المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{قُلۡ أَمَرَ رَبِّي بِٱلۡقِسۡطِۖ وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمۡ عِندَ كُلِّ مَسۡجِدٖ وَٱدۡعُوهُ مُخۡلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَۚ كَمَا بَدَأَكُمۡ تَعُودُونَ} (29)

29- بَيِّن لهم ما أمر به الله وقل : أمر ربى بالعدل وما لا فحش فيه ، وأمركم أن تخصوه بالعبادة في كل زمان ومكان ، وأن تكونوا مخلصين له فيها ، وكلكم بعد الموت راجعون إليه ، وكما بدأ خلقكم بيسر وكنتم لا تملكون إذ ذاك شيئاً ، ستعودون إليه بيسر تاركين ما حولكم من النعم وراء ظهوركم .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{قُلۡ أَمَرَ رَبِّي بِٱلۡقِسۡطِۖ وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمۡ عِندَ كُلِّ مَسۡجِدٖ وَٱدۡعُوهُ مُخۡلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَۚ كَمَا بَدَأَكُمۡ تَعُودُونَ} (29)

26

وبعد أن ينكر عليهم دعواهم في أن الله أمرهم بهذه الفاحشة ، يبين لهم أن أمر الله يجري في اتجاه مضاد . . لقد أمر الله بالعدل والاعتدال في الأمور كلها لا بالفحش والتجاوز . وأمر بالاستقامة على منهج الله في العبادة والشعائر ، والاستمداد مما جاء في كتابه على رسوله [ ص ] ولم يجعل المسألة فوضى ، يقول فيها كل إنسان بهواه ، ثم يزعم أنه من الله . وأمر بأن تكون الدينونة خالصة له ، والعبودية كاملة ؛ فلا يدين أحد لأحد لذاته ولا يخضع أحد لأمر أحد لذاته :

( قل أمر ربي بالقسط ، وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد ، وادعوه مخلصين له الدين ) . .

هذا ما أمر الله به ، وهو يضاد ما هم عليه . . يضاد اتباعهم لآبائهم وللشرائع التي وضعها لهم عباد مثلهم ، مع دعواهم أن الله أمرهم بها . . ويضاد العري والتكشف وقد امتن الله على بني آدم بأنه أنزل عليهم لباساً يواري سوآتهم وريشاً يتجملون به كذلك . . ويضاد هذا الشرك الذي يزاولونه ، بازدواج مصادر التشريع لحياتهم ولعبادتهم . .

وعند هذا المقطع من البيان يجيء التذكير والإنذار ؛ ويلوّح لهم بالمعاد إلى الله بعد انتهاء ما هم فيه من أجل مرسوم للابتلاء ؛ وبمشهدهم في العودة وهم فريقان : الفريق الذي اتبع أمر الله ، والفريق الذي اتبع أمر الشيطان :

كما بدأكم تعودون : فريقا هدى وفريقاً حق عليهم الضلالة ، إنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله ، ويحسبون أنهم مهتدون . .

إنها لقطة واحدة عجيبة تجمع نقطة البدء في الرحلة الكبرى ونقطة النهاية . نقطة الانطلاق في البدء ونقطة المآب في الانتهاء :

( كما بدأكم تعودون ) . .

/خ34

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{قُلۡ أَمَرَ رَبِّي بِٱلۡقِسۡطِۖ وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمۡ عِندَ كُلِّ مَسۡجِدٖ وَٱدۡعُوهُ مُخۡلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَۚ كَمَا بَدَأَكُمۡ تَعُودُونَ} (29)

وقوله : { قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ } أي : بالعدل والاستقامة ، { وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ }

أي : أمركم بالاستقامة في عبادته في محالها ، وهي متابعة المرسلين المؤيدين بالمعجزات فيما أخبروا به عن الله [ تعالى ]{[11651]} وما جاءوا به [ عنه ]{[11652]} من الشرائع ، وبالإخلاص له في عبادته ، فإنه تعالى لا يتقبل العمل حتى يجمع هذين الركنين : أن يكون صوابًا موافقًا للشريعة ، وأن يكون خالصًا من الشرك .

وقوله تعالى : { كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُون . [ فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ ]{[11653]} الضَّلالَة }{[11654]} - اختلف في معنى [ قوله تعالى ]{ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ } فقال ابن أبي نَجِيح ، عن مجاهد : { كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ } يحييكم بعد موتكم .

