اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{قُلۡ أَمَرَ رَبِّي بِٱلۡقِسۡطِۖ وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمۡ عِندَ كُلِّ مَسۡجِدٖ وَٱدۡعُوهُ مُخۡلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَۚ كَمَا بَدَأَكُمۡ تَعُودُونَ} (29)

قال ابن عباس : أمر ربِّي ب " لا إله إلا الله " لقوله تعالى : { شَهِدَ الله أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ والملائكة } إلى قوله : { قَائِمَاً بالقسط }{[16017]} [ آل عمران : 18 ] .

وقال الضحاك : هو بالتوحيد .

وقال مُجَاهِدٌ : والسُّدِّيُّ : بالعدل{[16018]} .

قوله : " وأقِيمُوا " فيه وجْهَانِ :

أظهرهما : أنَّهُ مَعْطُوفٌ على الأمْرِ المقدر أي الذي ينحل إليه المصدر ، وهو " بالقِسْطِ " وذلك أنَّ القِسْط مصدر فهو ينحل لحرف مصدري ، وفعل ، فالتَّقديرُ : قل : أمر ربي بأن أقسطوا وأقيموا ، وكما أنَّ المصدر ينحلُّ إلى " أنَّ والفعل الماضي " نحو : عَجِبْتُ من قِيَام زَيْدٍ وخرج ، أي : من أن قام ، وخَرَجَ ول " أن " وللفعل المضارع كقولها : [ الوافر ]

لَلُبْسُ عَبَاءَةٍ وتَقرَّ عَيْنِي *** . . . {[16019]}

أي : لأن ألبس عباءة وتقر ، كذلك ينحل ل " أنَّ " وفعل أمر ؛ لأنَّهَا توصل بالثَّلاث الصِّيغ : الماضي والمُضارع والأمر بشرط التَّصَرُّف ، وقد تقدَّم تحقيقُ هذه المسألة وإشكالها وجوابُهُ .

وهذا بخلاف " ما " فإنَّهَا لا تُوصَلُ بالأمْرِ ، وبخلاف " كي " فإنَّهَا لا توصل إلا بالمُضَارِع ، فلذلك لا ينحلُّ المصدر إلى " ما " وفعل أمر ، ولا إلى " كي " وفعل ماضي أو مضارع .

وقال الزَّمخْشَرِيُّ{[16020]} : وقل أقيموا وجوهكم أي : اقصدوا عبادته ، وهذا من الزَّمَخْشَرِيُّ يحتمل تأويلين :

أحدهما : أن يكون قوله " قل " أراد أنه مقدر غير هذا الملفوظ به فيكون " وأقيموا " معمولاً لقول أمر مقدر ، وأن يكون معطوفاً على قوله : " أمر رَبِّي " فإنه معمول ل " قل " وإنما أظهر الزَّمَخْشرِيُّ " قُلْ " مع أقِيمُوا لتحْقيق عطفيته على " أمر رَبِّي " .

ويجوز أن يكُون قوله " وأقِيمُوا " معطوفاً على أمْرٍ محذوف تقديره قل : أقبلوا وأقيموا .

وقال الجُرْجانِيُّ صاحب " النَّظْم{[16021]} " : نسق الأمر على الجر وجاز ذلك ؛ لأنَّ قوله { قُلْ أَمَرَ رَبِّي } قول لأن الأمْرَ لا يكُونُ إلا كلاماً ، والكلام قول ، وكأنه قال : قل : يقول ربي : اقسطوا وأقيموا ، يعني أنَّهُ عطف على المعنى .

و " مسجد " هنا يحتمل أن يكون مَكَاناً وزماناً .

قال الزَّمَخْشَرِيُّ : في وقت كلِّ سُجُودٍ ، وفي مكان كلِّ سُجُودٍ ، وكان من حَقِّ " مسجد " بفتح العين لضمها في المضارع ، وله في هذا الشذوذ أخوات كثيرة مذكورة في التَّصريفِ{[16022]} .

فصل في المراد ب " أقيموا وجوهكم "

قال مجاهد والسدي : معنى { وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ } وجهوا حَيْثُ ما كنتم في الصَّلاةِ إلى الكَعْبَةِ{[16023]} .

وقال ابْنُ عبَّاس والضحاك : إذا حضرت الصَّلاةُ ، وأنتم عند مَسْجِدِ فصلُّوا فيه ولا يقولن أحدكُم أصلي في مَسجْدِي{[16024]} .

وقيل : معناه : اجعلوا سجودكم لِلَّهِ خَالِصاً ، والسبب في ذكر هذين القولين أنّ إقامة الوجه في العبادة قد تكون باستقبال القِبْلَةِ ، وقد تكون بالإخلاص في تلك العِبَادَةِ .

والأقرب هو الأوَّلُ ؛ لأنَّ الإخْلاَصَ مذكور بعده ، فلو حملناه على معنى الإخلاص صار كأنَّهُ قال : وأخلصوا عند كلِّ مَسْجدٍ وادْعُوه مُخلصينَ ، وذلك لا يستقيم . فإن قيل يستقيمُ ذلك إذا علقت الإخلاصَ بالدُّعَاءِ فقط .

فالجواب لما أمكن رجوعه إليهما جميعاً لم يَجُزْ قصرهما على أحدهما خصوصاً مع قوله : { مُخْلِصِينَ لَهُ الدين } فعم كل ما يسمى ديناً ، وإذا ثبت هذا فاختلفوا في قوله : { عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ } هل المرادُ منه زمان الصَّلاة أو مكانها على ما تقدم ؟

قوله : " مُخْلِصينَ " حال من فاعل " ادْعُوه " ، و " الدَّين " مفعولٌ به باسْمِ الفاعل وله متعلق ب " مخْلِصِينَ " ويجوز أن يتعلَّق بمحذوف على أنَّهُ حالٌ من " الدين " ، والمراد اعبدوه مخلصين له الطَّاعة .

" والعِبَادَة " قال ابن الخطيب{[16025]} : المرادُ به أعمالُ الصَّلاةِ ، وسمَّاها دعاءً لأنَّ الصلاة في اللُغة عبارة عن الدُّعاء ، ونظيره قوله { وَمَا أمروا إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين } [ البينة : 5 ] .

قوله : " كَمَا بَدَأَكُمْ " " الكاف " في محل نَصْبِ نَعْتاً لمصدر محذوف تقديرُهُ : تعُودُون عَوْداً مثل ما بدأكم .

وقيل : تقديره : تُخْرَجُونَ خُرُوجاً مثل ما بَدَأكُم ذكرهما مَكي{[16026]} ، والأوَّل أليق بلفظ الآية الكريمة .

وقال ابن الأنْبَارِيِّ : موضع " الكاف " في " كما " نصب ب " تَعُودُونَ " وهو على مذهب العرب في تقديم مفعول الفعل عليه أي : تعودون كما ابتدأ خلقكم .

قال الفارسي : كما بَدَأكُم تعودُون ليس على ظَاهِرِه إذ ظاهره تعودون على البَدْءِ ، وليس المَعْنَى تشبيههم بالبَدْءِ ، إنَّمَا المعنى على إعادة الخلق كما ابتدئ ، فتقدير " كما بَدأكُمْ تعُودُون " : كما بدأ خلقكم أي : يُحيي خلقكم عوداً كبدئه ، وكما أنَّه لم يَعْنِ بالبدء ظاهره من غير حذف المضاف إليه ، كذلك لم يَعْنِ بالعود من غير حذف المُضافِ الذي هو [ " الخلق " فلما حذف قام المضاف إليه مَقَامَ الفاعِلِ ، فصار الفَاعِلُونَ مخاطبين . كما أنه لما حذف المضاف ]{[16027]} من قوله : { كما بدأ خلقكم } صار المخاطبون مفعولين في اللفظ قال شهاب الدين{[16028]} : يعني أنَّ الأصل كما بَدَأ خلقكم يعودُ خلقكم ، فحذف " الخلق " في الموضعين وصار المخاطبون في الأوَّلِ مفعولين بعد أن كَانُوا مجرورين بالإضافة أيضاً وفي الثاني صاروا فَاعِلينَ بعد أنْ كانوا مجرورين بالإضافة . و " بدأ " بالهمز أنشأ واخترع ، ويستعمل بهذا المعنى ثلاثياً ورباعياً على " أفْعَلَ " فالثلاثيُّ كهذه الآية ، وقد جمع بين الاستعمالين في قوله تعالى :

