التفسير الحديث لدروزة - دروزة  
{قُلۡ أَمَرَ رَبِّي بِٱلۡقِسۡطِۖ وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمۡ عِندَ كُلِّ مَسۡجِدٖ وَٱدۡعُوهُ مُخۡلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَۚ كَمَا بَدَأَكُمۡ تَعُودُونَ} (29)

( 2 ) القسط : هنا بمعنى العدل والحق . والكلمة من الأضداد حيث وردت كلمة القاسطين بمعنى المنحرفين عن الحق .

( 3 ) أقيموا وجوهكم : وجهوا وجوهكم .

( 4 ) مسجد : وردت هذه الكلمة في آيات عديدة في معنى السجود والصلاة مطلقا وفي معنى مكان السجود والصلاة . ويجوز أنها هنا في المعنى الأول كما يجوز أن تكون في المعنى الثاني بل يجوز أن تكون في المعنيين والله أعلم .

28

تعليق على { مسجد }

وبمناسبة ورود هذه الكلمة لأول مرة في هذه الآيات إنها تأتي في القرآن في معنى السجود والصلاة إطلاقا كما تأتي في معنى أماكنهما إطلاقا . غير أنها صارت علما على أماكن عبادة المسلمين ولا تطلق على أماكن غيرهم .

ولقد أثرت أحاديث نبوية كثيرة فيها حث على بناء المساجد والتنويه بمنشئيها وحث على غشيانها وما يجب على المسلمين إزاءها من آداب ، من ذلك حديث رواه الخمسة إلا أبا داود عن عثمان قال : ( سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : من بني مسجدا يبتغي وجه الله بنى الله له مثله في الجنة في رواية بيتا في الجنة ){[950]} . وحديث رواه الشيخان عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( من غدا إلى المسجد أو راح أعد الله له في الجنة نزلا كلما غدا أو راح ) وحديث عنه رواه الخمسة إلا أبا داود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله ، الإمام العادل ، وشاب نشأ في عبادة ربه ، ورجل قلبه معلق بالمساجد ، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه ، ورجل طلبته امرأة ذات منصب وجمال فقال : إني أخاف الله ، ورجل تصدق فأخفى حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه ، ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه ) وروى أبو داود ومسلم عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( الأبعد فالأبعد من المسجد أعظم أجرا ) . وحديث رواه مسلم والنسائي والترمذي عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( من تطهر في بيته ثم مشى إلى بيت من بيوت الله ليقضي فريضة من فرائض الله كانت خطوتاه إحداهما تحط خطيئة والأخرى ترفع درجة ) وحديث رواه أبو داود والترمذي عن بريدة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( بشر المشائين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة ) وحديث رواه الترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا . قلت : يا رسول الله وما رياض الجنة ؟ قال : المساجد ) وحديث رواه الخمسة عن أبي قتادة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( إذا دخل أحدكم المسجد فليركع ركعتين قبل أن يجلس ) وحديث رواه الأربعة عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( البزاق في المسجد خطيئة وكفارتها دفنها ) ولمسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم : ( عرضت علي أعمال أمتي حسنها وسيئها فوجدت في محاسن أعمالها الأذى يماط عن الطريق ووجدت في مساوئ أعمالها النخاعة تكون في المسجد لا تدفن ) . روى الثلاثة عن أنس : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى نخامة في القبلة ، فحكها بيده ، ورئي منه كراهية لذلك وشدته عليه وقال : إن أحدكم إذا قام في صلاته فإنما يناجي ربه فلا يبزقن في قبلته ولكن عن يساره أو تحت قدميه ، ثم أخذ طرف ردائه فبزق فيه ورد بعضه على بعض وقال : أو يفعل هكذا ) ويجب أن يلحظ القارئ أن أرضية مسجد رسول الله الذي كانت الآداب المذكورة في شأنه كانت ترابية يصح دفن البزاق فيها ، وأن هذا لا يقاس عليه بالنسبة لأرضية المساجد اليوم . وأن يلحظ أن ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم بردائه هو تنزيه لأرض المسجد وحينما لا يكون مع المرء منديل يبزق فيه . وروى البخاري عن السائب بن يزيد : ( أن عمر قال لرجلين من أهل الطائف رفعا صوتيهما في المسجد : لو كنتما من أهل البلد لأوجعتكما ، ترفعان أصواتكما في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم ) . وروى مسلم وأبو داود عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( من سمع رجلا ينشد ضالة في المسجد فليقل : لا ردها الله عليك . فإن المساجد لم تبن لهذا ) . وروى الثلاثة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( من مر في شيء من مساجدنا أو أسواقنا بنبل فليأخذ على نصاله بكفه ؛ لا يعقر مسلما ) . وروى الخمسة عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( من أكل البصل والثوم والكراث فلا يقربن مسجدنا ، فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم . وفي رواية : من أكل ثوما أو بصلا فليعتزلنا أو فليعتزل مسجدنا وليقعد في بيته . وفي رواية من أكل من هذه البقلة فلا يقربن مساجدنا حتى يذهب ريحها ) . وروى الترمذي والنسائي : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن تناشد الأشعار في المسجد وعن البيع والاشتراء فيه ، وأن يتحلق الناس يوم الجمعة قبل الصلاة ) . وننبه على أن هناك روايات متواترة على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستقبل الوفود في مسجده من مختلف الأنحاء والملل . وكان منهم من يخطب أو يلقي شعرا بين يديه فيه . ويتفاوض معهم ويكتب لهم رسائل وعهودا . وقد أسر أمير بني حنيفة فجعله في خيمة فيه . وجرح زعيم بني الأوس فضرب له فيه خيمة وأمر ممرضة من المسلمين بمداواته . وجاء وفد من نصارى نجران فتناظر معه في المسجد وأقام في خيمة نصبها له فيه وكان يعقد فيه مجالس قضائه ومشاوراته ووعظه . وكان أصحابه يأتون إلى المسجد في غير أوقات الصلاة فيتحلقون عليه فيه أو على بعضهم ، بل كان منهم من يضطجع أو ينام فيه . وكان فيه صفة يقيم عليها فقراء وغرباء المسلمين إقامة دائمة{[951]} . وكان في ناحية من فنائه صف بيوت نساء النبي صلى الله عليه وسلم وغرفاته التي ذكرت في القرآن : { إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون } [ الحجرات : 4 ] و{ يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين إناه } [ الأحزاب : 53 ] مما فيه صور متنوعة لما كان يجري في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم بحيث يجب أن يحمل هذا الحديث على قصد تنزيه المساجد عن اللهو واللغو والابتذال وما لا يتناسب مع حرمتها من مشاغل الناس الخاصة والشخصية التي لا نفع لها لجماعة المسلمين وبخاصة في أوقات الصلاة والله تعالى أعلم .