وقال الحسن البصري : كما بدأكم في الدنيا ، كذلك تعودون يوم القيامة أحياء .

وقال قتادة : { كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ } قال : بدأ فخلقهم ولم يكونوا شيئًا ، ثم ذهبوا ، ثم يعيدهم .

وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : كما بدأكم أولا كذلك يعيدكم آخرًا .

واختار هذا القول أبو جعفر بن جرير ، وأيده بما رواه من حديث سفيان الثوري وشعبة بن الحجاج ، كلاهما عن المغيرة بن النعمان ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بموعظة فقال : " يا أيها الناس ، إنكم تحشرون{[11655]} إلى الله حُفَاة عُرَاة غُرْلا { كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ } [ الأنبياء : 104 ] .

وهذا الحديث مُخَرَّجٌ في الصحيحين ، من حديث شعبة ، وفي حديث البخاري - أيضا - من حديث الثوري به . {[11656]}

وقال وقَاء بن إياس أبو يزيد ، عن مجاهد : { كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ } قال : يبعث المسلم مسلمًا ، والكافر كافرًا .

وقال أبو العالية : { كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ } رُدُّوا إلى علمه فيهم .

وقال سعيد بن جبير : { كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ } كما كتب عليكم تكونون - وفي رواية : كما كنتم تكونون عليه تكونون .

وقال محمد بن كعب القُرَظِي في قوله تعالى : { كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ } من ابتدأ الله خلقه على الشقاوة صار إلى ما ابتدئ عليه خلقه ، وإن عمل بأعمال أهل السعادة ، كما أن إبليس عمل بأعمال أهل السعادة ، ثم صار إلى ما ابتدئ عليه خلقه . ومن ابتُدئ خلقه على السعادة ، صار إلى ما ابتدئ خلقه عليه ، إن عمل بأعمال أهل الشقاء ، كما أن السحرة عملت{[11657]} بأعمال أهل الشقاء ، ثم صاروا إلى ما ابتدئوا عليه .

وقال السُّدِّي : { كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ . فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ } يقول : { كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ } كما خلقناكم ، فريق مهتدون وفريق ضلال ، كذلك تعودون وتخرجون من بطون أمهاتكم .

وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : { كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ } قال : إن الله تعالى بدأ خلق ابن آدم مؤمنًا وكافرًا ، كما قال [ تعالى ]{[11658]} { هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ } [ التغابن : 2 ] ثم يعيدهم يوم القيامة كما بدأهم{[11659]} مؤمنًا وكافرًا .

قلت : ويتأيد هذا القول بحديث ابن مسعود في صحيح البخاري " فوالذي لا إله غيره ، إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة ، حتى ما يكون بينه وبينها إلا باع - أو : ذراع - فيسبق{[11660]} عليه الكتاب ، فيعمل بعمل أهل النار ، فيدخلها ، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار ، حتى ما يكون بينه وبينها إلا باع - أو : ذراع - فيسبق عليه الكتاب ، فيعمل بعمل أهل الجنة ، فيدخل الجنة " {[11661]}

وقال أبو القاسم البَغَوي : حدثنا علي بن الجَعْد ، حدثنا أبو غَسَّان ، عن أبي حازم ، عن سهل بن سعد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن العبد ليعمل - فيما يرى الناس - بعمل أهل الجنة ، وإنه من أهل النار . وإنه ليعمل - فيما يرى الناس - بعمل أهل النار ، وإنه من أهل الجنة ، وإنما الأعمال بالخواتيم " {[11662]}

هذا قطعة من حديث رواه البخاري من حديث أبي غسان محمد بن مُطَرَّف المدني ، في قصة " قُزْمان " يوم أحد{[11663]}

وقال ابن جرير : حدثنا ابن بشار ، حدثنا عبد الرحمن ، حدثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن أبي سفيان ، عن جابر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " تُبْعَثُ كل نَفْسٍ على ما كانت عليه " .

