تحدثت في بدايتها عن إثبات رسالة محمد صلى الله عليه وسلم وعن إنكار الكفار أن يجيء رسول منهم ، واستبعادهم البعث بعد أن يصيروا ترابا ، وعرضت للأدلة الكونية الدالة على أن الله لا يعجزه أن يبعث الناس بعد موتهم ، وهو الذي خلقهم أولا ويعلم ما توسوس به نفوسهم ، وأحصى أعمالهم وأقوالهم في كتاب دقيق الحفظ ، وأبانت أن محاولة الكفار في يوم القيامة التنصل من الكفر الذي كان في الدنيا بإلقاء التبعة على قرنائهم من الشياطين لا تجديهم نفعا . إذ ينتهي الجدال بينهم بإلقائهم جميعا في النار . في حين يتفضل الله على المؤمنين بالنعيم الدائم في الجنة . ثم أنهت السورة حديثها بأمره صلى الله عليه وسلم بالصبر على أذى الكافرين الذين لم يعتبروا بمصير المكذبين من الأمم قبلهم ، وتوجيهه صلى الله عليه وسلم إلى الثبات على عبادة الله ، وتأكيد أمر البعث ، وتسليته صلى الله عليه وسلم بأنه مذكر للمؤمنين ، وليس بمسيطر على الكافرين .
1 - ق : حرف من حروف الهجاء افتتحت السورة به على طريقة القرآن الكريم في افتتاح بعض السور ببعض هذه الحروف للتحدي وتنبيه الأذهان ، أُقسم بالقرآن ذي الكرامة والمجد والشرف : إنا أرسلناك - يا محمد - لتنذر الناس به ، فلم يؤمن أهل مكة ، بل عجبوا أن جاءهم رسول من جنسهم يُنذرهم بالبعث ، فقال الكافرون : هذا شيء منكر عجيب .
كان رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] يخطب بهذه السورة في العيد والجمعة ؛ فيجعلها هي موضوع خطبته ومادتها ، في الجماعات الحافلة . . وإن لها لشأنا . .
إنها سورة رهيبة ، شديدة الوقع بحقائقها ، شديدة الإيقاع ببنائها التعبيري ، وصورها وظلالها وجرس فواصلها . تأخذ على النفس أقطارها ، وتلاحقها في خطراتها وحركاتها ، وتتعقبها في سرها وجهرها ، وفي باطنها وظاهرها . تتعقبها برقابة الله ، التي لا تدعها لحظة واحدة من المولد ، إلى الممات ، إلى البعث ، إلى الحشر ، إلى الحساب . وهي رقابة شديدة دقيقة رهيبة . تطبق على هذا المخلوق الإنساني الضعيف إطباقا كاملا شاملا . فهو في القبضة التي لا تغفل عنه أبدا ، ولا تغفل من أمره دقيقا ولا جليلا ، ولا تفارقه كثيرا ولا قليلا . كل نفس معدود . وكل هاجسة معلومة . وكل لفظ مكتوب . وكل حركة محسوبة . والرقابة الكاملة الرهيبة مضروبة على وساوس القلب ، كما هي مضروبة على حركة الجوارح . ولا حجاب ولا ستار دون هذه الرقابة النافذة ، المطلعة على السر والنجوى اطلاعها على العمل والحركة ، في كل وقت وفي كل حال .
وكل هذه حقائق معلومة . ولكنها تعرض في الأسلوب الذي يبديها وكأنها جديدة ، تروع الحس روعة المفاجأة ؛ وتهز النفس هزا ، وترجها رجا ، وتثير فيها رعشة الخوف ، وروعة الإعجاب ، ورجفة الصحو من الغفلة على الأمر المهول الرهيب !
وذلك كله إلى صور الحياة ، وصور الموت ، وصور البلى ، وصور البعث ، وصور الحشر . وإلى إرهاص الساعة في النفس وتوقعها في الحس . وإلى الحقائق الكونية المتجلية في السماء والأرض ، وفي الماء والنبت ، وفي الثمر والطلع . . ( تبصرة وذكرى لكل عبد منيب ) . .
وإنه ليصعب في مثل هذه السورة التلخيص والتعريف ، وحكاية الحقائق والمعاني والصور والظلال ، في غير أسلوبها القرآني الذي وردت فيه ؛ وفي غير عبارتها القرآنية التي تشع بذاتها تلك الحقائق والمعاني والصور والظلال ، إشعاعا مباشرا للحس والضمير .
وتبدأ السورة بالقسم . القسم بالحرف : ( قاف )وبالقرآن المجيد ، المؤلف من مثل هذا الحرف . بل إنه هو أول حرف في لفظ " قرآن " . .
