وإلى هنا كان الوحي يحكي قول الجن بألفاظهم المباشرة عن أنفسهم ؛ ثم عدل عن هذا النسق إلى تلخيص مقالة لهم عن فعل الله مع الذين يستقيمون على الطريقة إليه ، وذكرها بفحواها لا بألفاظها :
( وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا لنفتنهم فيه ، ومن يعرض عن ذكر ربه يسلكه عذابا صعدا ) . .
يقول الله - سبحانه - إنه كان من مقالة الجن عنا : ما فحواه أن الناس لو استقاموا على الطريقة ، أو أن القاسطين لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم نحن ماءا موفورا نغدقه عليهم ، فيفيض عليهم بالرزق والرخاء . . ( لنفتنهم فيه ) . . ونبتليهم أيشكرون أم يكفرون .
وهذا العدول عن حكاية قول الجن إلى ذكر فحوى قولهم في هذه النقطة ، يزيد مدلولها توكيدا بنسبة الإخبار فيها والوعد إلى الله سبحانه . ومثل هذه اللفتات كثير في الأسلوب القرآني ، لإحياء المعاني وتقويتها وزيادة الانتباه إليها .
وهذه اللفتة تحتوي جملة حقائق ، تدخل في تكوين عقيدة المؤمن ، وتصوره عن مجريات الأمور وارتباطاتها .
والحقيقة الأولى : هي الارتباط بين استقامة الأمم والجماعات على الطريقة الواحدة الواصلة إلى الله ، وبين إغداق الرخاء وأسبابه ؛ وأول أسبابه توافر الماء واغدوداقه . وما تزال الحياة تجري على خطوات الماء في كل بقعة . وما يزال الرخاء يتبع هذه الخطوات المباركة حتى هذا العصر الذي انتشرت فيه الصناعة ، ولم تعد الزراعة هي المصدر الوحيد للرزق والرخاء . ولكن الماء هو الماء في أهميته العمرانية . .
وهذا الارتباط بين الاستقامة على الطريقة وبين الرخاء والتمكين في الأرض حقيقة قائمة . وقد كان العرب في جوف الصحراء يعيشون في شظف ، حتى استقاموا على الطريقة ، ففتحت لهم الأرض التي يغدودق فيها الماء ، وتتدفق فيها الأرزاق . ثم حادوا عن الطريقة فاستلبت منهم خيراتهم استلابا . وما يزالون في نكد وشظف ، حتى يفيئوا إلى الطريقة ، فيتحقق فيهم وعد الله .
وإذا كانت هناك أمم لا تستقيم على حقيقة الله ، ثم تنال الوفر والغنى ، فإنها تعذب بآفات أخرى في إنسانيتها أو أمنها أو قيمة الإنسان وكرامته فيها ، تسلب عن ذلك الغنى والوفر معنى الرخاء . وتحيل الحياة فيها لعنة مشؤومة على إنسانية الإنسان وخلقه وكرامته وأمنه وطمأنينته [ كما سبق بيانه في سورة نوح ] . .
والحقيقة الثانية التي تنبثق من نص هذه الآية : هي أن الرخاء ابتلاء من الله للعباد وفتنة . ونبلوكم بالشر والخير فتنة . والصبر على الرخاء والقيام بواجب الشكر عليه والإحسان فيه أشق وأندر من الصبر على الشدة ! على عكس ما يلوح للنظرة العجلى . . فكثيرون هم الذين يصبرون على الشدة ويتماسكون لها ، بحكم ما تثيره في النفس من تجمع ويقظة ومقاومة ؛ ومن ذكر لله والتجاء إليه واستعانة به ، حين تسقط الأسناد في الشدة فلا يبقى إلا ستره . فأما الرخاء فينسي ويلهي ، ويرخي الأعضاء وينيم عناصر المقاومة في النفس ، ويهيئ الفرصة للغرور بالنعمة والاستنامة للشيطان !
إن الابتلاء بالنعمة في حاجة ملحة إلى يقظة دائمة تعصم من الفتنة . . نعمة المال والرزق كثيرا ما تقود إلى فتنة البطر وقلة الشكر ، مع السرف أو مع البخل ، وكلاهما آفة للنفس والحياة . . . ونعمة القوة كثيرا ما تقود إلى فتنة البطر وقلة الشكر مع الطغيان والجور ، والتطاول بالقوة على الحق وعلى الناس ، والتهجم على حرمات الله . . ونعمة الجمال كثيرا ما تقود إلى فتنة الخيلاء والتيه وتتردى في مدارك الإثم والغواية . . ونعمة الذكاء كثيرا ما تقود إلى فتنة الغرور والاستخفاف بالآخرين وبالقيم والموازين . . وما تكاد تخلو نعمة من الفتنة إلا من ذكر الله فعصمه الله . .
والحقيقة الثالثة إن الإعراض عن ذكر الله ، الذي قد تنتهي إليه فتنة الابتلاء بالرخاء ، مؤد إلى عذاب الله . والنص يذكر صفة للعذاب ( يسلكه عذابا صعدا ) . . توحي بالمشقة مذ كان الذي يصعد في المرتفع يجد مشقة في التصعيد كلما تصعد . وقد درج القرآن على الرمز للمشقة بالتصعيد . فجاء في موضع : فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ، ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء . وجاء في موضع : سأرهقه صعودا . وهي حقيقة مادية معروفة . والتقابل واضح بين الفتنة بالرخاء وبين العذاب الشاق عند الجزاء !
لنفتنهم فيه : لنختبرهم ، أيكفرون أم يشكرون .
صعدا : شاقّا ، يعلوه ويغلبه فلا يطيقه ، ومنه قول عمر : ( ما تصعّدني شيء كما تصعّدني في خطبة النكاح ) ، أي : ما شق عليّ .
16 ، 17- وألّو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا* لنفتنهم فيه ومن يعرض عن ذكر ربه يسلكه عذابا صعدا .
يلتفت الخطاب ويتغير من الحديث على لسان الجن إلى خطاب موجّه من الله تعالى لنبيه وللبشرية كلها ، يدعوها إلى الهداية والإيمان بالله ، ويبين أن سعادة الدنيا والآخرة في طاعة اله ورسوله ، والتمسك بأهداف لتشريع الإلهي .
لو أن الجن والإنس استقاموا على طريقة الإسلام لأغدق الله عليهم النّعم ، وحفّتهم بركات السماء ، فحيث يكون الماء يكون المال ، وحيث يكون المال تكون الفتنة والاختبار .
لنعاملهم معاملة المختبر ، حيث نعطيهم النعمة ونرى تصرّفهم حيالها .
ومن يعرض عن ذكر ربه يسلكه عذابا صعدا .
ومن أعرض عن هدى الله ، واختار العاجلة على الآجلة ، ترك الله قلبه للشقاء والعذاب المتصاعد الأليم ، الذي يعلوه ويغلبه ولا يطيق له حملا .
والآيتان تشيران إلى سنة من سنن الله ، وهي إسعاد من يختار طريق الهدى ، لأنه متناسق مع الكون ، خاضع لأمر الله ، متوافق مع سنن الله ، ومع نواميس الكون والحياة ، وأن من يعرض عن هداية الله وشرعه يصب بالتعاسة والعذاب الداخلي الذي لا يطيق حمله ، ولا التغلب عليه .
وقريب من ذلك قوله تعالى : ولقد كتبنا في الزّبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون . ( الأنبياء : 105 ) .
وقوله عز شأنه : ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذّبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون . ( الأعراف : 96 ) .
وفي صحيح البخاري : ( إن هذا المال خضرة حلوة ، فمن أخذه بحقه فنعم المعونة هو ، ومن أخذه من غير حقّه كان كالذي يأكل ولا يشبع ، وإن مما ينبت الربيع ما يقتل حبطا أو يلمّ ، إلا آكلة الخضراء ، أكلت حتى إذا امتلأت خاصرتاها ( جنباها ) استقبلت عين الشمس فثلطت وبالت )ii .
وفي صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( أخوف ما أخاف عليكم ما يخرج لكم من زهرة الدنيا ) ، قالوا : وما زهرة الدنيا ؟ قال : ( بركات الأرض )iii .
وجاء في تفسير القرطبي : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( والله ما الفقر أخشى عليكم ، وإنما أخشى عليكم أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من قبلكم ، فتنافسوها كما تنافسوها ، فتهلككم كما أهلكتهم )iv .
{ وألو استقاموا على الطريقة . . . } هو من قوله تعالى لا من قول الجن . معطوف على قوله " أنه استمع " واسم " أن " المخففة ضمير الشأن . { لأسقيناهم ماء غدقا } كثيرا غزيرا . يقال : غدقت العين – كفرح - ، كثر ماؤها فهي غدقة . والمراد أن الإنس والجن لو استقاموا على الإسلام لوسعنا عليهم الأرزاق ، ومتعناهم بالعيش الرغيد . وخص الماء الغدق بالذكر لأنه أصل المعاش والسعة .
إلى هنا انتهى كلام الجن . ثم عاد الحديث إلى ذِكر ما أُوحيَ إلى الرسول الكريم فقال تعالى : { وَأَلَّوِ استقاموا عَلَى الطريقة لأَسْقَيْنَاهُم مَّآءً غَدَقاً } .
أوحى الله إلى الرسولِ الكريم صلى الله عليه وسلم أنه لو استقام الإنسُ والجنُّ على الحقّ والعملِ بشريعة العدل ، ولم يَحِيدوا عنها ، لأسقيناهم ماءً غزيرا ، ولرزقناهم سَعة في الرزق ورخاءً في العيش . يقال سقاه و أسقاه . والفعلان وردا في القرآن الكريم .
وقوله تعالى : { وَإِن لو استقاموا } الخ معطوف قطعاً على قوله سبحانه { انه استمع } [ الجن : 1 ] ولا يضر تقدم المعطوف على غيره على القول به لظهور الحال وعدم الالتباس وأن مخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن وقرأ الأعمش وابن وثاب بضم واو لو والمعنى وأوحى إلى أن الشأن لو استقام الانس والجن أو كلاهما { عَلَى الطريقة } التي هي ملة الإسلام { لأسقيناهم مَّاء غَدَقاً } أي كثيراً وقرأ عاصم في رواية الأعمش بكسر الدال والمراد لوسعنا عليهم الرزق وتخصيص الماء الغدق بالذكر لأنه أصل المعاش وكثرته أصل السعة فقد قيل المال حيث الماء ولعزة وجوده بين العرب .