286- إن الله لا يكلف عباده إلا ما يستطيعون تأديته والقيام به ، ولذلك كان كل مكلف مجزياً بعمله : إن خيراً فخير وإن شراً فشر ، فاضرعوا إلى الله - أيها المؤمنون - داعين : ربنا لا تعاقبنا إن وقعنا في النسيان لما كلفتنا إياه ، أو تعرضنا لأسباب يقع عندها الخطأ ، ربنا ولا تُشدِّد علينا في التشريع كما شددت على اليهود بسبب تعنتهم وظلمهم ، ولا تكلفنا ما لا طاقة لنا به من التكاليف ، واعف عنا بكرمك ، واغفر لنا بفضلك ، وارحمنا برحمتك الواسعة . إنك مولانا ، فانصرنا يا رب - من أجل إعلاء كلمتك ونشر دينك - على القوم الجاحدين .
ثم هي العقيدة التي تعترف بالإنسان إنسانا ، لا حيوانا ولا حجرا ، ولا ملكا ولا شيطانا . تعترف به كما هو ، بما فيه من ضعف وما فيه من قوة ، وتأخذه وحدة شاملة مؤلفة من جسد ذي نوازع ، وعقل ذي تقدير ، وروح ذي أشواق . . وتفرض عليه من التكاليف ما يطيق ؛ وتراعي التنسيق بين التكليف والطاقة بلا مشقة ولا إعنات ؛ وتلبي كل حاجات الجسد والعقل والروح في تناسق يمثل الفطرة . . ثم تحمل الإنسان - بعد ذلك - تبعة اختياره للطريق الذي يختار :
( لا يكلف الله نفسا إلا وسعها . لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ) .
وهكذا يتصور المسلم رحمة ربه وعدله في التكاليف التي يفرضها الله عليه في خلافته للأرض ؛ وفي ابتلائه في أثناء الخلافة ؛ وفي جزائه على عمله في نهاية المطاف . ويطمئن إلى رحمة الله وعدله في هذا كله ؛ فلا يتبرم بتكاليفه ، ولا يضيق بها صدرا ، ولا يستثقلها كذلك ، وهو يؤمن أن الله الذي فرضها عليه أعلم بحقيقة طاقته ، ولو لم تكن في طاقته ما فرضها عليه . ومن شأن هذا التصور - فضلا عما يسكبه في القلب من راحة وطمأنينة وأنس - أن يستجيش عزيمة المؤمن للنهوض بتكاليفه ، وهو يحس أنها داخلة في طوقه ؛ ولو لم تكن داخلة في طوقه ما كتبها الله عليه ؛ فإذا ضعف مرة أو تعب مرة أو ثقل العبء عليه ، أدرك أنه الضعف لا فداحة العبء ! واستجاش عزيمته ونفض الضعف عن نفسه وهم همة جديدة للوفاء ، ما دام داخلا في مقدروه ! وهو إيحاء كريم لاستنهاض الهمة كلما ضعفت على طول الطريق ! فهي التربية كذلك لروح المؤمن وهمته وإرادته ؛ فوق تزويد تصوره بحقيقة إرادة الله به في كل ما يكلفه .
ثم الشطر الثاني من هذا التصور :
( لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ) .
فردية التبعة ، فلا تنال نفس إلا ما كسبت ؛ ولا تحمل نفس إلا ما اكتسبت . . فردية التبعة ، ورجعة كل إنسان إلى ربه بصحيفته الخاصة ، وما قيد فيها له أو عليه . فلا يحيل على أحد ، ولا ينتظر عون أحد . . ورجعة الناس إلى ربهم فرادى من شأنها - حين يستيقنها القلب - أن تجعل كل فرد وحدة إيجابية لا تنزل عن حق الله فيها لأحد من عباده إلا بالحق . وتقف كل إنسان مدافعا عن حق الله فيه تجاه كل إغراء ، وكل طغيان ، وكل إضلال ، وكل إفساد . فهو مسؤول عن نفسه هذه وعن حق الله فيها - وحق الله فيها هو طاعته في كل ما أمر به وفي كل ما نهى عنه ، وعبوديتها له وحده شعورا وسلوكا - فإذا فرط في هذا الحق لأحد من العبيد تحت الإغراء والإضلال ، أو تحت القهر والطغيان - إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان - فما أحد من تلك العبيد بدافع عنه يوم القيامة ولا شافع له ؛ وما أحد من تلك العبيد بحامل عنه شيئا من وزره ولا ناصر له من الله واليوم الآخر . . ومن ثم يستأسد كل إنسان في الدفع عن نفسه والدفاع عن حق الله فيها ، ما دام هو الذي سيلقى جزاءه مفردا وحيدا ! ولا خوف من هذه الفردية - في هذا المقام - فمن مقتضيات الإيمان أن ينهض كل فرد في الجماعة بحق الجماعة عليه ، بوصفه طرفا من حق الله في نفسه . فهو مأمور أن يتكافل مع الجماعة في ماله وكسبه ، وفي جهده ونصحه ، وفي إحقاق الحق في المجتمع وإزهاق الباطل ، وفي تثبيت الخير والبر وإزاحة الشر والنكر . . وكل أولئك يحسب له أو عليه في صحيفته يوم يلقى الله فردا فيتلقى هنالك جزاءه !
وكأنما سمع المؤمنون هذه الحقيقة وأدركوها . . فها هو ذا ينطلق من قلوبهم دعاء خافق واجف ، يذكره النص القرآني بطريقة القرآن التصويرية ؛ فكأنما نحن أمام مشهد الدعاء ، وصفوف المؤمنين قائمة تردده في خشوع ؛ عقب إعلان حقيقة التكاليف وحقيقة الجزاء :
( ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا . ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا . ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به . واعف عنا ، واغفر لنا ، وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين ) . .
وهو دعاء يصور حال المؤمنين مع ربهم ؛ وإدراكهم لضعفهم وعجزهم ، وحاجتهم إلى رحمته وعفوه ، وإلى مدده وعونه ؛ وإلصاق ظهورهم إلى ركنه ، والتجائهم إلى كنفه ، وانتسابهم إليه وتجردهم من كل من عداه ؛ واستعدادهم للجهاد في سبيله واستمدادهم النصر منه . . كل أولئك في نغمة وادعة واجفة تصور بإيقاعاتها وجيب القلب ورفرفة الروح . .
( ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ) .
فدائرة الخطأ والنسيان هي التي تحكم تصرف المسلم حين ينتابه الضعف البشري الذي لا حيلة له فيه . وفي مجالها يتوجه إلى ربه يطلب العفو والسماح . وليس هو التبجح إذن بالخطيئة أو الإعراض ابتداء عن الأمر ، أو التعالي عن الطاعة والتسليم ؛ أو الزيغ عن عمد وقصد . . ليس في شيء من هذا يكون حال المؤمن مع ربه ؛ وليس في شيء من هذا يطمع في عفوه أو سماحته . . إلا أن يتوب ويرجع إلى الله وينيب . . وقد استجاب الله لدعاء عباده المؤمنين في هذا ، فقال رسول الله [ ص ] : " رفع عن أمتي الخطأ والنسيان ومااستكرهوا عليه " .
( ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ) . .