وهذا الحديث رواه مسلم وابن ماجه من غير وجه ، عن الأعمش ، به . ولفظه : " يبعث كل عبد على ما مات عليه " {[11664]}

قلت : ولا بد من الجمع بين هذا القول - إن كان هو المراد من الآية - وبين قوله تعالى : { فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا } [ الروم : 30 ] وما جاء في الصحيحين ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " كل مولود يولد على الفطرة ، فأبواه يُهَوِّدانه ويُنَصِّرانه ويُمَجِّسانه " {[11665]} وفي صحيح مسلم ، عن عِياض بن حمَار{[11666]} قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يقول الله تعالى : إني خلقت عبادي حُنَفَاء ، فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم " الحديث . ووجه الجمع على هذا أنه تعالى خلقهم ليكون منهم مؤمن وكافر ، في ثاني الحال ، وإن كان قد فطر الخلق كلهم على معرفته وتوحيده ، والعلم بأنه لا إله غيره ، كما أخذ عليهم بذلك الميثاق ، وجعله في غرائزهم وفطرهم ، ومع هذا قدر أن{[11667]} منهم شقيًا ومنهم سعيدًا : { هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ } [ التغابن : 2 ] وفي الحديث : " كل الناس يغدو ، فبائع نفسه فمُعْتِقُهَا ، أو مُوبِقها " {[11668]} وقدر الله نافذ في بريته ، فإنه هو { الَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى } [ الأعلى : 3 ] و { الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى } [ طه : 50 ] وفي الصحيحين : " فأما من كان منكم من أهل السعادة فسييسر لعمل أهل السعادة ، وأما من كان من أهل الشقاوة فسييسر لعمل أهل الشقاوة " ؛ ولهذا قال تعالى : { فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ } ثم علل ذلك فقال : { إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ [ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ ] }{[11669]}

قال ابن جرير : وهذا من أبين الدلالة على خطأ من زعم أن الله لا يعذب أحدًا على معصية ركبها أو ضلالة اعتقدها ، إلا أن يأتيها بعد علم منه بصواب وجهها ، فيركبها عنادًا منه لربه فيها ؛ لأن ذلك لو كان كذلك ، لم يكن بين فريق الضلالة الذي ضل وهو يحسب أنه هاد ، وفريق الهدى ، فرق . وقد فرق الله تعالى بين أسمائهما وأحكامهما في هذه الآية [ الكريمة ]{[11670]} .


[11651]:زيادة من أ.
[11652]:زيادة من ك.
[11653]:زيادة من ك، أ وفي هـ: "إلى قوله".
[11654]:زيادة من أ.
[11655]:في أ: "محشورون".
[11656]:تفسير الطبري (12/386) وصحيح البخاري برقم (4625) وصحيح مسلم برقم (2860).
[11657]:في أ: "عملوا".
[11658]:زيادة من أ.
[11659]:في ك، أ: "بدأ خلقهم".
[11660]:في ك: "ويسبق".
[11661]:صحيح البخاري برقم (3208).
[11662]:ورواه البغوي في تفسيره (3/224) من طريق عبد الرحمن بن أبي شريح، عن أبي القاسم البغوي به.
[11663]:صحيح البخاري برقم (6607، 6493).
[11664]:تفسير الطبري (12/384) وصحيح مسلم برقم (2878) وسنن ابن ماجة برقم (4230).
[11665]:صحيح البخاري برقم (1385) وصحيح مسلم برقم (2658).
[11666]:في أ: "حماد".
[11667]:في ك: "أن يكون".
[11668]:قطعة من حديث رواه مسلم في صحيحه برقم (223) من حديث أبي مالك الأشعري.
[11669]:زيادة من د، ك، م، أ. وفي هـ: "الآية".
[11670]:زيادة من ك، أ.
 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{قُلۡ أَمَرَ رَبِّي بِٱلۡقِسۡطِۖ وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمۡ عِندَ كُلِّ مَسۡجِدٖ وَٱدۡعُوهُ مُخۡلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَۚ كَمَا بَدَأَكُمۡ تَعُودُونَ} (29)

القول في تأويل قوله تعالى : { قُلْ أَمَرَ رَبّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ * فَرِيقاً هَدَىَ وَفَرِيقاً حَقّ عَلَيْهِمُ الضّلاَلَةُ إِنّهُمُ اتّخَذُوا الشّيَاطِينَ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ اللّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنّهُم مّهْتَدُونَ } .

يقول تعالى ذكره لنبيه : قُلْ يا محمد لهؤلاء الذين يزعمون أن الله أمرهم بالفحشاء كذبا على الله : ما أمر ربي بما تقولون ، بل أمَرَ رَبي بالقِسْطِ يعني : بالعدل . كما :

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : قُلْ أمَرَ رَبي بالقِسْطِ بالعدل .

حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : قُلْ أمَرَ رَبي بالقِسْطِ والقسط : العدل .