وروى أبو داود والترمذي عن عائشة قالت : ( أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ببناء المساجد في الدور وأن تنظف وتطيب ) . وروى الشيخان عن عائشة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي الصبح بغلس فينصرف نساء المؤمنين لا يعرفن من الغلس ) . ويفيد الحديث أن نساء المؤمنين كن يغشين المسجد كالرجال في الليل والنهار . وروى الشيخان وأبو داود عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( لا تمنعوا إماء الله مساجد الله ) وروى مسلم وأبو داود عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( لا تمنعوا إماء الله مساجد الله ) وروى مسلم وأبو داود والترمذي عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( ائذنوا للنساء بالليل إلى المساجد . فقال ابن له يقال له : واقد : إذن يتخذنه دغلا . قال : فضرب في صدره ، وقال : أقول قال رسول الله وتقول : لا ) . وروى الشيخان عنه أيضا عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إذا استأذنكم نساؤكم بالليل إلى المسجد فأذنوا لهن ) . وروى أبو داود عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( ما أمرت بتشييد المساجد ) والمتبادر أن المقصود من ذلك عدم رفع بنائها أو تطويلها أو تجصيصها . وروى البخاري وأبو داود عن ابن عباس قوله : ( لتزخرفنها كما زخرفت اليهود والنصارى ) . وروى أبو داود والنسائي عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( لا تقوم الساعة حتى يتباهى الناس في المساجد ) والأحاديث تحمل على الكراهية وليس على المنع والتحريم .

