( يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها ، ذلكم خير لكم لعلكم تذكرون . فإن لم تجدوا فيها أحدا فلا تدخلوها حتى يؤذن لكم . وإن قيل لكم : ارجعوا فارجعوا هو أزكى لكم ، والله بما تعملون عليم . ليس عليكم جناح أن تدخلوا بيوتا غير مسكونة فيها متاع لكم . والله يعلم ما تبدون وما تكتمون ) . .
لقد جعل الله البيوت سكنا ، يفيء إليها الناس ؛ فتسكن أرواحهم ؛ وتطمئن نفوسهم ؛ ويأمنون على عوراتهم وحرماتهم ، ويلقون أعباء الحذر والحرص المرهقة للأعصاب !
والبيوت لا تكون كذلك إلا حين تكون حرما آمنا لا يستبيحه أحد إلا بعلم أهله وإذنهم . وفي الوقت الذي يريدون ، وعلى الحالة التي يحبون أن يلقوا عليها الناس .
ذلك إلى أن استباحة حرمة البيت من الداخلين دون استئذان ، يجعل أعينهم تقع على عورات ؛ وتلتقي بمفاتن تثير الشهوات ؛ وتهيى ء الفرصة للغواية ، الناشئة من اللقاءات العابرة والنظرات الطائرة ، التي قد تتكرر فتتحول إلى نظرات قاصدة ، تحركها الميول التي أيقظتها اللقاءات الأولى على غير قصد ولا انتظار ؛ وتحولها إلى علاقات آثمة بعد بضع خطوات أو إلى شهوات محرومة تنشأ عنها العقد النفسية والانحرافات .
ولقد كانوا في الجاهلية يهجمون هجوما ، فيدخل الزائر البيت ، ثم يقول : لقد دخلت ! وكان يقع أن يكون صاحب الدار مع أهله في الحالة التي لا يجوز أن يراهما عليها أحد . وكان يقع أن تكون المرأة عاريةأو مكشوفة العورة ، هي أو الرجل ، وكان ذلك يؤذي ويجرح ، ويحرم البيوت أمنها وسكينتها ؛ كما يعرض النفوس من هنا ومن هناك للفتنة ، حين تقع العين على ما يثير .
من أجل هذا وذلك أدب الله المسلمين بهذا الأدب العالي . أدب الاستئذان على البيوت ، والسلام على أهلها لإيناسهم . وإزالة الوحشة من نفوسهم ، قبل الدخول :
( يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها ) . .
ويعبر عن الاستئذان بالاستئناس - وهو تعبير يوحي بلطف الاستئذان ، ولطف الطريقة التي يجيء بها الطارق ، فتحدث في نفوس أهل البيت أنسا به ، واستعدادا لاستقباله . وهي لفتة دقيقة لطيفة ، لرعاية أحوال النفوس ، ولتقدير ظروف الناس في بيوتهم ، وما يلابسها من ضرورات لا يجوز أن يشقى بها أهلها ويحرجوا أمام الطارقين في ليل أو نهار .
القول في تأويل قوله تعالى : { يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتّىَ تَسْتَأْنِسُواْ وَتُسَلّمُواْ عَلَىَ أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لّكُمْ لَعَلّكُمْ تَذَكّرُونَ } .
اختلف أهل التأويل في ذلك ، فقال بعضهم : تأويله يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأذنوا . ذكر من قال ذلك :
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هشيم ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، أنه كان يقرأ : «لا تَدْخُلُوا بُيُوتا عيرَ بُيُوتِكُمْ حتى تَسْتَأْذِنُوا وَتُسَلّمُوا عَلى أهْلِها » قال : وإنما «تستأنسوا » وَهَمٌ من الكتاب .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جُبير ، عن ابن عباس في هذه الآية : لا تَدْخُلُوا بُيُوتا غيرَ بُيُوتِكُمْ حتى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلّمُوا على أهْلِها وقال : إنما هي خَطَأ من الكاتب : «حتى تستأذنوا وتسلموا » .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا وهب بن جرير ، قال : حدثنا شعبة ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جُبير ، بمثله ، غير أنه قال : إنما هي حتى تستأذنوا ، ولكنها سقط من الكاتب .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن عطية ، قال : حدثنا معاذ بن سليمان ، عن جعفر بن إياس ، عن سعيد ، عن ابن عباس : حتى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلّمُوا عَلى أهْلِها قال : أخطأ الكاتب . وكان ابن عباس يقرأ : «حتى تَسْتأْذِنُوا وَتُسَلّمُوا » وكان يقرؤها على قراءة أُبيّ بن كعب .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا أبو عامر ، قال : حدثنا سفيان ، عن الأعمش أنه كان يقرؤها : «حتى تَسْتأذِنوا وتُسَلّمُوا » قال سفيان : وبلغني أن ابن عباس كان يقرؤها : «حتى تَسْتَأْذِنُوا وَتُسَلّمُوا » وقال : إنها خَطَأ من الكاتب .