وهو دعاء ينبعث من وراثة الأمة المسلمة لتراث الرسالة كله ، ومعرفتهم - كما علمهم ربهم في هذا القرآن - بما كان من سلوك الأمم التي جاءتها الرسالات قبلهم ؛ وما حملهم الله من الآصار والأثقال عقوبة لهم على بعض ما كان منهم . فقد حرم على بني إسرائيل بعض الطيبات بعملهم . وفي آية الأنعام : ( وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ، ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما إلا ما حملت ظهورهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم ) . . وكتب عليهم قتل أنفسهم تكفيرا عن عبادتهم للعجل كما سبق في أول هذه السورة . وحرم عليهم( السبت )أن يبتغوا فيه تجارة أو صيدا . . وهكذا فالمؤمنون يدعون ربهم ألا يحمل عليهم أثقالا كالتي حملها على الذين من قبلهم ، وقد بعث الله النبي الأمي يضع عن المؤمنين به من البشر كافة : ( إصرهم والأغلال التي كانت عليهم ) . . فجاءت هذه العقيدة سمحة ميسرة ، هينة لينة ، تنبع من الفطرة وتتبع خط الفطرة ، وقيل للرسول [ ص ]( ونيسرك لليسرى ) .
على أن الإصر الأكبر الذي رفعه الله عن كاهل الأمة المسلمة ، والذي حمله الله على عاتق الأمم التي استخلفها في الأرض قبلهم فنقضت عهد الاستخلاف وحادت عنه . . هذا الإصر الأكبر هو إصر العبودية للبشر . عبودية العبد للعبد . ممثلة في تشريع العبد للعبد . وفي خضوع العبد للعبد لذاته أو لطبقته أو لجنسه . . فهذا هو الإصر الأكبر الذي أطلق الله عباده المؤمنين منه ، فردهم إلى عبادته وحده وطاعته وحده ، وتلقي الشريعة منه وحده . وحرر بهذه العبودية لله الواحد الأحد أرواحهم وعقولهم وحياتهم كلها من العبودية للعبيد !
إن العبودية لله وحده - متمثلة في تلقي الشرائع والقوانين والقيم والموازين منه وحده - هي نقطة الانطلاق والتحرر البشري . الانطلاق والتحرر من سلطان الجبارين والطغاة ، ومن سلطان السدنة والكهنة ، ومن سلطان الأوهام والخرافات ، ومن سلطان العرف والعادة ، ومن سلطان الهوى والشهوة . ومن كل سلطان زائف يمثل الإصر الذي يلوي اعناق البشر ويخفض جباههم لغير الواحد القهار .
ودعاء المؤمنون : ( ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ) : يمثل شعورهم بنعمة الانطلاق والتحرر من العبودية للعبيد ؛ كما يمثل خوفهم من الارتداد إلى ذلك الدرك السحيق .
( ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به ) . .
وهو دعاء يشي بحقيقة الاستسلام . فالمؤمنون لا ينوون نكولا عن تكليف الله أيا كان . ولكنهم فقط يتوجهون إليه راجين متطلعين أن يرحم ضعفهم فلا يكلفهم ما لا يطيقون . كي لا يعجزوا عنه ويقصروا فيه . . وإلا فهي الطاعة المطلقة والتسليم . . إنه طمع الصغير في رحمة الكبير . ورجاء العبد الضعيف في سماحة المالك المتصرف . وطلب ما هو من شأن الله في معاملته لعباده من كرم وبر وود وتيسير .
ثم الاعتراف بالضعف بعد ذلك والتوجس من التقصير ، الذي لا يمحو آثاره إلا فضل الله العفو الغفور :
( واعف عنا ، واغفر لنا وارحمنا ) .
فهذا هو الضمان الحقيقي لاجتياز الامتحان ، ونيل الرضوان . فالعبد مقصر مهما يحاول من الوفاء . ومنرحمة الله به أن يعامله بالعفو والمرحمة والغفران . . عن عائشة رضي الله عنها ، قال رسول الله [ ص ] : " لا يدخل أحدكم الجنة بعمله " . . قالوا : ولا أنت يا رسول الله ؟ قال : " ولا أنا . إلا أن يتغمدني الله برحمته " .
وهذا هو قوام الأمر في حس المؤمن : عمل بكل ما في الوسع . وشعور مع ذلك بالتقصير والعجز . . ورجاء - بعد ذلك - في الله لا ينقطع . وتطلع إلى العفو والمغفرة والسماح .
وأخيرا يلصق المؤمنون ظهورهم إلى ركن الله ، وهم يهمون بالجهاد في سبيله ، لإحقاق الحق الذي إراده ، وتمكين دينه في الأرض ومنهجه ، ( حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله ) . يلصق المؤمنون ظهورهم إلى ركن الله الركين ؛ ويرفعون رايته على رؤوسهم فينتسبون إليه وحده . إذا انتسبت الجاهلية إلى شتى الشعارات والعنوانات ؛ ويطلبون نصره لأوليائه بما أنه هو مولاهم الوحيد ؛ وهم باسمه يقاتلون الكفار الخارجين :
( أنت مولانا ، فانصرنا على القوم الكافرين ) . .
إنه الختام الذي يلخص السورة . ويلخص العقيدة . ويلخص تصور المؤمنين ، وحالهم مع ربهم في كل حين . .
{ لاَ يُكَلّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَا رَبّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَآ إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبّنَا وَلاَ تُحَمّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَآ أَنتَ مَوْلاَنَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ }
يعني بذلك جلّ ثناؤه : { لا يُكَلّفُ اللّهُ نَفْسا إلاّ وُسْعَها } فيتعبدها إلا بما يسعها ، فلا يضيق عليها ، ولا يجهدها . وقد بينا فيما مضى قبل أن الوسع اسم من قول القائل : وسعني هذا الأمر مثل الجُهْد والوُجْد من جهدني هذا الأمر ووجدت منه . كما :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس قوله : { لا يُكَلّفُ اللّهُ نَفْسا إلاّ وُسْعَها } قال : هم المؤمنون ، وسع الله عليهم أمر دينهم ، فقال الله جل ثناؤه : { وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدّينِ مِنْ حَرَجٍ } وقال : { يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ اليُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ } وَقالَ : { اتّقُوا اللّهَ ما اسْتَطَعْتُمْ } .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن الزهري ، عن عبد الله بن عباس ، قال : لما نزلت ضجّ المؤمنون منها ضجة وقالوا : يا رسول الله هذا ، نتوب من عمل اليد والرجل واللسان ، كيف نتوب من الوسوسة ، كيف نمتنع منها ؟ فجاء جبريل صلى الله عليه وسلم بهذه الآية : { لا يُكَلّفُ اللّهُ نَفْسا إلاّ وُسْعَها } إنكم لا تستطيعون أن تمتنعوا من الوسوسة .
حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : { لا يُكَلّفُ اللّهُ نَفْسا إلاّ وُسْعَها } وسعها : طاقتها ، وكان حديث النفس مما لا يطيقون .
القول في تأويل قوله تعالى : { لَهَا ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ } .
يعني بقوله جل ثناؤه لها : للنفس التي أخبر أنه لا يكلفها إلا وسعها ، يقول : لكل نفس ما اجترحت وعملت من خير¹ وعليها : يعني وعلى كل نفس ما اكتسبت : ما عملت من شرّ . كما :
حدثنا بشر بن يزيد ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : { لا يُكَلّفُ اللّهُ نَفْسا إلاّ وُسْعَها لَهَا ما كَسَبَتْ } أي من خير { وَعَلَيْها ما اكْتَسْبَتْ } أي من شرّ ، أو قال : من سوء .
حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : { لَهَا مَا كَسَبَتْ } يقول : ما عملت من خير ، { وَعَلَيْها ما اكْتَسَبَتْ } يقول : وعليها ما عملت من شرّ .
حدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن قتادة ، مثله .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن الزهري ، عن عبد الله بن عباس : { لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ } عمل اليد والرجل واللسان .
فتأويل الآية إذا : لا يكلف الله نفسا إلا ما يسعها ، فلا يجهدها ، ولا يضيق عليها في أمر دينها ، فيؤاخذها بهمة إن همت ، ولا بوسوسة إن عرضت لها ، ولا بخطرة إن خطرت بقلبها .
القول في تأويل قوله تعالى : { رَبّنَا لاَ تُؤَاخِذْنا إنْ نَسِينا أوْ أخْطأْنا } .
( وهذا تعليم من الله عزّ وجلّ عباده المؤمنين دعاءه كيف يدعونه ، وما يقولون في دعائهم إياه . ومعناه : قولوا : ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا شيئا فرضت علينا عمله فلم نعمله ، أو أخطأنا في فعل شيء نهيتنا عن فعله ففعلناه ، على غير قصد منا إلى معصيتك ، ولكن على جهالة منا به وخطأ . ) كما :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : { رَبّنَا لاَ تُؤَاخِذْنا إنْ نَسِينا أوْ أخْطَأْنا } إن نسينا شيئا مما افترضته علينا ، أو أخطأنا شيئا مما حرّمته علينا .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر عن قتادة في قوله : { رَبّنا لا تُؤَاخِذْنا إنْ نَسِينا أوْ أخْطَأْنا } قال : بلغني أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : «إنّ اللّهَ عَزّ وَجَلّ تَجَاوَزَ لِهَذِهِ الأُمّةِ عَنْ نِسْيانِها وَما حَدّثَتْ بِهِ أنْفُسَهَا » .
حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، قال : زعم السدي أن هذه الآية حين نزلت : { رَبّنَا لاَ تُؤَاخِذْنا إنْ نَسِينا أوْ أخْطَأْنا } قال له جبريل صلى الله عليه وسلم فقل ذلك يا محمد .
إن قال لنا قائل : وهل يجوز أن يؤاخذ الله عزّ وجلّ عباده بما نسوا أو أخطئوا فيسألوه أن لا يؤاخذهم بذلك ؟ قيل : إن النسيان على وجهين : أحدهما : على وجه التضييع من العبد والتفريط¹ والاَخر : على وجه عجز الناسي عن حفظ ما استحفظ ، ووكل به وضعف عقله عن احتماله ، فأما الذي يكون من العبد على وجه التضييع منه والتفريط ، فهو ترك منا لما أمر بفعله ، فذلك الذي يرغب العبد إلى الله عزّ وجلّ في تركه مؤاخذته به ، وهو النسيان الذي عاقب الله عزّ وجل به آدم صلوات الله عليه ، فأخرجه من الجنة ، فقال في ذلك : { وَلَقَدْ عَهِدْنا إلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْما } وهو النسيان الذي قال جلّ ثناؤه : { فالْيَوْمُ نَنْسَاهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا } فرغبة العبد إلى الله عزّ وجلّ بقوله : { رَبّنا لا تُؤَاخِذْنا إنْ نَسِينا أوْ أخْطَأْنا } فيما كان من نسيان منه لما أمر بفعله على هذا الوجه الذي وصفنا ما لم يكن تركه ما ترك من ذلك تفريطا منه فيه وتضييعا ، كفرا بالله عزّ وجلّ ، فإن ذلك إذا كان كفرا بالله فإن الرغبة إلى الله في تركه المؤاخذة به غير جائزة ، لأن الله عزّ وجلّ قد أخبر عباده أنه لا يغفر لهم الشرك به ، فمسألته فعل ما قد أعلمهم أنه لا يفعله خطأ ، وإنما يكون مسألته المغفرة فيما كان من مثل نسيانه القرآن بعد حفظه بتشاغله عنه ، وعن قراءته ، ومثل نسيانه صلاة أو صياما ، باشتغاله عنهما بغيرهما حتى ضيعهما . وأما الذي العبد به غير مؤاخذ لعجز بنيته عن حفظه ، وقلة احتمال عقله ما وكل بمراعاته ، فإن ذلك من العبد غير معصية ، وهو به غير آثم ، فذلك الذي لا وجه لمسألة العبد ربه أن يغفره له ، لأنه مسألة منه له أن يغفر له ما ليس له بذنب ، وذلك مثل الأمر يغلب عليه ، وهو حريص على تذكره وحفظه ، كالرجل يحرص على حفظ القرآن بجدّ منه ، فيقرؤه ، ثم ينساه بغير تشاغل منه بغيره عنه ، ولكن بعجز بنيته عن حفظه وقلة احتمال عقله ، ذكر ما أودع قلبه منه ، وما أشبه ذلك من النسيان ، فإن ذلك مما لا يجوز مسألة الربّ مغفرته ، لأنه لا ذنب للعبد فيه ، فيغفر له باكتسابه . وكذلك للخطأ وجهان : أحدهما : من وجه ما نهي عنه العبد فيأتيه بقصد منه وإرادة ، فذلك خطأ منه ، وهو به مأخوذ ، يقال منه : خَطىء فلان وأخطأ فيما أتى من الفعل ، وأثم إذا أتى ما يتأثم فيه وركبه ، ومنه قول الشاعر :
النّاس يَلْحَوْنَ الأميرَ إذَا هُمُ *** خَطِئُوا الصّوَابَ وَلا يُلامُ المُرْشَدُ
يعني : أخطأوا الصواب . وهذا الوجه الذي يرغب العبد إلى ربه في صفح ما كان منه من إثم عنه ، إلا ما كان من ذلك كفرا . والاَخر منهما : ما كان عنه على وجه الجهل به والظنّ منه ، بأن له فعله ، كالذي يأكل في شهر رمضان ليلاً ، وهو يحسب أن الفجر لم يطلع ، أو يؤخر صلاة في يوم غيم وهو ينتظر بتأخيره إياها دخول وقتها فيخرج وقتها وهو يرى أن وقتها لم يدخل ، فإن ذلك من الخطأ الموضوع عن العبد الذي وضع الله عزّ وجلّ عن عباده الإثم فيه ، فلا وجه لمسألة العبد ربه أن يؤاخذه به ، وقد زعم قوم أن مسألة العبد ربه أن لا يؤاخذه بما نسي أو أخطأ ، إنما هو فعل منه لما أمره به ربه تبارك وتعالى ، أو لما ندبه إليه من التذلل له والخضوع بالمسألة ، فأما على وجه مسألته الصفح ، فما لا وجه له عندهم وللبيان عن هؤلاء كتاب سنأتي فيه إن شاء الله على ما فيه الكفاية لمن وفق لفهمه .
القول في تأويل قوله تعالى : { رَبّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إصْرا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الّذِينَ مِنْ قَبْلِنا } .
