قال فرقة : قصد ب «الشعائر » في هذه الآية للهدي والأنعام المشعرة ، ومعنى تعظيمها تسميتها والاهتبال بأمرها والمغالاة بها قاله ابن عباس ومجاهد وجماعة ، وعود الضمير في { إنها } على التعظمة والفعلة التي يتضمنها الكلام ، وقرأ «القلوبُ » بالرفع على أنها الفاعلة بالمصدر الذي هو { تقوى } .
الشعائر : جمع شعيرة : المَعْلم الواضح مشتقة من الشعور . وشعائر الله : لقب لمناسك الحجّ ، جمع شعيرة بمعنى : مُشعِرة بصيغة اسم الفاعل أي معلمة بما عينه الله .
فمضمون جملة { ومن يعظم شعائر الله } الخ . . . أخص من مضمون جملة { ومن يعظم حرمات الله } [ الحج : 30 ] وذكر الأخص بعد الأعم للاهتمام . أو بمعنى مشعر بها فتكون شعيرة فعيلة بمعنى مفعولة لأنها تجعل ليشعر بها الرائي . وتقدم ذكرها في قوله تعالى : { إن الصفا والمروة من شعائر الله } في [ سورة البقرة : 158 ] . فكل ما أمر الله به بزيارته أو بفعل يوقع فيه فهو من شعائر الله ، أي مما أشعر الله الناس وقرره وشهره . وهي معالم الحجّ : الكعبة ، والصفا والمروة ، وعرفة ، والمشعر الحرام ، ونحوها من معالم الحجّ .
وتطلق الشعيرة أيضاً على بدنة الهدى . قال تعالى : { والبدن جعلناها لكم من شعائر الله } [ الحج : 36 ] لأنهم يجعلون فيها شِعاراً ، والشِعار العلامة بأن يطعنوا في جلد جانبها الأيمن طعناً حتى يسيل منه الدم فتكون علامة على أنها نُذرت للهدي ، فهي فعلية بمعنى مفعولة مصوغة من أشعر على غير قياس .
فعلى التفسير الأول تكون جملة { ومن يعظم شعائر الله } إلى آخرها عطفاً على جملة { ومن يعظم حرمات الله } [ الحج : 30 ] الخ . وشعائر الله أخصّ من حرمات الله فعطف هذه الجملة للعناية بالشعائر .
وعلى التفسير الثاني للشعائر تكون جملة { ومن يعظم شعائر الله } عطفاً على جملة { ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام } [ الحج : 28 ] تخصيصاً لها بالذكر بعد ذكر حرمات الله .
وضمير { فإنها } عائد إلى شعائر الله المعظمة فيكون المعنى : فإن تعظيمها من تقوى القلوب .
وقوله { فإنها من تقوى القلوب } جواب الشرط والرابط بين الشرط وجوابه هو العموم في قوله : { القلوب } فإن من جملة القلوب قلوب الذين يعظمون شعائر الله . فالتقدير : فقد حلّت التقوى قلبه بتعظيم الشعائر لأنها من تقوى القلوب ، أي لأنّ تعظيمها من تقوى القلوب .
وإضافة { تقوى } إلى { القلوب } لأنّ تعظيم الشعائر اعتقاد قلبي ينشأ عنه العمل .