حدثنا محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتا غيرَ بُيُوتِكُمْ حتى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلّمُوا على أهْلِها قال : الاستئناس : الاستئذان .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني هشيم ، قال : أخبرنا مغيرة ، عن إبراهيم ، قال : في مصحف ابن مسعود : «حتى تُسَلّموا عَلى أهْلِها وَتَسْتَأذِنُوا » .
قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا جعفر بن إياس ، عن سعيد ، عن ابن عباس أنه كان يقرؤها : «يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتا غيرَ بُيُوتِكُمْ حتى تُسَلّمُوا عَلى أهْلِها وَتَسْتأذِنُوا » قال : وإنما تستأنسوا وَهم من الكُتّاب .
قال : حدثنا هشيم ، قال مغيرة ، قال مجاهد : جاء ابن عمر من حاجة وقد آذاه الرّمْضاء ، فأتى فُسطاط امرأة من قريش ، فقال : السلام عليكم ، أدخل ؟ فقالت : ادخل بسلام فأعاد ، فأعادت ، وهو يراوح بين قدميه ، قال : قولي ادْخل قالت : ادخل فدخل .
قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا منصور ، عن ابن سيرين ، وأخبرنا يونس بن عبيد ، عن عمرو بن سعيد الثقفيّ : أنّ رجلاً استأذن النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فقال : أَلِج أو أَنَلِج ؟ فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم لأمة له يقال لها رَوْضة : «قومي إلى هَذَا فَكَلّمِيهِ ، فإنّهُ لا يُحْسِنُ يَسْأْذِنُ ، فَقُولي لَهْ يَقُولُ : السّلامُ عَلَيْكُمْ ، أدْخُل ؟ » فسمعها الرجل ، فقالها ، فقال : «أُدْخُلْ » .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قال : قال ابن عباس ، قوله : حتى تَسْتأْنِسوا قال : الاستئذان ، ثم نُسخ واستثني : لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَدْخُلُوا بُيُوتا غيرَ مَسْكُونَةٍ .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، قال : حدثنا أبو حمزة ، عن المغيرة ، عن إبراهيم ، قوله : لا تَدْخُلُوا بُيُوتا غيرَ بُيُوتِكُمْ قال : حتى تسلّموا على أهلها وتستأذنوا .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قَتادة : حتى تَسْتَأْنِسُوا قال : حتى تستأذنوا وتسلّموا .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا أشعث بن سوار ، عن كردوس ، عن ابن مسعود ، قال : عليكم أن تستأذنوا على أمهاتكم وأَخَواتكم .
قال أشعث عن عديّ بن ثابت : أن امرأة من الأنصار ، قالت : يا رسول الله ، إني أكون في منزلي على الحال التي لا أحبّ أن يراني أحد عليها والد ولا ولد ، وإنه لا يزال يدخل عليّ رجل من أهلي وأنا على تلك الحال ؟ قال : فنزلت : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتا غيرَ بُيُوتِكُمْ حتى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلّمُوا على أهْلِها . . . الآية .
وقال آخرون : معنى ذلك : حتى تُؤْنِسوا أهل البيت بالتنحنح والتنخم وما أشبهه ، حتى يعلموا أنكم تريدون الدخول عليهم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، عن عنبسة ، عن محمد بن عبد الرحمن ، عن القاسم بن أبي بزة ، عن مجاهد ، في قوله : لا تَدْخُلُوا بُيُوتا غيرَ بُيُوتِكُمْ حتى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلّمُوا عَلى أهْلِها قال : حتى تتنحنحوا وتتنخموا .
حدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله : حتى تَسْتَأْنسُوا قال : حتى تجرّسوا وتسلموا .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، قوله : حتى تَسْتَأْنِسُوا قال : تَنَحْنحوا وتَنَخّموا .
قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قال : سمعت عطاء بن أبي رباح يخبر عن ابن عباس ، قال : ثلاث آيات قد جحدهنّ الناس ، قال الله : إنّ أكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللّهِ أتْقاكُمْ قال : ويقولون : إن أكرمهم عند الله أعظمهم شأنا . قال : والإذن كله قد جحده الناس فقلت له : أستأذن على أَخَواتي أيتامٍ في حِجري معي في بيت واحد ؟ قال : نعم ، فرددت على من حضرني ، فأبى ، قال : أتحبّ أن تراها عريانة ؟ قلت : لا . قال : فاستأذِن فراجعته أيضا ، قال : أتحبّ أن تطيع الله ؟ قلت : نعم ، قال : فاستأذِن فقال لي سعيد بن جُبير : إنك لَتُرَدّد عليه قلت : أردت أن يرخص لي .
قال ابن جُرَيج : وأخبرني ابن طاوس ، عن أبيه ، قال : ما من امرأة أكره إليّ أن أرى كأنه يقول عريتها أو عريانة من ذات محرم . قال : وكان يشدّد في ذلك . قال ابن جُرَيج ، وقال عطاء بن أبي رباح : وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم فليستأذنوا ، فواجب على الناس أجمعين إذا احتلموا أن يستأذنوا على من كان من الناس . قلت لعطاء : أواجب على الرجل أن يستأذن على أمه ومَنْ وراءَها من ذات قرابته ؟ قال : نعم . قلت : أَبِرّ وَجَب ؟ قال قوله : وَإذَا بَلَغَ الأطْفالُ مِنْكُمُ الحُلُمَ فَلْيَسْتأْذِنُوا . قال ابن جُرَيج : وأخبرني ابن زياد : أن صفوان مولى لبني زُهْرة ، أخبره عن عطاء بن يسار : أن رجلاً قال للنبيّ صلى الله عليه وسلم : أَسْتأذِنُ على أمي ؟ قال : «نَعَمْ » . قال : إنها ليس لها خادم غيري ، أفأستأذن عليها كلما دخلت ؟ قال : «أتُحبّ أنْ تَراها عُرْيانَةً ؟ » قال الرجل : لا . قال : «فاسْتأْذِنْ عَلَيْها » . قال ابن جُرَيج عن الزهريّ ، قال : سمعت هزيل بن شُرَحبيل الأَوْدِيّ الأعمى ، أنه سمع ابن مسعود يقول : عليكم الإذن على أمهاتكم .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قال : قلت لعطاء : أيستأذن الرجل على امرأته ؟ قال : لا .
حدثنا الحسين ، قال : حدثنا محمد بن حازم ، عن الأعمش ، عن عمرو بن مرّة ، عن يحيى بن الجزّار ، عن ابن أخي زينب امرأة ابن مسعود ، عن زينب قالت : كان عبد الله إذا جاء من حاجة فانتهى إلى الباب ، تنحنح وبَزَق ، كراهة أن يَهْجُم منا على أمر يكرهه .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قول الله : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتا غيرَ بُيُوتِكُمْ حتى تَسْتأْنِسُوا قال : الاستئناس : التنحنح والتجرّس ، حتى يعرفوا أن قد جاءهم أحد . قال : والتجرّس : كلامه وتنحنحه .
والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال : إن الاستئناس : الاستفعال من الأنس ، وهو أن يستأذن أهل البيت في الدخول عليهم ، مخبرا بذلك من فيه ، وهل فيه أحد ؟ وليؤذنهم أنه داخل عليهم ، فليأنس إلى إذنهم له في ذلك ، ويأنسوا إلى استئذانه إياهم . وقد حُكِي عن العرب سماعا : اذهب فاستأنس ، هل ترى أحدا في الدار ؟ بمعنى : انظر هل ترى فيها أحدا ؟
فتأويل الكلام إذن ، إذا كان ذلك معناه : يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تسلموا وتستأذنوا ، وذلك أن يقول أحدكم : السلام عليكم ، أدخل ؟ وهو من المقدم الذي معناه التأخير ، إنما هو : حتى تسلموا وتستأذنوا ، كما ذكرنا من الرواية عن ابن عباس .