يعني بذلك جلّ ثناؤه : قولوا : ربنا لا تحمل علينا إصرا : يعني بالإصر : العهد ، كما قال جل ثناؤه : { قال أأقْرَرْتُمْ وأخَذْتُمْ عَلى ذَلِكُمْ إصْرِي } . وإنما عنى بقوله : { وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إصْرا } : ولا تحمل علينا عهدا ، فنعجز عن القيام به ولا نستطيعه ، { كَمَا حَمَلْتَهُ عَلى الّذِينَ مِنْ قَبْلِنا } يعني على اليهود والنصارى الذين كلفوا أعمالاً وأخذت عهودهم ومواثيقهم على القيام بها ، فلم يقوموا بها ، فعوجلوا بالعقوبة . فعلم الله عزّ وجلّ أمة محمد صلى الله عليه وسلم الرغبة إليه بمسألته أن لا يحملهم من عهوده ومواثيقه على أعمال إن ضيعوها أو أخطأوا فيها أو نسوها مثل الذي حمل من قبلهم ، فيحلّ بهم بخطئهم فيه وتضييعهم إياه مثل الذي أحلّ بمن قبلهم .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : { لاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إصْرا } قال : لا تحمل عليها عهدا وميثاقا ، { كَمَا حَمَلْتَهُ على الّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا } يقول : كما غلظ على من قبلنا .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن موسى بن قيس الحضرمي ، عن مجاهد في قوله : { وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إصْرا } قال : عهدا .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : { إصْرا } قال : عهدا .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : حدثنا معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس في قوله : { إصْرا } يقول : عهدا .
حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : { رَبّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إصْرا كَما حَمَلْتَهُ عَلى الّذِينَ مِنْ قَبْلِنا } والإصر : العهد الذي كان على من قبلنا من اليهود .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج قوله : { وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إصْرا } قال : عهدا لا نطيقه ، ولا نستطيع القيام به ، { كَمَا حَمَلْتَهُ عَلى الّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا } اليهود والنصارى ، فلم يقوموا به فأهلكتهم .
حدثني يحيى بن أبي طالب ، قال : أخبرنا يزيد ، قال : أخبرنا جويبر ، عن الضحاك : { إصْرا } قال : المواثيق .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : الإصر : العهد¹ { وأخَذْتُمْ عَلى ذَلِكُمْ إصْرِي } قال : عهدي .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : { وَأخَذْتُمْ عَلى ذَلِكُمْ إصْرِي } قال : عهدي .
وقال آخرون : معنى ذلك : ولا تحمل علينا ذنوبا وإثما كما حملت ذلك على من قبلنا من الأمم ، فتمسخنا قردة وخنازير كما مسختهم . ذكر من قال ذلك :
حدثني سعيد بن عمرو السكوني ، قال : حدثنا بقية بن الوليد ، عن عليّ بن هارون ، عن ابن جريج ، عن عطاء بن أبي رباح في قوله : { وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إصْرا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الّذِينَ مِنْ قَبْلِنا } قال : لا تمسخنا قردة وخنازير .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : { رَبّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إصْرا كَما حَمَلْتَهُ على الّذِينَ مِنْ قَبْلِنا } لا تحمل علينا ذنبا ليس فيه توبة ولا كفارة .
وقال آخرون : معنى الإصر بكسر الألف : الثقل . ذكر من قال ذلك :
حدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قوله : { رَبّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إصْرا كَمَا حَمَلْتَهُ على الّذِينَ مِنْ قَبْلِنا } يقول : التشديد الذي شددته على من قبلنا من أهل الكتاب .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : سألته ، يعني مالكا ، عن قوله : { وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إصْرا } قال : الإصر : الأمر الغليظ .
فأما الأصر بفتح الألف : فهو ما عطف الرجل على غيره من رحم أو قرابة ، يقال : أصرتني رحم بيني وبين فلان عليه ، بمعنى : عطفتني عليه ، وما يأصرني عليه : أي ما يعطفني عليه ، وبيني وبينه أصر رحم يأصرني عليه أصرا : يعني به : عاطفة رحم تعطفني عليه .
( القول في تأويل قوله تعالى : { رَبّنَا وَلاَ تُحَمّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ } .
يعني بذلك جل ثناؤه : وقولوا أيضا : ربنا لا تكلفنا من الأعمال ما لا نطيق القيام به لثقل حمله علينا . وكذلك كانت جماعة أهل التأويل يتأوّلونه . ) ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : { رَبّنا ولا تُحَمّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ } تشديد يشدّد به كما شدّد على من كان قبلكم .
حدثني يحيى بن أبي طالب ، قال : أخبرنا يزيد ، قال : أخبرنا جويبر ، عن الضحاك قوله : { وَلا تُحَمّلْنَا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ } قال : لا تحملنا من الأعمال ما لا نطيق .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : { رَبّنَا وَلا تُحَمّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بهِ } لا تفترض علينا من الدين ما لا طاقة لنا به ، فنعجز عنه .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج : { وَلا تُحَمّلْنا ما لا طاقَةَ لنا بِهِ } مسخ القردة والخنازير .
حدثني سلام بن سالم الخزاعي ، قال : حدثنا أبو حفص عمر بن سعيد التنوخي ، قال : حدثنا محمد بن شعيب بن سابور ، عن سالم بن شابور في قوله : { رَبّنا وَلا تُحَمّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ } قال : الغلمة .
حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : { رَبّنا وَلا تُحَمّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ } من التغليظ والأغلال التي كانت عليهم من التحريم .
وإنما قلنا : إن تأويل ذلك : ولا تكلفنا من الأعمال ما لا نطيق القيام به على نحو الذي قلنا في ذلك ، لأنه عقيب مسألة المؤمنين ربهم أن لا يؤاخذهم إن نسوا أو أخْطَأُوا ، وأن لا يحمل عليهم إصرا كما حمله على الذين من قبلهم ، فكان إلحاق ذلك بمعنى ما قبله من مسألتهم في الدين أولى مما خالف ذلك المعنى .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَاعْفُ عَنّا وَاغْفِرْ لَنا } .
وفي هذا أيضا من قول الله عزّ وجلّ خبرا عن المؤمنين من مسألتهم إياه ذلك الدلالة الواضحة أنهم سألوه تيسير فرائضه عليهم بقوله : { وَلا تُحَمّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ } لأنهم عقبوا ذلك بقولهم : { وَاعْفُ عَنّا } مسألة منهم ربهم أن يعفو لهم عن تقصير إن كان منهم في بعض ما أمرهم به من فرائضه ، فيصفح لهم عنه ، ولا يعاقبهم عليه ، وإن خفّ ما كلفهم من فرائضه على أبدانهم .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال بعض أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : { وَاعْفُ عَنّا } قال : اعف عنا إن قصرنا عن شيء من أمرك مما أمرتنا به . وكذلك قوله : { وَاغْفِرْ لَنا } يعني : واستر علينا زلة إن أتيناها فيما بيننا وبينك ، فلا تكشفها ولا تفضحنا بإظهارها . وقد دللنا على معنى المغفرة فيما مضى قبل .
حدثنا يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد { وَاغْفِرْ لَنا } إن انتهكنا شيئا مما نهيتنا عنه .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَارْحَمْنَا } .
يعني بذلك جلّ ثناؤه : تغمدنا منك برحمة تنجينا بها من عقابك ، فإنه ليس بناج من عقابك أحد إلا برحمتك إياه دون عمله ، وليست أعمالنا منجيتنا إن أنت لم ترحمنا ، فوفقنا لما يرضيك عنا . ) كما :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : { وَارْحَمْنَا } قال : يقول : لا ننال العمل بما أمرتنا به ، ولا نترك ما نهيتنا عنه إلا برحمتك ، قال : ولم ينج أحد إلا برحمتك .
القول في تأويل قوله تعالى : { أنْتَ مَوْلاَنَا فَانْصُرْنَا على القَوْمِ الكافِرِينَ } .