{ أَوَلَمْ يَرَوْاْ كَيْفَ يُبْدِئُ الله الخلق } [ العنكبوت : 20 ] فهذا من " أبدأ " ثم قال : كيف بدأ الخلق ، هذا فيما يتعدى بنفسه .

وأما ما يتعدَّى بالباءِ نحو : بَدَأتُ بكذا بمعنى قدَّمته وجعلتهُ أوَّل الأشياء ، يقال منه : بَدَأتُ به وابتدأت به .

وحكى الرَّاغِب أيضاً أنَّهُ يقال من هذا : ابْدأتُ به على " أفْعَلَ " وهو غريب .

وقولهم : أبْدأت من أرض كذا أي : ابتدأت منها بالخُرُوجِ والبَدْء السيد سمي بذلك ؛ قيل : لأنه يبدأ به في العد إذا عُدَّ السَّادَات وذكروا عليه قوله : [ الوافر ]

فَجِئْتُ قُبُورَهُمْ بَدْءاً ولَمَّا *** فَنَادَيتُ القُبُورَ فَلَمْ تُجِبْنَهْ{[16029]}

أي جئت قَبُورَ قومي سيّداً ولم أكن سَيّداً ، لكن بموتهم صيّرت سيّداً ، وهذا ينظر لقول الآخر : [ الكامل ]

خَلَتِ الدِّيَارُ فَسُدْتُ غَيْرَ مُسَوَّرِ *** وَمِنَ العَنَاءِ تَفَرُّدِي بالسُّؤدُدِ{[16030]}

و " ما " مصدريَّةٌ ، أي : كبدئكم .

فصل في معنى " كما بدأكم تعودون " .

قال ابنُ عبَّاس : إنَّ الله بدأ خلق بني آدم مؤمناً وكافراً ، كما قال : { هُوَ الذي خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُمْ مُّؤْمِنٌ } [ التغابن : 2 ] ، ثم يعيدُهم يَوْمَ القيامةِ كما خلقهم مُؤمناً وكافراً{[16031]} .

وقال جَابِرٌ : يُبعثون على ما مَاتُوا عليه{[16032]} .

روى جابر بْنُ عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يبعثُ كُلُّ عَبْدٍ عَلَى مَا مَاتَ عليْهِ ، المُؤمِنُ على إيْمَانِهِ ، والكَافِرُ على كُفْرِهِ " {[16033]}

وقال أبو العالية : " عَادُوا على علمه فيهم {[16034]} " .

وقال سعيدُ بْنُ جُبَيْرٍ : " كما كتب عَلَيْكُم تَكُونُونَ {[16035]} " .

وقال محمدٌ بْنُ كَعْب : " من ابتدأ الله خلقه على الشِّقْوَةِ صار إليها ، وإن عمل عمل أهل السَّعادةِ ، كما أنَّ إبليس كان يعمل بِعَمَلِ أهل السَّعادةِ ثم صارَ إلى الشَّقاوةِ ، ومن ابتدأ خلقه على السَّعادة صار إليها ، وإن عمل بأعْمَال أهل الشٌّقاوة ، كما أنَّ السَّحَرَةَ كانت تَعْمَلُ بعمل أهل الشَّقاوةِ فَصَارُوا إلى السَّعادة{[16036]} " .

روى سهل بْنُ سَعْد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن العبد يَعْمَلُ فيما يرى النَّاسُ بعمل أهل الجَنَّةِ ، وأنَّهُ من أهل النَّار ، وإنَّهُ ليعمل فيما يرى النَّاس بعمل أهل النَّارِ ، وإنما هو من أهل الجنَّةِ ، وإنَّما الأعْمَالُ بالخواتيم{[16037]} "

وقال الحسنُ ومُجَاهِدُ : كمَا بَدَأكُمْ وخلقكم في الدُّنْيَا ولم تكونا شيئاً ، كذلك تعودون أحياء يَوْمِ القيامةِ : كما قال : { كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ }{[16038]} [ الأنبياء : 104 ] .

قال قتادةُ ، هم من التُّراب وإلى التُّراب يعودُونَ ، ونظيره : { مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ }{[16039]} [ طه : 55 ] ، واعلم أنَّه تعالى أمر أولاً بكلمة القِسْطِ وهي لا إله إلا الله ، ثم أمر بالصَّلاة ثانياً ، ثم بيَّن أنَّ الفائدة في الإتْيَانِ بهذه الأعمال إنما تظهر في الآخرة ، ونظيره قوله تعالى لموسى : { إنني أَنَا الله لا إله إلاا أَنَاْ فاعبدني وَأَقِمِ الصلاة لذكري إِنَّ الساعة آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا } [ طه : 14 - 15 ] .


[16017]:ذكره الرازي في تفسيره 14/48.
[16018]:أخرجه الطبري في تفسيره 5/464 عن مجاهد والسدي وذكره السيوطي في الدر المنثور 3/143 عن مجاهد وزاد نسبته لابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ.
[16019]:تقدم.
[16020]:ينظر الكشاف 2/99.
[16021]:ينظر: تفسير الرازي 14/48.
[16022]:ينظر: المفصل لابن يعيش 6/107.
[16023]:أخرجه الطبري في "تفسيره" 5/464 عن مجاهد والسدي، وذكره السيوطي في الدر المنثور 3/143 عن مجاهد.
[16024]:ذكره الرازي في تفسيره 14/48.
[16025]:ينظر: تفسير الرازي 14/48.
[16026]:ينظر: المشكل 1/311.
[16027]:سقط من أ.
[16028]:ينظر: الدر المصون 3/258.
[16029]:ينظر البيت في الهمع 2/57، المغني 1/80، الصاحبي 219 ، الأشموني 4/6، اللسان (لمم)، الخزانة 10/113، الدر المصون 3/258.
[16030]:ينظر البيت في شرح الحماسة 2/708، وأمالي المرتضى 1/388، والدر المصون 3/258.
[16031]:أخرجه الطبري في تفسيره 5/465 وذكره السيوطي في الدر المنثور 3/144 وزاد نسبته لابن المنذر وابن أبي حاتم.
[16032]:أخرجه الطبري في تفسيره 5/465 عن جابر.
[16033]:أخرجه مسلم 4/2206 كتاب الجنة: باب الأمر بحسن الظن بالله تعالى عند الموت حديث 83/3878 وأحمد 3/331، 366 من حديث جابر.
[16034]:أخرجه الطبري في تفسيره 5/466.
[16035]:أخرجه الطبري في تفسيره 5/466 وذكره السيوطي في الدر المنثور 3/144 وزاد نسبته لعبد بن حميد.
[16036]:أخرجه الطبري في تفسيره 5/466 وذكره السيوطي في الدر المنثور 3/144 وزاد نسبته لابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ.
[16037]:أخرجه مسلم 1/106 كتاب الإيمان باب بيان غلظ تحريم النميمة 179/112 من حديث سالم بن سعد.
[16038]:أخرجه الطبري في تفسيره 5/467 وذكره السيوطي في الدر المنثور 3/144 وزاد نسبته لابن أبي شيبة وابن المنذر.
[16039]:ذكره السيوطي في الدر المنثور 3/144 عن الربيع بن أنس بمعناه وعزاه لابن أبي حاتم.