وقوله : ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ يقول : استئناسكم وتسليمكم على أهل البيت الذي تريدون دخوله ، فإن دخولكموه خير لكم لأنكم لا تدرون أنكم إذا دخلتموه بغير إذن ، على ماذا تهجُمون ؟ على ما يسوءكم أو يسرّكم ؟ وأنتم إذا دخلتم بإذن ، لم تدخلوا على ما تكرهون ، وأدّيتم بذلك أيضا حقّ الله عليكم في الاستئذان والسلام . وقوله : لَعَلّكُمْ تَذَكّرُونَ يقول : لتتذكروا بفعلكم ذلك أو الله عليكم ، واللازم لكم من طاعته ، فتطيعوه .
ذكرنا أن من أكبر الأغراض في هذه السورة تشريع نظام المعاشرة والمخالطة العائلية في التجاور . فهذه الآيات استئناف لبيان أحكام التزاور وتعليم آداب الاستئذان ، وتحديد ما يحصل المقصود منه كيلا يكون الناس مختلفين في كيفيته على تفاوت اختلاف مداركهم في المقصود منه والمفيد .
وقد كان الاستئذان معروفاً في الجاهلية وصدر الإسلام ، وكان يختلف شكله باختلاف حال المستأذن عليه من ملوك وسوقة فكان غير متماثل . وقد يتركه أو يقصر فيه من لا يهمه إلا قضاء وطره وتعجيل حاجته ، ولا يبعد بأن يكون ولوجه محرجاً للمزور أو مثقلاً عليه فجاءت هذه الآيات لتحديد كيفيته وإدخاله في آداب الدين حتى لا يفرط الناس فيه أو في بعضه باختلاف مراتبهم في الاحتشام والأنفة واختلاف أوهامهم في عدم المؤاخذة أو في شدتها .
وشرع الاستئذان لمن يزور أحداً في بيته لأن الناس اتخذوا البيوت للاستتار مما يؤذي الأبدان من حرّ وقرّ ومطر وقتام ، ومما يؤذي العرض والنفس من انكشاف ما لا يحب الساكن اطلاع الناس عليه ، فإذا كان في بيته وجاءه أحد فهو لا يدخله حتى يصلح ما في بيته وليستر ما يحب أن يستره ثم يأذن له أو يخرج له فيكلمه من خارج الباب .
ومعنى { تستأنسوا } تطلبوا الأنس بكم ، أي تطلبوا أن يأنس بكم صاحب البيت ، وأنسه به بانتفاء الوحشة والكراهية . وهذا كناية لطيفة عن الاستئذان ، أي أن يستأذن الداخل ، أي يطلب إذناً من شأنه أن لا يكون معه استيحاش رب المنزل بالداخل . قال ابن وهب قال مالك : الاستئناس فيما نرى والله أعلم الاستئذان . يريد أنه المراد كناية أو مرادفة فهو من الأنس ، وهذا الذي قاله مالك هو القول الفصل . ووقع لابن القاسم في « جامع العتيبة » أن الاستئناس التسليم . قال ابن العربي : وهو بعيد . وقلت : أراد ابن القاسم السلام بقصد الاستئذان فيكون عطف { وتسلموا } عطف تفسير . وليس المراد بالاستئناس أنه مشتق من آنس بمعنى علم لأن ذلك إطلاق آخر لا يستقيم هنا فلا فائدة في ذكره وذلك بحسب الظاهر فإنه إذا أذن له دل إذنه على أنه لا يكره دخوله وإذا كره دخوله لا يأذن له والله متولي علم ما في قلبه فلذلك عُبر عن الاستئذان بالاستئناس مع ما في ذلك من الإيماء إلى علة مشروعية الاستئذان .
وفي ذلك من الآداب أن المرء لا ينبغي أن يكون كلاًّ على غيره ، ولا ينبغي له أن يعرض نفسه إلى الكراهية والاستثقال ، وأنه ينبغي أن يكون الزائر والمزور متوافقين متآنسين وذلك عون على توفر الأخوة الإسلامية .