يعني بقوله جل ثناؤه : { أنْتَ مَوْلاَنَا } أنت ولينا بنصرك دون من عاداك وكفر بك ، لأنا مؤمنون بك ومطيعوك فيما أمرتنا ونهيتنا ، فأنت وليّ من أطاعك ، وعدوّ من كفر بك فعصاك ، فانصرنا لأنا حزبك ، على القوم الكافرين الذي جحدوا وحدانيتك ، وعبدوا الاَلهة والأنداد دونك ، وأطاعوا في معصيتك الشيطان . والمولى في هذا الموضع المفعل من وَلَى فلان أمر فلان فهو يليه ولاية ، وهو وليه ومولاه ، وإنما صارت الياء من ولى ألفا لانفتاح اللام قبلها التي هي عين الاسم .
وقد ذكر أن الله عزّ وجلّ لما أنزل هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فتلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، استجاب الله له في ذلك كله . ذكر الأخبار التي جاءت بذلك :
حدثني المثنى بن إبراهيم ومحمد بن خلف قالا : حدثنا آدم ، قال : حدثنا ورقاء ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : قال لما نزلت هذه الآية : { آمَنَ الرّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إلَيْهِ مِنْ رَبّهِ } قال : قرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما انتهى إلى قوله : { غُفْرَانَكَ رَبّنَا } قال الله عز وجل : «قد غفرت لكم » ، فلما قرأ : { رَبّنا لاَ تُؤَاخِذْنَا إنْ نَسِينا أوْ أخْطَأْنا } قال الله عز وجل : «لا أحملكم » فلما قرأ : { وَاغْفِرْ لَنا } قال الله تبارك وتعالى : «قد غفرت لكم » ، فلما قرأ : { وَارْحَمْنا } قال الله عز وجل : «قد رحمتكم » ، فلما قرأ : { وَانْصُرْنا على القَوْمِ الكافِرِينَ } قال الله عز وجل : «قد نصرتكم عليهم » .
حدثني يحيى بن أبي طالب ، قال : أخبرنا يزيد ، قال : أخبرنا جويبر ، عن الضحاك ، قال : أتى جبريل النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا محمد قل : { رَبّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إنْ نَسِينَا أوْ أخْطَأْنا } فقالها ، فقال جبريل : قد فعل ، وقال له جبريل : قل { رَبّنَا لاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إصْرا كَما حَمَلْتَهُ عَلى الّذِينَ مِنْ قَبْلِنا } فقالها ، فقال جبريل : قد فعل ، فقال : قل { رَبّنَا وَلا تُحَمّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ } ، فقالها : فقال جبريل صلى الله عليه وسلم : قد فعل ، فقال : قل { وَاعْفُ عَنّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلى القَوْمِ الكافِرِينَ } . فقالها ، فقال جبريل : قد فعل .
حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، قال : زعم السدي أن هذه الآية حين نزلت : { رَبّنَا لاَ تُؤَاخِذْنا إنْ نَسِينا أوْ أخْطأْنا } فقال له جبريل : فعل ذلك يا محمد ، { رَبّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إصْرا كَما حَمَلْتَهُ عَلى الّذِينَ مِنْ قَبْلِنا رَبّنَا وَلا تُحَمّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ وَاعْفُ عَنّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا على القَوْمِ الكافِرِينَ } فقال له جبريل في كل ذلك : فعل ذلك يا محمد .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع ، وحدثنا سفيان ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن آدم بن سليمان مولى خالد ، قال : سمعت سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : أنزل الله عز وجل : { آمَنَ الرّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إلَيْهِ مِنْ رَبّهِ } إلى قوله : { رَبّنَا لا تُؤَاخِذْنا إنْ نَسِينا أوْ أخْطَأْنا } ، فقرأ : { رَبّنا لاَ تُؤَاخِذْنا إنْ نَسِينا أوْ أخْطَأْنا } قال : فقال : قد فعلت ، { رَبّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إصْرا كَما حَمَلْتَهُ على الّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا } فقال : قد فعلت ، { رَبّنا وَلاَ تُحَمّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ } قال : قد فعلت ، { وَاعْفُ عَنّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا على القَوْمِ الكافِرِينَ } قال : قد فعلت .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا إسحاق بن سليمان ، عن مصعب بن ثابت ، عن العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، قال : أنزل الله عز وجل : { رَبّنا لاَ تُؤَاخِذْنا إنْ نَسِينا أوْ أخْطَأْنا } قال أبي : قال أبو هريرة : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «قالَ اللّهُ عَزّ وَجَلّ نَعَمْ » .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا أبو حميد ، عن سفيان ، عن آدم بن سليمان ، عن سعيد بن جبير : { لا يُكَلّفُ اللّهُ نَفْسا إلاّ وُسْعَها لَهَا ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ رَبّنا لاَ تُؤَاخِذْنا إنْ نَسِينا أوْ أخْطَأْنا } قال : ويقول قد فعلت ، { رَبّنا وَلا تَحْمِل عَلَيْنا إصْرا كَما حَمَلْتَهُ على الّذِينَ مِنْ قَبْلِنا } قال : ويقول قد فعلت . فأعطيت هذه الأمة خواتيم سورة البقرة ، ولم تعطها الأمم قبلها .
حدثنا علي بن حرب الموصلي ، قال : حدثنا ابن فضيل ، قال : حدثنا عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس في قول الله عز وجل { آمَنَ الرّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إلَيْهِ مِنْ رَبّهِ } إلى قوله : { غُفْرَانَكَ رَبنا } قال : قد غفرت لكم ، { لا يُكَلّفُ اللّهُ نَفْسا إلاّ وُسْعَها } إلى قوله : { لا تُؤَاخِذْنا إنْ نَسِينا أوْ أخْطَأْنا } قال : لا أؤاخذكم ، { رَبّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إصْرا كَما حَمَلْتَهُ على الّذِينَ مِنْ قَبْلَنا } قال : لا أحمل عليكم ، إلى قوله : { وَاعْفُ عَنّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أنْتَ مَوْلانا } إلى آخر السورة ، قال : قد عفوت عنكم ، وغفرت لكم ، ورحمتكم ، ونصرتكم على القوم الكافرين .
وروي عن الضحاك بن مزاحم أن إجابة الله للنبيّ صلى الله عليه وسلم خاصة .
حدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ ، قال : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : { رَبّنا لا تُؤَاخِذْنا إنْ نَسِينا أوْ أخْطَأْنا } كان جبريل عليه السلام يقول له سلها ، فسألها نبيّ الله ربه جل ثناءه ، فأعطاه إياها ، فكانت للنبيّ صلى الله عليه وسلم خاصة .
حدثني المثنى بن إبراهيم ، قال : حدثنا أبو نعيم ، قال : حدثنا سفيان ، عن أبي إسحاق : أن معاذا كان إذا فرغ من هذه السورة : { وَانْصُرْنا على القَوْمِ الكافِرِينَ } قال : آمين .
الأظهر أنّه من كلام الله تعالى ، لا من حكاية كلام الرسول والمؤمنين ، فيكون اعتراضاً بين الجمل المحكية بالقول ، وفائدته إظهار ثمرة الإيمان ، والتسليم ، والطاعة ، فأعلمهم الله بأنّه لم يجعل عليهم في هذا الدين التكليف بما فيه مشقة ، وهو مع ذلك تبشير باستجابة دعوتهم الملقنة ، أو التي ألهموها : وهي { ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ } إلى قوله { ما لا طاقة لنا به } قبل أن يحكي دعواتهم تلك .
ويجوز أن يكون من كلام الرسول والمؤمنين ، كأنّه تعليل لقولهم سمعنا وأطعنا أي علمنا تأويل قول ربنا : { وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه } [ البقرة : 284 ] بأنّه يدخلها المؤاخذة بما في الوسع ، ممَّا أبدى وما أخفى ، وهو ما يظهر له أثر في الخارج اختياراً ، أو يعقد عليه القلب ، ويطمئنّ به ، إلاّ أنّ قوله : { لها ما كسبت } إلخ يبعد هذا ؛ إذ لا قبل لهم بإثبات ذلك .
فعلى أنّه من كلام الله فهو نسخ لقوله : { وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه } وهذا مروي في « صحيح مسلم » عن أبي هريرة وابن عباس{[203]} أنّه قال : لما نزلت { وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله } [ البقرة : 284 ] اشتدّ ذلك على أصحاب رسول الله فأتوه وقالوا : لا نطيقها ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم قولوا : " سمعنا وأطعنا وسلمنا " فألقى الله الإيمان في قلوبهم ، فلمّا فعلوا ذلك نسخها الله تعالى فأنزل : { لا يكلف الله نفساً إلا وسعها } ، وإطلاق النسخ على هذا اصطلاح للمتقدّمين ، والمراد البيانُ والتخصيص لأنّ الذي تطمئنّ له النفس : أنّ هذه الآيات متتابعة النظم ، ومع ذلك يجوز أن تكون نزلت منجّمة ، فحدَث بين فترة نزولها ما ظنّه بعض المسلمين حرجاً .
والوسع في القراءة بضم الواو ، في كلام العرب مثلّث الواو وهو الطاقة والاستطاعة ، والمراد به هنا ما يطاق ويستطاع ، فهو من إطلاق المصدر وإرادة المفعول . والمستطاع هو ما اعتادَ الناسُ قدرتَهم على أن يفعلوه إن توجّهت إرادتهم لفعله مع السلامة وانتفاء الموانع .
وهذا دليل على عدم وقوع التكليف بما فوق الطاقة في أديان الله تعالى لعموم ( نفساً ) في سياق النفي ، لأنّ الله تعالى ما شرع التكليف إلاّ للعمل واستقامة أحوال الخلق ، فلا يكلّفهم ما لا يطيقون فعله ، وما ورد من ذلك فهو في سياق العقوبات ، هذا حكم عام في الشرائع كلّها .
وامتازت شريعة الإسلام باليسر والرفق ، بشهادة قوله تعالى : { وما جعل عليكم في الدين من حرج } [ الحج : 78 ] وقوله : { يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر } ، ولذلك كان من قواعد الفقه العامة « المشقّةُ تجلب التيسير » . وكانت المشقة مظنّة الرخصة ، وضبط المشاقّ المسقطة للعبادة مذكور في الأصول ، وقد أشبعت القول فيه في كتابي المسمّى « مقاصد الشريعة » وما ورد من التكاليف الشاقّة فأمر نادر ، في أوقات الضرورة ، كتكليف الواحد من المسلمين بالثباتِ للعشرة من المشركين ، في أول الإسلام ، وقلّة المسلمين .
وهذه المسألة هي المعنونة في كتب الأصلين بمسألة التكليف بالمحَال ، والتكليف بما لا يطاق ، وهي مسألة أرنَّت بها كتب الأشاعرة والمعتزلة ، واختلفوا فيها اختلافاً شهيراً ، دعا إليه التزام الفريقين للوازم أصولهم وقواعدهم فقالت الأشاعرة : يجوز على الله تكليف ما لا يطاق بناء على قاعدتهم في نفي وجوب الصلاح على الله ، وأنّ ما يصدر منه تعالى كلّه عدل لأنّه مالك العباد ، وقاعدتهم في أنّه تعالى يخلق ما يشاء ، وعلى قاعدتهم في أنّ ثمرة التكليف لا تختص بقصد الامتثال بل قد تكون لقصد التعجيز والابتلاء وجعل الامتثال علامة على السعادة ، وانتفائه علامة على الشقاوة ، وترتّب الإثم لأنّ لله تعالى إثابَة العاصي ، وتعذيبَ المطيع ، فبالأوْلى تعذيب من يأمره بفعل مستحيل ، أو متعذّر ، واستدلّوا على ذلك بحديث تكليف المصوّر بنفخ الروحِ في الصورة وما هو بنافخ ، وتكليف الكاذب في الرؤيا بالعقد بين شعيرتين وما هو بفاعل . ولا دليل فيه لأنّ هذا في أمور الآخرة ، ولأنّهما خبرَا آحاد لا تثبت بمثلها أصول الدين . وقالت المعتزلة : يمتنع التكليف بما لا يطاق بناء على قاعدتهم في أنّه يجب الله فعل الصلاح ونفي الظلم عنه ، وقاعدتهم في أنّه تعالى لا يخلق المنكرات من الأفعال ، وقاعدتهم في أنّ ثمرة التكليف هو الامتثال وإلاّ لصار عبثاً وهو مستحيل على الله ، وأنّ الله يستحيل عليه تعذيب المطيع وإثابة العاصي .
واستدلّوا بهذه الآية ، وبالآيات الدالة على أصولِها : مثل { ولا يظلم ربك أحداً } [ الكهف : 49 ] { وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً } [ الإسراء : 15 ] { قل إنّ الله لا يأمر بالفحشاء } [ الأعراف : 28 ] إلخ .
والتحقيق أنّ الذي جرّ إلى الخوض في المسألة هو المناظرة في خلق أفعال العباد ، فإنّ الأشعري لما نفى قدرة العبد ، وقال بالكسب ، وفسّره بمقارنة قدرة العبد لحصول المقدورِ دون أن تكون قدرته مؤثرّة فيه ، ألزمهم المعتزلة القول بأنّ الله كلّف العباد بما ليس في مقدورهم ، وذلك تكليف بما لا يطاق ، فالتزم الأشعري ذلك ، وخالف إمام الحرمين والغزالي الأشعريّ في جواز تكليف ما لا يطاق والآية لا تنهض حجة على كلا الفريقين في حكم إمكان ذلك .
ثم اختلف المجوّزون : هل هو واقع ، وقد حكى القرطبي الإجماع على عدم الوقوع وهو الصواب في الحكاية ، وقال إمام الحرمين في « البرهان » : « والتكاليف كلّها عند الأشعري من التكليف بما لا يطاق ، لأنّ المأمورات كلّها متعلّقة بأفعال هي عند الأشعري غير مقدورة للمكلّف ، فهو مأمور بالصلاة وهو لا يقدر عليها ، وإنّما يُقْدِره الله تعالى عند إرادة الفعل مع سلامة الأسباب والآلات » وما ألزمُه إمام الحرمين الأشعريّ إلزام باطل ؛ لأنّ المراد بما لا يطاق ما لا تتعلّق به قدرة العبد الظاهرة ، المعبّر عنها بالكسب ، للفرق البيِّن بين الأحوال الظاهرة ، وبين الحقائق المستورة في نفس الأمر ، وكذلك لا معنى لإدخال ما عَلِمَ الله عدمَ وقوعه ، كأمر أبي جهل بالإيمان مع عِلم الله بأنّه لا يؤمن ، في مسألة التكليف بما لا يطاق ، أو بالمحال ؛ لأنّ علم الله ذلك لم يطّلع عليه أحد .