وروى الشيخان عن عائشة : ( أن أم سلمة ذكرت لرسول الله كنيسة رأتها بأرض الحبشة يقال لها : مارية فذكرت ما رأت فيها من الصور . فقال رسول الله : أولئك قوم إذا مات فيهم العبد الصالح أو الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدا وصوروا فيه تلك الصور . أولئك شرار الخلق عند الله ) وروى الشيخان عن عائشة قالت : ( لما نزل برسول الله- تعني لما مرض المرض الذي مات فيه- طفق يطرح خميصة له على وجهه ، فإذا اغتم بها كشفها عن وجهه فقال : وهو كذلك لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ، يحذر ما صنعوا ) . وننبه على أن هذا لا ينطبق على مكان قبر النبي صلى الله عليه وسلم ؛ لأنه دفن في بيته وكان في ناحية من أنحاء مسجده الذي كان موجودا . وروى مسلم والنسائي عن جندب قال : ( سمعت رسول الله قبل أن يموت بخمس وهو يقول : ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد . ألا فلا تتخذوا القبور مساجد . إني أنهاكم عن ذلك ) . وروى البخاري وأبو داود في صفة مسجد رسول الله حديثا عن ابن عمر جاء فيه : ( أن المسجد كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم مبنيا باللبن ، وسقفه الجريد ، وعمده خشب النخل فلم يزد فيه أبو بكر شيئا ، وزاد فيه عمر وبناه على بنيانه في عهد رسول الله باللبن والجريد ، وأعاد عمده من خشب النخل . ثم غيره عثمان فزاد فيه زيادة كبيرة ، وبنى جداره بالحجارة المنقوشة والقصة{[952]} وجعل عمده من حجارة منقوشة وسقفه بالساج ) . وروى البخاري والترمذي عن جابر قال : ( كان النبي يخطب إلى جذع ، فلما اتخذ المنبر حن الجذع حتى أتاه النبي فالتزمه فسكن ) . وروى الثلاثة ( أن امرأة قالت : يا رسول الله ألا أجعل لك شيئا تقعد عليه فإن لي غلاما نجارا ؟ قال : إن شئت ، فعملت المنبر ) . وروى الخمسة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد : مسجدي هذا ، ومسجد الحرام ، ومسجد الأقصى ) . وروى الشيخان والترمذي وابن ماجه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام . وزاد ابن ماجه وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة ألف صلاة فيما سواه ) . وروى أبو داود وابن ماجه عن ميمونة مولاة النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت : ( يا رسول الله أفتنا في بيت المقدس ؟ فقال : ائتوه فصلوا فيه . فإن لم تأتوه وتصلوا فيه فابعثوا بزيت يسرج في قناديله ) . وروى النسائي عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إن سليمان بن داود عليهما السلام لما بنى بيت المقدس سأل الله عز وجل ثلاثا حكما يصادف حكمه- أي يوافق حكم الله- فأوتيه وملكا لا ينبغي لأحد من بعده فأوتيه ، وسأل الله تعالى حين فرغ من بنائه ألا يأتيه أحد لا ينهزه إلا الصلاة فيه أن يخرجه من خطيئته كيوم ولدته أمه ) .

والمقصود من كلمة بيت المقدس الواردة في الحديثين الأخيرين هو مسجد بيت المقدس كما هو المتبادر وهو المقصود من كلمة [ المسجد الأقصى ] الوارد في حديث أبي هريرة الذي رواه الخمسة . وقد وردت هذه الكلمة في آية سورة الإسراء الأولى أيضا وهي : ( سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله ) والمقصود من كلمة [ الأقصى ] هو البعيد بعدا شاسعا .

ولقد كان هذا المسجد حين صدور الأحاديث وحين نزول الآية خرابا ليس في محله إلا الأنقاض بحيث تكون التسمية القرآنية والنبوية على اعتبار ما كان وبحيث يحمل حديث أبي هريرة ثم حديث ميمونة على أن الله عز وجل كشف لنبيه أن المسلمين سيقيمون محل هذه الأنقاض مسجدا يسمونه المسجد الأقصى كما سماه القرآن ويكون مما تشد الرحال إليه مع المسجد الحرام ومسجد النبي صلى الله عليه وسلم . والله تعالى أعلم .


[950]:- هذا الحديث والأحاديث التالية له منقولة من الجزء الأول من كتاب التاج ص 205 وما بعدها.
[951]:- في سيرة ابن هشام وفي طبقات ابن سعد، وهما من قدم أو أقدم مما وصل إلينا من كتب سيرة رسول الله روايات كثيرة في كل ذلك يبدو عليها طابع الصحة. وروى الثلاثة عن أبي هريرة قال: (بعث رسول الله خيلا قبل نجد فجاءت برجل من بني حنيفة يقال له: ثمامة بن أثال فربطوه بسارية من سواري المسجد) التاج ج 1 ص 214. وروى ا لخمسة عن عباد بن تميم عن عمه (أنه رأى رسول الله مستلقيا في المسجد واضعا رجله على الأخرى) ص 214 وروى البخاري والترمذي: (أن ابن عمر وهو شاب أعزب لا أهل له كان ينام في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم) ص 214 وهناك أحاديث أخرى من هذا الباب رواها غير الخمسة ووردت في مجمع الزوائد.
[952]:- الراجح أن الحجارة المنقوشة تعني المحسنة بالحجم والوجه على نحو ما يفعل البناؤون في نقش الحجارة حينما يبنون بها، أما القصة فقد ذكر الشراح أن المقصود منها التجصيص.