وعطف الأمر بالسلام على الاستئناس وجعل كلاهما غاية للنهي عن دخول البيوت تنبيهاً على وجوب الإتيان بهما لأن النهي لا يرتفع إلا عند حصولهما .
وعن ابن سيرين : " أن رجلاً استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم فقال : أأدخل ؟ فأمر النبي رجلاً عنده أو أَمَةً اسمها روضة فقال : إنه لا يحسن أن يستأذن فليقُل : السلام عليكم أأدخل . فسمعه الرجل فقال : السلام عليكم أأدخل . فقال : ادْخلْ " ، وروى مطرف عن مالك عن زيد بن أسلم : « أنه استأذن على عبد الله بن عمر فقال : أألج . فأذن له ابن عمر ، فلما دخل قال له ابن عمر : ما لك واستئذان العرب ؟ ( يريد أهل الجاهلية ) إذا استأذنت فقل : السلام عليكم . فإذا رد عليك السلام فقل : أأدخل ، فإن أذن لك فادخل » .
وظاهر الآية أن الاستئذان واجب وأن السلام واجب غير أن سياق الآية لتشريع الاستئذان . وأما السلام فتقررت مشروعيته من قبل في أول الإسلام ولم يكن خاصاً بحالة دخول البيوت فلم يكن للسلام اختصاص هنا وإنما ذكر مع الاستئذان للمحافظة عليه مع الاستئذان لئلا يلهي الاستئذان الطارقَ فينسى السلام أو يحسب الاستئذان كافياً عن السلام . قال المازري في كتاب « المعلم على صحيح مسلم » : الاستئذان مشروع . وقال ابن العربي في « أحكام القرآن » قال جماعة : الاستئذان فرض والسلام مستحب . وروي عن عطاء : الاستئذان واجب على كل محتلم . ولم يفصح عن حكم الاستئذان سوى فقهاء المالكية . قال الشيخ أبو محمد في « الرسالة » : الاستئذان واجب فلا تدخُلْ بيتاً فيه أحد حتى تستأذن ثلاثاً فإن أذن لك وإلا رجعت . وقال ابن رشد في « المقدمات » : الاستئذان واجب . وحكى أبو الحسن المالكي في « شرح الرسالة » الإجماع على وجوب الاستئذان . وقال النووي في « شرح صحيح مسلم » : الاستئذان مشروع . وهي كلمة المازري في « شرح مسلم » .
وأقول : ليس قرن الاستئذان بالسلام في الآية بمقتض مساواتَهما في الحكم إذا كانت هنالك أدلة أخرى تفرق بين حكميهما وتلك أدلة من السنة ، ومن المعنى فإن فائدة الاستئذان دفع ما يكره عن المطروق المزور وقطع أسباب الإنكار أو الشتم أو الإغلاظ في القول مع سد ذرائع الريب وكلها أو مجموعها يقتضي وجوب الاستئذان .
وأما فائدة السلام مع الاستئذان فهي تقوية الألفة المتقررة فلا تقتضي أكثر من تأكد الاستحباب . فالقرآن أمر بالحالة الكاملة وأحال تفصيل أجزائها على تبيين السنة كما قال تعالى : { لتبين للناس ما نزل إليهم } [ النحل : 44 ] .
وقد أجملت حكمة الاستئذان في قوله تعالى : { ذلكم خير لكم لعلكم تذكرون } أي ذلكم الاستئذان خير لكم ، أي فيه خير لكم ونفع فإذا تدبرتم علمتم ما فيه من خير لكم كما هو المرجو منكم .
وقد جمعت الآية الاستئذان والسلام بواو العطف المفيد التشريك فقط فدلت على أنه إن قدم الاستئذان على السلام أو قدم السلام على الاستئذان فقد جاء بالمطلوب منه ، وورد في أحاديث كثيرة الأمر بتقديم السلام على الاستئذان فيكون ذلك أولى ولا يعارض الآية .
وليس للاستئذان صيغة معينة . وما ورد في بعض الآثار فإنما محمله على أنه المتعارف بينهم أو على أنه كلام أجمع من غيره في المراد . وقد بينت السنة أن المستأذن إن لم يؤذن له بالدخول يكرره ثلاث مرات فإذا لم يؤذن له انصرف .
وورد في هذا حديث أبي موسى الأشعري مع عمر بن الخطاب في « صحيح البخاري » وهو ما روي : « عن أبي سعيد الخدري قال : كنت في مجلس من مجالس الأنصار إذ جاء أبو موسى الأشعري كأنه مذعور قال : استأذنت على عمر ثلاثاً فلم يأذن لي فرجعت ( وفسره في رواية أخرى بأن عمر كان مشتغلاً ببعض أمره ثم تذكر فقال : ألم أسمع صوت عبد الله بن قيس ؟ قالوا : استأذن ثلاثاً ثم رجع ) فأرسل وراءه فجاء أبو موسى فقال عمر : ما منعك ؟ قال قلت : استأذنت ثلاثاً فلم يؤذن لي فرجعت . " وقال رسول الله : إذا استأذن أحدكم ثلاثاً فلم يؤذن له فليرجع " فقال عمر : والله لتقيمن عليه بينة . قال أبو موسى : أمنكم أحد سمعه من النبي ؟ فقال أبيّ بن كعب : والله لا يقوم معك إلا أصغرنا فكنت أصغرهم فقمت معه فأخبرت عمر أن النبي قال ذلك . فقال عمر : خفِي عليّ هذا من أمر رسول الله ألهاني الصفق بالأسواق .
وقد علم أن الاستئذان يقتضي إذناً ومنعاً وسكوتاً فإن أذن له فذاك وإن منع بصريح القول فذلك قوله تعالى : { وإن قيل لكم ارجعوا فارجعوا هو أزكى لكم } . والضمير عائد إلى الرجوع المفهوم من { ارجعوا } كقوله : { اعدلوا هو أقرب للتقوى } [ المائدة : 8 ] .
ومعنى { ازكى لكم } أنه أفضل وخير لكم من أن يأذنوا على كراهية . وفي هذا أدب عظيم وهو تعليم الصراحة بالحق دون المواربة ما لم يكن فيه أذى . وتعليم قبول الحق لأنه أطمن لنفس قابله من تلقي ما لا يدري أهو حق أم مواربة ، ولو اعتاد الناس التصارح بالحق بينهم لزالت عنهم ظنون السوء بأنفسهم .
وأما السكوت فهو ما بيّن حكمه حديث أبي موسى . وفعل { تسلموا } معناه تقولوا : السلام عليكم ، فهو من الأفعال المشتقة من حكاية الأقوال الواقعة في الجمل مثل : رحّب وأهّل ، إذا قال : مرحباً وأهلاً ، وحيّا ، إذا قال : حيَّاك الله ، وجزّأ إذ قال له : جزاك الله خيراً . وسهَّل ، إذا قال : سهلاً ، أي حللت سهلاً . قال البعيث بن حريث :
فقلت لها أهلاً وسهلاً ومرحباً *** فردت بتأهيل وسهل ومرحبِ
وفي الحديث : " تسبحون وتحمدون وتكبرون دبر كل صلاة ثلاثاً وثلاثين " . وهي قريبة من النحت مثل : بسمل ، إذا قال : باسم الله ، وحسبل ، إذا قال : حسبنا الله .
و { على أهلها } يتعلق ب { تسلموا } لأنه أصله من بقية الجملة التي صيغ منها الفعل التي أصلها : السلام عليكم ، كما يعدى رحَّب به ، إذا قال : مرحباً بك ، وكذلك أهّل به وسهّل به .
ومنه قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا صلّوا عليه وسلموا تسليماً } [ الأحزاب : 56 ] .
وصيغة التسليم هي : السلام عليكم . وقد علمها النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه ، ونهى أبا جُزَي الهجيمي عن أن يقول : عليك السلام . وقال له : إن عليك السلام تحية الميت ثلاثاً ، أي الابتداء بذلك . وأما الرد فيقول : وعليك السلام بواو العطف وبذلك فارقت تحية الميت ورحمة الله . أخرج ذلك الترمذي في كتاب الاستئذان . وتقدم السلام في قوله تعالى : { وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم } في سورة [ الأنعام : 54 ] .