وأورد عليه أنّ النبي صلى الله عليه وسلم دعا أبا لهب إلى الإسلام وقد علم الله أنّه لا يسلم لقوله تعالى : { تبت يدا أبي لهب وتب إلى قوله سيصلى ناراً ذات لهب } [ المسد : 1 ، 3 ] فقد يقال : إنّه بعد نزول هذه الآية لم يخاطَب بطلب الإيمان وإنّما خوطب قبل ذلك ، وبذلك نسلم من أن نقول : إنّه خارج عن الدعوة ، ومن أن نقول : إنّه مخاطب بعد نزول الآية .
وهذه الآية تقتضي عدم وقوع التكليف بما لا يطاق في الشريعة ، بحسب المتعارف في إرادة البشر وقُدَرِهم ، دون ما هو بحسب سرّ القَدَر ، والبحث عن حقيقة القدرة الحادثة ، نعم يؤخذ منها الرد على الجبرية .
وقوله : { لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت } حال من « نَفَسا » لبيان كيفية الوسع الذي كلفت به النفس : وهو أنّه إن جاءت بخير كان نفعه لها وإن جاءت بشرّ كان ضُرّه عليها . وهذا التقسيم حاصل من التعليق بواسطة « اللاّم » مرة وبواسطة ( علَى ) أخرى . وأما كسبت واكتسبت فبمعنى واحد في كلام العرب ؛ لأنّ المطاوعة في اكتسب ليست على بابها ، وإنّما عبّر هنا مرة بكَسَبت وأخرى باكتسبت تفنّناً وكراهيةَ إعادة الكلمة بعينها ، كما فعل ذو الرمة في قوله :
ومُطعَمِ الصيد هَبَّال لبُغيته *** ألفَى أباه بذاك الكَسْب مُكتسِبا{[204]}
* فحملت بَرّةَ واحتَمَلْتَ فجارِ *
وابتدُىء أولاً بالمشهور الكثير ، ثم أعيد بمطاوعه ، وقد تَكون ، في اختيار الفعل الذي أصله دَالٌ على المطاوعة ، إشارةٌ إلى أنّ الشرور يأمر بها الشيطان ، فتأتمر النفس وتطاوعه وذلك تبْغيض من الله للناس في الذنوب . واختير الفعل الدال على اختيار النفس للحسنات ، إشارة إلى أنّ الله يسوق إليها الناس بالفطرة ، ووقع في « الكشاف » أنْ فعل المطاوعة لدلالته على الاعتمال ، وكان الشرّ مشتهًى للنفس ، فهي تَجِدُّ تحصيله ، فعبّر عن فعلها ذلك بالاكتساب .
والمراد بما اكتسبت الشرور ، فمن أجل ذلك ظنّ بعض المفسرين أنّ الكسب هو اجتناء الخير ، والاكتساب هو اجتناء الشر ، وهو خلاف التحقيق ؛ ففي القرآن { ولا تكسب كلّ نفس إلاّ عليها } [ الأنعام : 164 ] ثم قيل للذين ظلموا { ذوقوا عذاب الخلد هل تجزون إلاّ بما كنتم تكسبون } [ يونس : 52 ] وقد قيل : إنّ اكتسب إذا اجتمع مع كسب خُصّ بالعمل الذي فيه تكلّف . لكن لم يرد التعبير باكتسبت في جانب فعل الخير .
وفي هذه الآية مأخذ حسن لأبي الحسن الأشعري في تسميته استطاعة العبد كسبا واكتساباً ؛ فإنّ الله وصف نفسه بالقدرة .
ولم يصف العباد بالقدرة ، ولا أسند إليهم فعل قَدَر وَإنّما أسند إليهم الكسب ، وهو قول يجمع بين المتعارضات ويفي بتحقيق إضافة الأفعال إلى العباد ، مع الأدب في عدم إثبات صفة القدرة للعباد ، وقد قيل : إنّ أول من استعمل كلمة الكسب هو الحسين بن محمد النجار ، رأس الفرقة النجارية من الجبرية ، كان معاصِراً للنظام في القرن الثالث ، ولكن اشتهر بها أبو الحسن الأشعري حتى قال الطلبة في وصف الأمر الخفي : « أدقُّ مِن كَسْب الأشعريّ » .
وتعريف الكسب ، عند الأشعري : هو حالة للعبد يقارنها خَلْقُ الله فعلاً متعلَّقاً بها . وعرّفه الإمام الرازي بأنّه صفة تَحصلُ بقدرة العبد لفعله الحاصل بقدرة الله . وللكسب تعاريف أخر .
وحاصل معنى الكسب ، وما دعا إلى إثباته : هو أنّه لما تقرر أنّ الله قادر على جميع الكائنات الخارجة عن اختيار العبد ، وجب أن يقرّر عموم قدرته على كلّ شيء لئلاّ تكون قدرة الله غير متسلّطة على بعض الكائنات ، إعمالاً للأدلة الدالة على أنّ الله على كلّ شيء قدير ، وأنّه خالق كلّ شيء ، وليس لعموم هذه الأدلة دليل يخصّصه ، فوجب إعمال هذا العموم . ثم إنّه لما لم يجز أن يُدّعى كون العبد مجبوراً على أفعاله ، للفرق الضروري بين الأفعال الاضطرارية ، كحركة المرتعش ، والأفعالِ الاختيارية ، كحركة الماشي والقاتِل ، ورعيا لحقيّة التكاليف الشرعية للعباد لئلاّ يكون التكليف عبثاً ، ولحقيّة الوعد والوعيد لئلاّ يكون باطلاً ، تعيّن أن تكون للعبد حالة تمكِّنه من فعل ما يريد فعله ، وتركِ ما يريد تركه ، وهي ميله إلى الفعل أو الترك ، فهذه الحالة سمّاها الأشعري الاستطاعة ، وسمّاها كسباً . وقال : إنّها تتعلّق بالفعل فإذا تعلّقت به خلق الله الفعل الذي مال إليه على الصورة التي استحضرها ومال إليها .
وتقديم المجروريْن في الآية : لقصد الاختصاص ، أي لا يلحق غيرها شيء ولا يلحقها شيء من فعل غيرها ، وكأنّ هذا إبطال لما كانوا عليه في الجاهلية : من اعتقاد شفاعة الآلهة لهم عند الله .
وتمسّك بهذه الآية من رأى أنّ الأعمال لا تقبل النيابة في الثواب والعقاب ، إلاّ إذا كان للفاعل أثر في عمل غيره ؛ ففي الحديث : " إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلاّ من ثلاث : صدقة جارية وعلم بثّه في صدور الرجال ، وولد صالح يدعو له " وفي الحديث : " ما من نفس تُقتل ظلماً إلاّ كان على ابن آدم الأول كِفل من دمها ذلك لأنّه أول من سنّ القتل " وفي الحديث : " من سنّ سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة ومن سنّ سنة سيِّئَة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة " .
رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَآ إِن نَّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَآ إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الذين مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ واعف عَنَّا واغفر لَنَا وارحمنآ أَنتَ مولانا فانصرنا عَلَى القوم الكافرين } .