وأما قوله : وأقِيمُوا وَجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلّ مَسْجِدٍ فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويله فقال بعضهم : معناه : وجهوا وجوهكم حيث كنتم في الصلاة إلى الكعبة . ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله : وأقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلّ مَسْجِدٍ إلى الكعبة حيثما صليتم في الكنيسة وغيرها .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : وَأقيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلّ مَسْجِدٍ قال : إذا صليتم فاستقبلوا الكعبة في كنائسكم وغيرها .

حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : وأقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلّ مَسْجِدٍ هو المسجد : الكعبة .

حدثنا المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا خالد بن عبد الرحمن ، عن عمر بن ذرّ ، عن مجاهد في قوله : وأقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلّ مَسْجِدٍ قال : الكعبة حيثما كنت .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وأقيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلّ مَسْجِدٍ قال : أقيموها للقبلة هذه القبلة التي أمركم الله بها .

وقال آخرون : بل عني بذلك : واجعلوا سجودكم لله خالصا دون ما سواه من الاَلهة والأنداد . ذكر من قال ذلك :

حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، في قوله : وأقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلّ مَسْجِدٍ قال : في الإخلاص أن لا تدعوا غيره ، وأن تخلصوا له الدين .

قال أبو جعفر : وأولى هذين التأويلين بتأويل الاَية ما قاله الربيع ، وهو أن القوم أمروا أن يتوجهوا بصلاتهم إلى ربهم ، لا إلى ما سواه من الأوثان والأصنام ، وأن يجعلوا دعاءهم لله خالصا ، لا مُكاءً ولا تصدية .

وإنما قلنا ذلك أولى التأويلين بالاَية ، لأن الله إنما خاطب بهذه الاَية قوما من مشركي العرب لم يكونوا أهل كنائس وبِيَع ، وإنما كانت الكنائس والبيع لأهل الكتابين ، فغير معقول أن يقال لمن لا يصلي في كنيسة ولا بيعة : وجّه وجهك إلى الكعبة في كنيسة أو بيعة .

وأما قوله : وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدّينَ فإنه يقول : واعملوا لربكم مخلصين له الدين والطاعة ، لا تخلطوا ذلك بشرك ولا تجعلوا في شيء مما تعملون له شريكا . كما :

حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : وَادْعُوهُ مُخْلِصيِنَ لَه الدّين قال : أن تخلصوا له الدين والدعوة والعمل ، ثم توجهون إلى البيت الحرام .

القول في تأويل قوله تعالى : كَما بَدأكُمْ تَعُودُونَ فَريقا هَدَى وَفَرِيقا حَقّ عَلَيْهِمْ الضّلالَةِ .

اختلف أهل التأويل في تأويل قوله : كَما بَدأكُمْ تَعُودُونَ فقال بعضهم : تأويله : كما بدأكم أشقياء وسعداء ، كذلك تُبعثون يوم القيامة . ذكر من قال ذلك :

حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : كمَا بَدأكُمْ تَعُودُونَ فَرِيقا هَدَى وَفَرِيقا حَقّ عَلَيْهِمُ الضّلاَلَةُ قال : إن الله سبحانه بدأ خلق ابن آدم مؤمنا وكافرا ، كما قال جلّ ثناؤه : هُوَ الّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ ثم يعيدهم يوم القيامة كما بدأ خلقهم مؤمنا وكافرا .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن منصور ، قال : حدثنا أصحابنا ، عن ابن عباس : كمَا بَدأكُم تَعُودُونَ قال : يبعث المؤمن مؤمنا ، والكافر كافرا .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا يحيى بن الضريس ، عن أبي جعفر ، عن الربيع ، عن رجل ، عن جابر ، قال : يُبعثون على ما كانوا عليه ، المؤمن على إيمانه والمنافق على نفاقه .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن أبي جعفر الرازي ، عن الربيع ، عن أبي العالية ، قال : عادوا إلى علمه فيهم ، ألم تسمع إلى قول الله فيهم : كمَا بَدأكُمْ تَعُودُونَ ؟ ألم تسمع قوله : فَرِيقا هَدَى وَفَرِيقا حَقّ عَلَيْهِمُ الضّلاَلَةُ ؟ .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عبيد الله ، عن أبي جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية : كمَا بَدأكُمْ تَعُودون قال : رُدّوا إلى علمه فيهم .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا أبو همام الأهوازي ، قال : حدثنا موسى بن عبيدة ، عن محمد بن كعب ، في قوله : كمَا بَدَأكُمْ تَعُودُونَ قال : من ابتدأ الله خلقه على الشّقوة صار إلى ما ابتدأ الله خلقه عليه وإن عمل بأعمال أهل السعادة ، كما أن إبليس عمل بأعمال أهل السعادة ثم صار إلى ما ابتدىء عليه خلقه . ومن ابتدىء خلقه على السعادة صار إلى ما ابتدىء عليه خلقه وإن عمل بأعمال أهل الشقاء ، كما أن السحرة عملت بأعمال أهل الشقاء ثم صاروا إلى ما ابتدىء عليه خلقهم .

حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن وفاء بن إياس أبي يزيد ، عن مجاهد : كمَا بَدأكُمْ تَعُودُونَ قال : يبعث المسلم مسلما ، والكافر كافرا .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو دكين ، قال : حدثنا سفيان ، عن أبي يزيد ، عن مجاهد : كمَا بَدأكُمْ تَعُودُونَ قال : يبعث المسلم مسلما ، والكافر كافرا .

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا محمد بن أبي الوضاح ، عن سالم الأفطس ، عن سعيد بن جبير : كمَا بَداكُمْ تَعُودُونَ قال : كما كتب عليكم تكونون .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا الحماني ، قال : حدثنا شريك ، عن سالم ، عن سعيد ، مثله .

حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : كمَا بَدأكُمْ تَعُودُونَ فَرِيقا هَدَى وَفَرِيقا حَقّ عَلَيْهُمْ الضّلالَةُ يقول : كما بدأكم تعودون كما خلقناكم ، فريق مهتدون وفريق ضالّ ، كذلك تعودون وتخرجون من بطون أمهاتم .

حدثنا ابن بشار ، قل : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن سفيان ، عن جابر ، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم ، قال : «تُبْعَثُ كُلّ نَفْسٍ على ما كانَتْ عَلَيْهِ » .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبو داود الحفري ، عن شريك ، عن سالم ، عن سعيد بن جبير : كمَا بَدأكُمْ تَعُودُونَ قال : كما كُتبَ عليكم تكونون .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا الحماني ، قال : حدثنا حماد بن زيد ، عن ليث ، عن مجاهد ، قال : يبعث المؤمن مؤمنا ، والكافر كافرا .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : كمَا بَدأكُمْ تَعُودُونَ شقيّا وسعيدا .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا سويد ، قال : أخبرنا ابن المبارك قراءة عن مجاهد ، مثله .

وقال آخرون : معنى ذلك : كما خلقكم ولم تكونوا شيئا تعودون بعد الفناء . ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا غندر ، عن عوف ، عن الحسن : كمَا بَدأكُمْ تَعُودُونَ قال : كما بدأكم ولم تكونوا شيئا فأحياكم ، كذلك يميتكم ثم يحييكم يوم القيامة .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عبد الأعلى ، عن عوف ، عن الحسن : كمَا بَدأكُمْ تَعُودُونَ قال : كما بدأكم في الدنيا كذلك تعودون يوم القيامة أحياء .

حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : كمَا بَدأكُمْ تَعُودُونَ قال : بدأ خلقهم ولم يكونوا شيئا ، ثم ذهبوا ثم يعيدهم .

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : كمَا بَدأكُمْ تَعُودُونَ فَرِيقا هَدَى يقول : كما خلقناكم أوّل مرّة كذلك تعودون .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله : كمَا بَدأكُمْ تَعُودُونَ يحييكم بعد موتكم .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : كمَا بَدأكُمْ تَعودُونَ قال : كما خلقهم أوّلاً ، كذلك يعيدهم آخرا .

قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في تأويل ذلك بالصواب ، القول الذي قاله من قال معناه : كما بدأكم الله خلقا بعد أن لم تكونوا شيئا تعودون بعد فنائكم خلقا مثله ، يحشركم إلى يوم القيامة لأن الله تعالى أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يُعْلِمَ بما فِي هذه الاَية قوما مشركين أهل جاهلية لا يؤمنون بالمعاد ولا يصدّقون بالقيامة ، فأمره أن يدعوهم إلى الإقرار بأن الله باعثهم يوم القيامة ومُثيب من أطاعه ومعاقب من عصاه ، فقال له : قل لهم : أمر ربي بالقسط ، وأن أقيموا وجوهكم عند كلّ مسجد ، وأن ادعوه مخلصين له الدين ، وأن أقرّوا بأن كما بدأكم تعودون فترك ذكر «وأن أقرّوا بأن » كما ترك ذكر «أن » مع «أقيموا » ، إذ كان فيما ذكر دلالة على ما حذف منه . وإذ كان ذلك كذلك ، فلا وجه لأن يؤمر بدعاء من كان جاحدا النشور بعد الممات إلى الإقرار بالصفة التي عليها يُنشر من نُشر ، وإنما يؤمر بالدعاء إلى ذلك من كان بالبعث مصدّقا ، فأما من كان له جاحدا فإنما يُدعى إلى الإقرار به ثم يُعَرّف كيف شرائط البعث . على أن في الخبر الذي رُوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي .

حَدثنَاه محمد بن بشار ، قال : حدثنا يحيى بن سعيد ، قال : حدثنا سفيان ، قال : ثني المغيرة بن النعمان ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ، قال : «يُحْشَر النّاسُ عُرَاةً غُرْلاً ، وأوّل مَن يُكْسَى إبْرَاهِيمُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ » ثمّ قَرأ : كمَا بَدأْنا أولَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدا عَلَيْنا إنّا كُنّا فاعِلينَ .

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا إسحاق بن يوسف ، قال : حدثنا سفيان ، عن المغيرة بن النعمان ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ، بنحوه .

حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن المُغيرة بن النعمان ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بموعظة ، فقال : «يا أيّها النّاسُ إنّكُمْ تُحْشَرُونَ إلى اللّهِ حُفاةً غُرْلاً كمَا بَدأنْا أولَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدا عَلَيْنا إنّا كُنّا فاعِلِينَ » .

ما يبين صحة القول الذي قلنا في ذلك ، من أن معناه : أن الخلق يعودون إلى الله يوم القيامة خلقا أحياء كما بدأهم في الدنيا خلقا أحياء ، يقال منه : بدأ الله الخلق يَبْدَؤهم وأبدأهم يُبْدِئهم إبداء بمعنى خلقهم ، لغتان فصيحتان . ثم ابتدأ الخبر جلّ ثناؤه عما سبق من علمه في خلقه وجرى به فيهم قضاؤه ، فقال : هدى الله منهم فريقا فوفّقهم لصالح الأعمال فهم مهتدون ، وحقّ على فريق منهم الضلالة عن الهدى والرشاد ، باتخاذهم الشيطان من دون الله وليّا .

وإذا كان التأويل هذا ، كان الفريق الأوّل منصوبا بإعمال هَدَى فيه ، والفريق الثاني بوقوع قوله حقّ على عائد ذكره في عليهم ، كما قال جلّ ثناؤه : يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظّالِمِينَ أعَدّ لَهُمْ عَذَابا ألِيما . ومن وجّه تأويل ذلك إلى أنه كما بدأكم في الدنيا صنفين : كافرا ، ومؤمنا ، كذلك تعودون في الاَخرة فريقين : فَرِيقا هَدَى وَفَريقا حَقّ عَلَيْهِمُ الضّلالَةُ نصب «فريقا » الأوّل بقوله : «تعودون » ، وجعل الثاني عطفا عليه . وقد بيّنا الصواب عندنا من القول فيه .

القول في تأويل قوله تعالى : إنّهُمُ اتّخذُوا الشّياطِينَ أوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللّهِ وَيَحْسَبُونَ أنّهُمْ مُهْتَدُونَ .

يقول تعالى ذكره : إن الفريق الذي حقّ عليهم الضلالة إنما ضلوا عن سبيل الله وجاروا عن قصد المحجة ، باتخاذهم الشياطين نُصَراء من دون الله وظهراء ، جهلاً منهم بخطأ ما هم عليه من ذلك بل فعلوا ذلك وهم يظنون أنهم على هدى وحقّ ، وأن الصواب ما أتوه وركبوا . وهذا من أبين الدلالة على خطأ قول من زعم أن الله لا يعذّب أحدا على معصية ركبها أو ضلالة اعتقدها إلا أن يأتيها بعد علم منه بصواب وجهها فيركبها عنادا منه لربه فيها ، لأن ذلك لو كان كذلك ، لم يكن بين فريق الضلالة الذي ضلّ وهو يحسب أنه هاد وفريق الهدى فرقٌ ، وقد فرّق الله بين أسمائهما وأحكامهما في هذه الاَية .