ولا يذكر المقسم عليه . فهو قسم في ابتداء الكلام ، يوحي بذاته باليقظة والاهتمام . فالأمر جلل ، والله يبدأ الحديث بالقسم ، فهو أمر إذن له خطر . ولعل هذا هو المقصود بهذا الابتداء . إذ يضرب بعده بحرف( بل )عن المقسم عليه - بعد أن أحدث القسم أثره في الحس والقلب - ليبدأ حديثا كأنه جديد عن عجبهم واستنكارهم لما جاءهم به رسولهم في القرآن المجيد من أمر البعث والخروج :
وهذه السورة هي أول الحزب المفصل على الصحيح ، وقيل : من الحجرات . وأما ما يقوله العامة{[1]} : إنه من( عَمّ ) فلا أصل له ، ولم يقله أحد من العلماء المعتبرين{[2]} فيما نعلم . والدليل على أن هذه السورة هي أول المفصل ما رواه أبو داود في سننه ، باب " تحزيب القرآن " ثم قال :
حدثنا مُسَدَّد ، حدثنا قُرَّان بن تمام ، ( ح ) وحدثنا عبد الله بن سعيد أبو سعيد الأشج ، حدثنا أبو خالد سليمان بن حبان - وهذا لفظه - عن عبد الله بن عبد الرحمن بن يعلى ، عن عثمان بن عبد الله بن أوس ، عن جده - قال عبد الله بن سعيد : حدثنيه أوس بن حذيفة - ثم اتفقا . قال : قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم في وفد ثقيف ، قال : فنزلت الأحلاف على المغيرة بن شعبة ، وأنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بني مالك في قُبة له - قال مسَدَّد : وكان في الوفد الذين قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم من ثقيف ، قال : كان رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] {[3]} كل ليلة يأتينا بعد العشاء يحدثنا - قال أبو سعيد : قائما على رجليه حتى يراوح بين رجليه من طول القيام - فأكثر ما يحدثنا ما لقي من قومه قريش ، ثم يقول : لا سواء {[4]} وكنا مستضعفين مستذلين - قال مُسدَّد : بمكة - فلما خرجنا إلى المدينة كانت سجال الحرب بيننا وبينهم ، ندال عليهم ويدالون علينا . فلما كانت ليلة أبطأ{[5]} عن الوقت الذي كان يأتينا فيه ، فقلنا : لقد أبطأت عنا {[6]} الليلة ! قال : " إنه طرأ علي حزبي من القرآن ، فكرهت أن أجيء حتى أتمه " . قال أوس : سألت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : كيف تحزبون القرآن ؟ فقالوا : ثلاث ، وخمس ، وسبع ، وتسع ، وإحدى عشرة ، وثلاث عشرة ، وحزب المفصل وحده .
ورواه ابن ماجه عن أبي بكر بن أبي شيبة ، عن أبي خالد الأحمر ، به . ورواه الإمام أحمد عن عبد الرحمن بن مهدي ، عن عبد الله بن عبد الرحمن ، هو ابن{[7]} يعلى الطائفي به {[8]} .
إذا علم هذا ، فإذا عددت ثمانيا وأربعين سورة ، فالتي بعدهن سورة " ق " . بيانه : ثلاث : البقرة ، وآل عمران ، والنساء . وخمس : المائدة ، والأنعام ، والأعراف ، والأنفال ، وبراءة . وسبع : يونس ، وهود ، ويوسف ، والرعد ، وإبراهيم ، والحجر ، والنحل . وتسع : سبحان ، والكهف ، ومريم ، وطه ، والأنبياء ، والحج ، والمؤمنون ، والنور ، والفرقان . وإحدى عشرة : الشعراء ، والنمل ، والقصص ، والعنكبوت ، والروم ، ولقمان ، والم ، السجدة ، والأحزاب ، وسبأ ، وفاطر ، و يس . وثلاث عشرة : الصافات ، وص ، والزمر ، وغافر ، و حم ، السجدة ، وحم عسق ، والزخرف ، والدخان ، والجاثية ، والأحقاف ، والقتال ، والفتح ، والحجرات . ثم بعد ذلك الحزب المفصل كما قاله الصحابة ، رضي الله عنهم . فتعين أن أوله سورة " ق " وهو الذي قلناه{[9]} ، ولله الحمد والمنة .
قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، حدثنا مالك ، عن ضَمْرة بن سعيد ، عن عُبَيد الله {[10]} بن عبد الله ؛ أن عمر بن الخطاب سأل أبا واقد الليثي : ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في العيد ؟ قال : بقاف ، واقتربت .
ورواه مسلم وأهل السنن الأربعة ، من حديث مالك ، به {[11]} . وفي رواية لمسلم عن فليح{[12]} عن ضمرة ، عن عبيد الله{[13]} ، عن أبي واقد قال : سألني عمر ، فذكره{[14]} .
حديث آخر : وقال أحمد : حدثنا يعقوب ، حدثنا أبي ، عن ابن إسحاق ، حدثني عبد الله بن محمد بن أبي بكر بن عمرو بن حزم ، عن يحيى بن عبد الله بن عبد الرحمن بن سعد{[15]} بن زُرَارة ، عن أم هشام بنت حارثة قالت : لقد كان تَنُّورنا وتنور النبي صلى الله عليه وسلم واحدا سنتين ، أو سنة وبعض سنة ، وما أخذت { ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ } إلا على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كان يقرؤها كل يوم جمعة على المنبر إذا خطب الناس .