يجوز أن يكون هذا الدعاء محكيّاً من قول المؤمنين : الذين قالوا : { سمعنا وأطعنا } [ البقرة : 285 ] ، بأن اتّبعوا القبول والرضا ، فتوجّهوا إلى طلب الجزاء ومناجاة الله تعالى . واختيارُ حكاية هذا عنهم في آخر السورة تكملة للإيذان بانتهائها . ويجوز أن يكون تلقينا من جانب الله تعالى إياهم : بأن يقولوا هذا الدعاء ، مثل ما لقّنوا التحميد في سورة الفاتحة فيكون التقدير ، قولوا : { ربنا لا تؤاخذنا } إلى آخر السورة ؛ إنّ الله بعد أن قرر لهم أنّه لا يكلّف نفساً إلاّ وسعها ، لقّنهم مناجاة بدعوات هي من آثار انتفاء التكليف بما ليس في الوسع . والمراد من الدعاء به طلب الدوام على ذلك لئلا يُنسخ ذلك من جراء غضب الله كما غضب على الذين قال فيهم : { فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم } [ النساء : 160 ] .
والمؤاخذة مشتقّة من الأخذ بمعنى العقوبة ، كقوله : { وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة } [ هود : 102 ] والمفاعلة فيه للمبالغة أي لا تأخذنا بالنسيان والخطأ .
والمراد ما يترتّب على النسيان والخطأ من فِعل أو ترك لا يرضيان الله تعالى .
فهذه دعوة من المؤمنين دعوها قبل أن يعلموا أنّ الله رفع عنهم ذلك بقوله : { لا يكلف الله نفساً إلا وسعها } وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم " رُفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه " وفي رواية : " وضع " رواه ابن ماجه وتكلم العلماء في صحته ، وقد حسّنه النووي ، وأنكره أحمد ، ومعناه صحيح في غير ما يرجع إلى الخطاب الوضع . فالمعنى رفع الله عنهم المؤاخذة فبقيت المؤاخذة بالإتلاف والغرامات ولذلك جاء في هذه الدعوة « لا تؤاخذنا » أي لا تؤاخذنا بالعقاب على فعلٍ : نسيانٍ أو خطأ ، فلا يرد إشكال الدعاء بما عُلم حصوله ، حتى نحتاج إلى تأويل الآية بأنّ المراد بالنسيان والخطأ سببهما وهو التفريط والإغفال كما في « الكشاف » .
وقوله : { ربنا ولا تحمل علينا إصراً } إلخ فصلّ بين الجملتين المتعاطفتين ، بإعادة النداء ، مع أنّه مستغنى عنه : لأنّ مخاطبة المنادى مغنِيَة عن إعادَة النداء لكن قصد من إعادته إظهار التذلّل . والحمل مجاز في التكليف بأمر شديد يثقل على النفس ، وهو مناسب لاستعارة الإصر .
وأصل معنى الإصر ما يُؤصَر به أي يُربط ، وتعقد به الأشياء ، ويقال له : الإصار بكسر الهمزة ثم استعمل مجازاً في العهد والميثاق المؤكّد فيما يصعب الوفاء به ، ومنه قوله في آل عمران ( 81 ) : { قال آقررتم وأخذتم على ذلكم إصري } وأطلق أيضاً على ما يثقل عمله ، والامتثالُ فيه ، وبذلك فسّره الزجاج والزمخشري هنا وفي قوله ، في سورة الأعراف ( 157 ) :
{ ويضع عنهم إصرهم } وهو المقصود هنا ، ومن ثم حسنت استعارة الحَمْل للتكليف ، لأنّ الحمل يناسب الثِقَل فيكون قوله : { ولا تحمِلْ } ترشيحاً مستعاراً لملائم المشبّه به وعن ابن عباس : { ولا تحمل علينا إصراً } عهداً لا نفي به ، ونعذّب بتركه ونقضه » .
وقوله : { كما حملته على الذين من قبلنا } صفة ل { إصراً } أي عهداً من الدين ، كالعهد الذي كلّف به من قبلنا في المشقة ، مثل ما كلّف به بعض الأمم الماضية من الأحكام الشاقّة مثل أمر بني إسرائيل بتيه أربعين سنة ، وبصفات في البقرة التي أمروا بذبحها نادرة ونحو ذلك ، وكل ذلك تأديب لهم على مخالفات ، وعلى قلة اهتبال بأوامر الله ورسوله إليهم ، قال تعالى في صفة محمد صلى الله عليه وسلم " ويضع عنهم إصرهم " .
وقوله : { ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به } أي ما لا نستطيع حمله من العقوبات . والتضعيف فيه للتعدية . وقيل : هذا دعاء بمعافاتهم من التكاليف الشديدة ، والذي قبله دعاء بمعافاتهم من العقوبات التي عوقبت بها الأمم . والطاقة في الأصل الإطاقة خفّفت بحذف الهمزة كما قالوا : جابة وإجابة وطاعة وإطاعة .
والقول في هذين الدعاءين كالقول في قوله : { ربنا لا تؤاخذنا } .
وقوله : { واعف عنا واغفر لنا } لم يؤت مع هذه الدعوات بقوله ربّنا ، إمّا لأنّه تكرّر ثلاث مرات ، والعرب تكره تكرير اللفظ أكثر من ثلاث مرات إلاّ في مقام التهويل ، وإمّا لأنّ تلك الدعوات المقترنة بقوله : { ربنا } فروع لهذه الدعوات الثلاث ، فإذا استجيب تلك حصلت إجابة هذه بالأوْلى ؛ فإنّ العفو أصل لعدم المؤاخذة ، والمغفرةَ أصل لرفع المشقة والرحمة أصل لعدم العقوبة الدنيوية والأخروية ، فلمّا كان تعميماً بعد تخصيص ، كان كأنّه دعاء واحد .
وقوله : { أنت مولانا } فصله لأنّه كالعلّة للدعوات الماضية : أي دعوناك ورجونا منك ذلك لأنّك مولانا ، ومن شأن المولى الرفقُ بالمملوك ، وليكون هذا أيضاً كالمقدمة للدعوة الآتية .
وقوله : { فانصرنا على القوم الكافرين } جيء فيه بالفاء للتفريع عن كونه مولى ، لأنّ شأن المولى أن ينصر مولاه ، ومن هنا يظهر موقع التعجيب والتحسير في قول مرة بن عداء الفقعسي :
رأيتُ مَوَالِيّ الألَى يخذلونني *** على حدثَانِ الدّهْرِ إذْ يَتَقلّب
وفي التفريع بالفاء إيذان بتأكيد طلب إجابة الدعاء بالنصر ، لأنّهم جعلوه مرتّباً على وصف محقّق ، وهو ولاية الله تعالى المؤمنين ، قال تعالى : { اللَّه ولي الذين آمنوا } [ البقرة : 257 ] وفي حديث يوم أحد لَمَّا قال أبو سفيان : « لَنا العُزّى ولا عُزَّى لكم » قال النبي صلى الله عليه وسلم أجيبوه " الله مولانا ولا مولَى لكم " . ووجه الاهتمام بهذه الدعوة أنّها جامعة لخيري الدنيا والآخرة ؛ لأنّهم إذا نصروا على العدوّ ، فقد طاب عيشهم وظهر دينهم ، وسلموا من الفتنة ، ودخل الناس فيه أفواجاً .
وفي « الصحيح » ، عن أبي مسعود الأنصاري البدري : أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة ، في ليلة ، كفتاه " وهما من قوله تعالى : { آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه } إلى آخر السورة . قيل معناه كفتاه عن قيام الليل ، فيكون معنى من قرأ من صلَى بهما ، وقيل معناه كفتاه بركة وتعوّذا من الشياطين والمضارّ ، ولعلّ كلا الاحتمالين مراد .