رواه مسلم [ أيضا ]{[16]} من حديث ابن إسحاق ، به {[17]} .
وقال أبو داود : حدثنا محمد بن بشار ، حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، عن خبيب {[18]} ، عن عبد الله بن محمد بن معن ، عن ابنة الحارث بن النعمان قالت : ما حفظت " ق " إلا من فِي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يخطب بها كل جمعة . قالت : وكان تنورنا وتنور رسول الله صلى الله عليه وسلم واحدًا .
وكذا رواه مسلم والنسائي وابن ماجه ، من حديث شعبة ، به {[19]} .
والقصد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ بهذه السورة في المجامع الكبار ، كالعيد والجمع ، لاشتمالها على ابتداء الخلق والبعث والنشور ، والمعاد والقيام ، والحساب ، والجنة والنار ، والثواب والعقاب ، والترغيب والترهيب .
{ ق } : حرف من حروف الهجاء المذكورة {[27267]} في أوائل السور ، كقوله : ( ص ، ن ، الم ، حم ، طس ) ونحو ذلك ، قاله مجاهد وغيره . وقد أسلفنا الكلام عليها ، في أول " سورة البقرة " بما أغنى عن إعادته .
وقد روي عن بعض السلف أنهم قالوا { ق } : جبل محيط بجميع الأرض ، يقال له جبل قاف . وكأن هذا - والله أعلم - من خرافات بني إسرائيل التي أخذها عنهم بعض الناس ، لما رأى من جواز الرواية عنهم فيما{[27268]} لا يصدق ولا يكذب . وعندي أن هذا وأمثاله وأشباهه من اختلاق بعض زنادقتهم ، يلبسون به على الناس أمر دينهم ، كما افترى في هذه الأمة - مع جلالة قدر علمائها وحفاظها وأئمتها - أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم وما بالعهد من قدم ، فكيف بأمة بني إسرائيل مع طول المدى ، وقلة الحفاظ النقاد فيهم ، وشربهم الخمور{[27269]} ، وتحريف علمائهم الكلم عن مواضعه ، وتبديل كتب الله وآياته ! وإنما أباح الشارع الرواية عنهم في قوله : " وحدثوا عن بني إسرائيل ، ولا حرج " فيما قد يجوزه العقل ، فأما فيما تُحيله العقول ويحكم عليه بالبطلان ، ويغلب على الظنون كذبه ، فليس من هذا القبيل - والله أعلم .
وقد أكثر كثير من السلف من المفسرين ، وكذا طائفة كثيرة من الخلف ، من الحكاية عن كتب أهل الكتاب في تفسير القرآن المجيد ، وليس بهم احتياج إلى أخبارهم ، ولله الحمد والمنة ، حتى إن الإمام أبا محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي ، رحمه الله ، أورد هاهنا أثرا غريبا لا يصح سنده عن ابن عباس فقال :
حدثنا أبي قال : حدثت عن محمد بن إسماعيل المخزومي : حدثنا ليث بن أبي سليم ، عن مجاهد ، عن ابن عباس قال : خلق الله من وراء هذه الأرض بحرًا محيطًا ، ثم خلق من وراء ذلك جبلا يقال له " ق " السماء الدنيا مرفوعة عليه . ثم خلق الله من وراء ذلك الجبل أرضا مثل تلك الأرض سبع مرات . ثم خلق من وراء ذلك بحرا محيطًا بها ، ثم خلق من وراء ذلك جبلا يقال له " ق " السماء الثانية مرفوعة عليه ، حتى عد سبع أرضين ، وسبعة أبحر ، وسبعة أجبل ، وسبع سموات . قال : وذلك قوله : { وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ } [ لقمان : 27 ] .
فإسناد هذا الأثر فيه انقطاع ، والذي رواه ابن أبي طلحة ، عن ابن عباس في قوله : { ق } قال : هو اسم من أسماء الله ، عز وجل .
والذي ثبت عن مجاهد : أنه حرف من حروف الهجاء ، كقوله : ( ص ، ن ، حم ، طس ، الم ) ونحو ذلك . فهذه تُبْعِد ما تقدم عن ابن عباس .
وقيل : المراد " قضِي الأمر واللهِ " ، وأن قوله : { ق } دلت على المحذوف من بقية الكلم{[27270]} كقول الشاعر :
وفي هذا التفسير نظر ؛ لأن الحذف في الكلام إنما يكون إذا دل دليل عليه ، ومن أين يفهم هذا من ذكر هذا الحرف ؟ .
وقوله : { وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ } أي : الكريم العظيم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، تنزيل من حكيم حميد .
واختلفوا في جواب القسم ما هو ؟ فحكى ابن جرير عن بعض النحاة أنه قوله : { قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الأرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ }
وفي هذا نظر ، بل الجواب هو مضمون الكلام بعد القسم ، وهو إثبات النبوة ، وإثبات المعاد ، وتقريره وتحقيقه وإن لم يكن القسم متلقى لفظًا ، وهذا كثير في أقسام القرآن كما تقدم في قوله : { ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ } [ ص : 1 ، 2 ] ،
وهكذا قال هاهنا : { ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ }