157- وأخص بها الذين يتبعون الرسول محمدا ، الذي لا يكتب ولا يقرأ ، وهو الذي يجدون وصفه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل ، يأمرهم بكل خير وينهاهم عن كل شر ، ويحل لهم الأشياء التي يستطيبها الطبع ، ويُحرم عليهم الأشياء التي يستخبثها الطبع كالدم والميتة ، ويزيل عنهم الأثقال والشدائد التي كانت عليهم . فالذين صدقوا برسالته وآزروه وأيدوه ونصروه على أعدائه ، واتبعوا القرآن الذي أنزل معه كالنور الهادي ، أولئك هم الفائزون دون غيرهم ممن لم يؤمنوا به .
( الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل ؛ يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ، ويحل لهم الطيبات ، ويحرم عليهم الخبائث ، ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم . فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون ) .
وإنه لنبأ عظيم ، يشهد بأن بني إسرائيل قد جاءهم الخبر اليقين بالنبي الأمي ، على يدي نبيهم موسى ونبيهم عيسى - عليهما السلام - منذ أمد بعيد . جاءهم الخبر اليقين ببعثه ، وبصفاته ، وبمنهج رسالته ، وبخصائص ملته . فهو ( النبي الأمي ) ، وهو يأمر الناس بالمعروف وينهاهم عن المنكر ، وهو يحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ، وهو يضع عمن يؤمنون به من بني إسرائيل الأثقال والأغلال التي علم الله أنها ستفرض عليهم بسبب معصيتهم ، فيرفعها عنهم النبي الأمي حين يؤمنون به . وأتباع هذا النبي يتقون ربهم ، ويخرجون زكاة أموالهم ، ويؤمنون بآيات الله . . وجاءهم الخبر اليقين بأن الذين يؤمنون بهذا النبي الأمي ؛ ويعظمونه ويوقرونه ، وينصرونه ويؤيدونه ، ويتبعون النور الهادي الذي معه ( أولئك هم المفلحون ) . .
وبذلك البلاغ المبكر لبني إسرائيل - على يد نبيهم موسى عليه السلام - كشف الله سبحانه عن مستقبل دينه ، وعن حامل رايته ، وعن طريق أتباعه ، وعن مستقر رحمته . . فلم يبق عذر لأتباع سائر الديانات السابقة ، بعد ذلك البلاغ المبكر بالخبر اليقين .
وهذا الخبر اليقين من رب العالمين لموسى عليه السلام - وهو والسبعون المختارون من قومه في ميقات ربه - يكشف كذلك عن مدى جريمة بني إسرائيل في استقبالهم لهذا النبي الأمي وللدين الذي جاء به . وفيه التخفيف عنهم والتيسير ، إلى جانب ما فيه من البشارة بالفلاح للمؤمنين !
إنها الجريمة عن علم وعن بينة ! والجريمة التي لم يألوا فيها جهداً . . فقد سجل التاريخ أن بني إسرائيل كانوا هم ألأم خلق وقف لهذا النبي وللدين الذي جاء به . . اليهود أولاً والصليبيون أخيراً . . وأن الحرب التي شنوها على هذا النبي ودينه وأهل دينه كانت حرباً خبيثة ماكرة لئيمة قاسية ؛ وأنهم أصروا عليها ودأبوا ؛ وما يزالون يصرون ويدأبون !
والذي يراجع - فقط - ما حكاه القرآن الكريم من حرب أهل الكتاب للإسلام والمسلمين - وقد سبق منه في سورة البقرة وآل عمران والنساء والمائدة ما سبق - يطلع على المدى الواسع المتطاول الذي أداروا فيه المعركة مع هذا الدين في عناد لئيم !
والذي يراجع التاريخ بعد ذلك - منذ اليوم الذي استعلن فيه الإسلام بالمدينة ، وقامت له دولة - إلى اللحظة الحاضرة ، يدرك كذلك مدى الإصرار العنيد على الوقوف لهذا الدين وإرادة محوه من الوجود !
ولقد استخدمت الصهيونية والصليبية في العصر الحديث من ألوان الحرب والكيد والمكر أضعاف ما استخدمته طوال القرون الماضية . . وهي في هذه الفترة بالذات تعالج إزالة هذا الدين بجملته ؛ وتحسب أنها تدخل معه في المعركة الأخيرة الفاصلة . . لذلك تستخدم جميع الأساليب التي جربتها في القرون الماضية كلها - بالإضافة إلى ما استحدثته منها - جملة واحدة !
ذلك في الوقت الذي يقوم ممن ينتسبون إلى الإسلام ناس يدعون في غرارة ساذجة إلى التعاون بين أهل الإسلام وأهل بقية الأديان للوقوف في وجه تيار المادية والإلحاد ! أهل بقية الأديان الذين يذبحون من ينتسبون إلى الإسلام في كل مكان ؛ ويشنون عليهم حرباً تتسم بكل بشاعة الحروب الصليبية ومحاكم التفتيش في الأندلس - سواء عن طريق أجهزتهم المباشرة في المستعمرات في آسيا وإفريقية أو عن طريق الأوضاع التي يقيمونها ويسندونها في البلاد [ المستقلة ! ] لتحل محل الإسلام عقائد ومذاهب علمانية ! تنكر " الغيبية " لأنها " علمية ! " و " تطوّر " الأخلاق لتصبح هي أخلاق البهائم التي ينزو بعضها على بعض في " حرية ! " ، و " تطوّر " كذلك الفقه الإسلامي ، وتقيم له مؤتمرات المستشرقين لتطويره . كيما يحل الربا والاختلاط الجنسي وسائر المحرمات الإسلامية ! !
إنها المعركة الوحشية الضارية يخوضها أهل الكتاب مع هذا الدين ، الذي بشروا به وبنبيه منذ ذلك الأمد البعيد . ولكنهم تلقوه هذا التلقي اللئيم الخبيث العنيد !
القول في تأويل قوله تعالى : { الّذِينَ يَتّبِعُونَ الرّسُولَ النّبِيّ الاُمّيّ الّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلّ لَهُمُ الطّيّبَاتِ وَيُحَرّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأغْلاَلَ الّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتّبَعُواْ النّورَ الّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلََئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } . .
وهذا القول إبانة من الله جلّ ثناؤه عن أن الذين وعد موسى نبيه عليه السلام أن يكتب لهم الرحمة التي وصفها جلّ ثناؤه بقوله : وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلّ شَيْءٍ هم أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، لأنه لا يعلم لله رسول وصف بهذه الصفة أعني الأميّ غير نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، وبذلك جاءت الروايات عن أهل التأويل . ذكر من قال ذلك .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عمران بن عيينة ، عن عطاء ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : فَسأَكْتُبُها للّذِينَ يَتّقُونَ قال : أمة محمد صلى الله عليه وسلم .
قال : ثنا زيد بن حُباب ، عن حماد بن سلمة ، عن عطاء ، عن ابن عباس ، قال : أمة محمد صلى الله عليه وسلم .
حدثنا أبو كريب وابن وكيع ، قالا : حدثنا يحيى بن يمان ، عن أشعث ، عن جعفر ، عن سعيد ، في قوله : فَسأَكْتُبُها للّذِينَ يَتّقُونَ قال : أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، فقال موسى عليه السلام : ليتني خُلقت في أمة محمد
حدثنا ابن حميد وابن وكيع ، قالا : حدثنا جرير ، عن عطاء ، عن سعيد بن جبير : فَسأَكْتُبُها للّذِينَ يَتّقُونَ قال : الذين يتبعون محمدا صلى الله عليه وسلم .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا جرير ، عن ليث ، عن شهر بن حَوْشَب ، عن نَوْف الحميريّ ، قال : لما اختار موسى قومه سبعين رجلاً لميقات ربه قال الله لموسى : أجعل لكم الأرض مسجدا وطَهُورا ، وأجعل السكينة معكم في بيوتكم ، وأجعلكم تقرءون التوراة عن ظهور قلوبكم ، يقرؤها الرجل منكم والمرأة والحرّ والعبد والصغير والكبير . فقال موسى لقومه : إن الله قد يجعل لكم الأرض طَهُورا ومسجدا . قالوا : لا نريد أن نصلي إلاّ في الكنائس . قال : ويجعل السكينة معكم في بيوتكم . قالوا : لا نريد إلاّ أن تكون كما كانت في التابوت . قال : ويجعلكم تقرءون التوراة عن ظهور قلوبكم ، ويقرؤها الرجل منكم والمرأة والحرَ والعبد الصغير والكبير . قالوا : لا نريد أن نقرأها إلاّ نظرا . فقال الله : فَسأَكْتُبُها للّذِينَ يَتّقُونَ وَيُؤْتَونَ الزّكاةَ . . . إلى قوله : أُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن نوف البِكاليّ ، قال : لما انطلق موسى بوفد بني إسرائيل كلمه الله ، فقال : إني قد بسطت لهم الأرض طَهورا ومساجد يصلون فيها حيث أدركتهم الصلاة إلاّ عند مرحاض أو قبر أو حمام ، وجعلت السكينة في قلوبهم ، وجعلتهم يقرءون التوراة عن ظهر ألسنتهم . قال : فذكر ذلك موسى لبني إسرائيل ، فقالوا : لا نستطيع حمل السكينة في قلوبنا ، فاجعلها لنا في تابوت ، ولا نقرأ التوراة إلاّ نظرا ، ولا نصلي إلاّ في الكنيسة فقال الله : فَسأَكْتُبُها للّذِينَ يَتّقُونَ وَيُؤْتَونَ الزّكاةَ . . . حتى بلغ : أُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ . قال : فقال موسى عليه السلام : يا رب اجعلني نبيهم قال : نبيهم منهم . قال : ربّ اجعلني منهم قال : لن تدركهم . قال : يا ربّ أتيتك بوفد بني إسرائيل ، فجعلت وفادتنا لغيرنا فأنزل الله : وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمّةٌ يُهْدُونَ بالحَقّ وبِهِ يَعْدِلُونَ . قال نوف البِكالي : فاحمدوا الله الذي حفظ غيبتكم ، وأخذ لكم بسهمكم ، وجعل وفادة بني إسرائيل لكم .
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا معاذ بن هشام ، قال : ثني أبي ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن نوف البِكالي بنحوه ، إلاّ أنه قال : فإني أنزل عليكم التوراة تقرءونها عن ظهر ألسنتكم ، رجالكم ونساؤكم وصبيانكم . قالوا : لا نصلي إلاّ في كنيسة ، ثم ذكر سائر الحديث نحوه .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا إسحاق بن إسماعيل ، عن يعقوب ، عن جعفر ، عن سعيد بن جبير : فَسأَكْتُبُها للّذِينَ يَتّقُونَ قال : أمة محمد صلى الله عليه وسلم .
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : فَسأَكْتُبُها للّذِينَ يَتّقُونَ قال : هؤلاء أمة محمد صلى الله عليه وسلم .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : لما قيل : فَسأَكْتُبُها للّذِينَ يَتّقُونَ وَيُؤْتَونَ الزّكاةَ وَالّذِينَ هُمْ بآياتِنا يُؤْمِنُونَ تمنتها اليهود والنصارى ، فأنزل الله شرطا بَيّنا وثيقا ، فقال : الّذِينَ يَتّبِعُونَ الرّسُولَ النّبِيّ الأُمّيّ وهو نبيكم صلى الله عليه وسلم كان أميّا لا يكتب .
وقد بيّنا معنى الأميّ فيما مضى بما أغنى عن إعادته .
وأما قوله : الّذِي يَجدُونَهُ مَكْتُوبا عنْدَهُمْ فِي التّوْرَاةِ والإنْجِيل فإن الهاء في قوله : يَجِدُونَهُ عائدة على الرسول ، وهو محمد صلى الله عليه وسلم . كالذي :
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قوله : الّذِينَ يَتّبِعُونَ الرّسُولَ النّبِيّ الأُمّيّ هذا محمد صلى الله عليه وسلم .
حدثني ابن المثنى ، قال : حدثنا عثمان بن عمر ، قال : حدثنا فليح عن هلال بن عليّ ، عن عطاء بن يسار ، قال : لقيت عبد الله بن عمرو ، فقلت : أخبرني عن صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة قال : أجل والله إنه لموصوف في التوراة كصفته في القرآن : يا أيّهَا النّبيّ إنّا أرْسلناكَ شاهِدا ومبشّرا ونذِيرا وحرزا للأميين ، أنت عبدي ورسولي ، سميتك المتوكل ، ليس بفظّ ولا غليظ ولا صخّاب في الأسواق ، ولا يَجْزِي بالسيئة السيئة ، ولكن يعفو ويصفح ولن نقبضه حتى نقيم به الملة العوجاء ، بأن يقولوا : لا إله إلاّ الله ، فنفتح به قلوبا غُلْفا وآذانا صُمّا ، وأعينا عُمْيا . قال عطاء : ثم لقيت كعبا فسألته عن ذلك ، فما اختلفا حرفا ، إلاّ أن كعبا قال بلغته : قلوبا غُلُوفِيَا . وآذانا صموميا ، وأعينا عموميَا .
حدثني أبو كريب ، قال : حدثنا موسى بن داود ، قال : حدثنا فليح بن سليمان ، عن هلال بن عليّ ، قال : ثني عطاء ، قال : لقيت عبد الله بن عمرو بن العاص ، فذكر نحوه . إلاّ أنه قال في كلام كعب : أعينا عُمُومَا ، وآذانا صُمُومَا ، وقلوبا غُلُوفَا .
قال : ثنا موسى ، قال : حدثنا عبد العزيز بن سلمة ، عن هلال بن عليّ ، عن عطاء بن يسار ، عن عبد الله بنحوه ، وليس فيه كلام كعب .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال الله : الّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبا عِنْدَهُمْ يقول : يجدون نعته وأمره ونبوّته مكتوبا عندهم .
القول في تأويل قوله تعالى : يَأْمُرُهُمْ بالمَعْرُوفِ ويَنْهاهُمْ عَنِ المُنْكَرِ ويُحِلّ لَهُمُ الطّيِباتِ ويُحَرّمُ عَلَيْهِمُ الخَبائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إصْرَهُمْ والأَغْلالَ التي كانَتْ عَلَيْهِمْ .
يقول تعالى ذكره : يأمر هذا النبيّ الأميّ أتباعه بالمعروف ، وهو الإيمان بالله ولزوم طاعته فيما أمر ونهى ، فذلك المعروف الذي يأمرهم به ، وينهاهم عن المنكر وهو الشرك بالله ، والانتهاء عما نهاهم الله عنه .
وقوله : ويُحِلّ لَهُمُ الطّيّباتِ وذلك ما كانت الجاهلية تحرّمه من البحائر والسوائب والوصائل والحوامي . ويُحَرّمُ عَلَيهِمُ الخبَائِثَ وذلك لحم الخنزير والربا ، وما كانوا يستحلونه من المطاعم والمشارب التي حرّمها الله . كما :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس : ويُحَرّمُ عَلَيْهِمُ الخَبائِثَ وهو لحم الخنزير والربا ، وما كانوا يستحلونه من المحرّمات من المآكل التي حرّمها الله .
وأما قوله : وَيَضَعُ عَنْهُمْ إصْرَهُمْ والأغْلالَ الّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويله ، فقال بعضهم : يعني بالإصر : العده والميثاق الذي كان أخذه على بني إسرائيل بالعمل بما في التوراة . ذكر من قال ذلك .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا جابر بن نوح ، عن أبي رَوْق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس : وَيَضَعُ عَنْهُمْ إصْرَهُمْ قال : عهدهم .
قال : ثنا المحاربي ، عن جويبر ، عن الضحاك ، قال : عهدهم .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عمرو بن عليّ ، قال : أخبرنا هشيم ، عن جويبر ، عن الضحاك ، مثله .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا يحيى بن يمان ، عن مبارك ، عن الحسن : وَيَضَعُ عَنْهُمْ إصْرَهُمْ قال : العهود التي أعطوها من أنفسهم .
قال : ثنا ابن نمير ، عن موسى بن قيس ، عن مجاهد : وَيَضَعُ عَنْهُمْ إصْرَهُمْ قال : عهدهم .
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : وَيَضَعُ عَنْهُمْ إصْرَهُمْ والأغْلالَ التي كانَتْ عَلَيْهِمْ يقول : يضع عنهم عهودهم ومواثيقهم التي أخذت عليهم في التوراة والإنجيل .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس : وَيَضَعُ عَنْهُمْ إصْرَهُمْ والأغْلالَ التي كانَتْ عَلَيْهِمْ ما كان الله أخذ عليهم من الميثاق فيما حرّم عليهم ، يقول : يضع ذلك عنهم .
وقال بعضهم : عني بذلك أنه يضع عمن اتبع نبيّ الله صلى الله عليه وسلم التشديد الذي كان على بني إسرائيل في دينهم . ذكر من قال ذلك .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : وَيَضَعُ عَنْهُمْ إصْرَهُمْ والأغْلالَ التي كانَتْ عَلَيْهِمْ فجاء محمد صلى الله عليه وسلم بإقالة منه وتجاوز عنه .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا الحماني ، قال : حدثنا شريك ، عن سالم ، عن سعيد : وَيَضَعُ عَنْهُمْ إصْرَهُمْ قال : البول ونحوه مما غلظ على بني إسرائيل .
قال : ثنا الحِمّاني ، قال : حدثنا يعقوب ، عن جعفر ، عن سعيد ، قال : شدّة العمل .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال مجاهد ، قوله : وَيَضَعُ عَنْهُمْ إصْرَهُمْ والأغْلالَ التي كانَتْ عَلَيْهِمْ قال : من اتبع محمدا ودينه من أهل الكتاب ، وضع عنهم ما كان عليهم من التشديد في دينهم .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا ابن فضيل ، عن أشعث ، عن ابن سيرين ، قال : قال أبو هريرة لابن عباس : ما علينا في الدين من حرج أن نزني ونسرق ؟ قال : بلى ، ولكن الإصر الذي كان على بني إسرائيل وُضع عنكم .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَيَضَعُ عَنْهُمْ إصْرَهُمْ قال : ، قال : قال أبو هريرة لابن عباس : ما علينا في الدين من حرج أن نزني ونسرق ؟ قال : بلى ، ولكن الإصر الذي كان على بني إسرائيل وُضع عنكم .
15242- حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : " ويضع عنهم إصرهم " ، قال : إصرهم الذي جعله عليهم .
قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال : إنّ " الإصر " هو العهد وقد بينا ذلك بشواهده في موضعٍ غير هذا بما فيه الكفاية وأن معنى الكلام : ويضع النبيُّ الأميُّ العهدَ الذي كان الله أخذ على بني إسرائيل ، من إقامة التوراة والعملِ بما فيها من الأعمال الشديدة ، كقطع الجلد من البول ، وتحريم الغنائم ، ونحو ذلك من الأعمال التي كانت عليهم مفروضةً ، فنسخها حُكْم القرآن .
وأما " الأغلال التي كانت عليهم " ، فكان ابن زيد يقول بما :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَيَضَعُ عَنْهُمْ إصْرَهُمْ قال : ها من الأعمال الشديدة كقطع الجلد من البول ، وتحريم الغنائم ، ونحو ذلك من الأعمال التي كانت عليهم مفروضة ، فنسخها حكم القرآن .
وأما الأغلال التي كانت عليهم ، فكان ابن زيد يقول بما :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب عنه في قوله : والأغْلالَ التي كانَتْ عَلَيْهِمْ قال : الأغلال . وقرأ غُلّتْ أيْدِيهِمْ قال : تلك الأغلال ، قال : ودعاهم إلى أن يؤمنوا بالنبيّ ، فيضع ذلك عنهم .
القول في تأويل قوله تعالى : فالّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتّبَعُوا النّورَ الّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ .
يقول تعالى ذكره : فالذين صدّقوا بالنبيّ الأميّ ، وأقرّوا بنبوّته ، وعَزّرُوهُ يقول : وَقّروه وعظموه وحموه من الناس . كما :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس : وعَزّروه يقول : حَموه ووقروه .
حدثني الحرث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : ثني موسى بن قيس ، عن مجاهد : وَعَزّرُوهُ وَنَصَرُوهُ قال : عزّروه : سدّدوا أمره ، وأعانوا رسوله ونصروه .
وقوله نَصَرُوهُ يقول : وأعانوه على أعداء الله وأعدائه بجهادهم ونصب الحرب لهم . وَاتّبَعُوا النّورَ الّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ يعني القرآن والإسلام . أُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ يقول : الذين يفعلون هذه الأفعال التي وصف بها جلّ ثناؤه أتباع محمد صلى الله عليه وسلم هم المنجحون . المدركون ما طلبوا ورجوا بفعلهم ذلك .
حدثني بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : فما نقموا ، يعني اليهود إلاّ أن حسدوا نبيّ الله ، فقال الله : الّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزّرُوهُ وَنَصَرُوهُ فأما نصره وتعزيره فقد سُبقتم به ، ولكن خياركم من آمن بالله واتبع النور الذي أنزل معه .
يريد قتادة بقوله : «فما نقموا إلاّ أن حسدوا نبيّ الله » أن اليهود كان محمد صلى الله عليه وسلم بما جاء به من عند الله رحمة عليهم لو اتبعوه ، لأنه جاء بوضع الإصر والأغلال عنهم ، فحملهم الحسد على الكفر به وترك قبول التخفيف لغلبة خذلان الله عليهم .
هذه الألفاظ أخرجت اليهود والنصارى من ا?شتراك الذي يظهر في قوله { فسأكتبها للذين يتقون } [ الأعراف : 156 ] وخلصت هذه العدة لأمة محمد صلى الله عليه وسلم قاله ابن عباس وابن جبير وغيرهما ، و { يتبعون } معناه في شرعه ودينه ، و { الرسول } و { النبي } اسمان لمعنيين فإن الرسول ، أخص من النبي هذا في الآدميين لاشتراك الملك في لفظة الرسول ، و { النبي } مأخوذ من النبأ ، وقيل لما كان طريقاً إلى رحمة الله تعالى وسبباً شبه بالنبي الذي هو الطريق ، ونشدوا :
لأصبح رتماً ُدَقاَق الحصى*** مكان النبي من الكاثب
وأصله الهمز ولكنه خفف كذا قال سيبويه وذلك كتخفيفهم خابية وهي من خبأ ، واستعمل تخفيفه حتى قد روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «لا تنبروا اسمي » وقدم الرسول اهتماماً بمعنى الرسالة عند المخاطبين بالقرآن وإلا فمعنى النبوءة هو المتقدم وكذلك رد رسول الله صلى الله عليه وسلم على البراء بن عازب حين قال آمنت بكتابك الذي أنزلت وبرسولك الذي أرسلت ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : «وبنبيك الذي أرسلت » ليترتب الكلام كما ترتب الأمر في نفسه ، لأنه نبىء ثم أرسل ، وأيضاً في العبارة المردودة تكرار الرسالة وهو معنى واحد ، و «الأُّمي » بضم الهمزة قيل نسب إلى أم القرى وهي مكة .
قال القاضي أبو محمد : واللفظة على هذا مختصة بالنبي صلى الله عليه وسلم وغير مضمنة معنى عدم الكتابة ، وقيل هو منسوب لعدمه الكتابة والحساب إلى الأم ، أي هو على حال الصدر عن الأم في عدم الكتابة ، وقالت فرقة هو منسوب إلى الأمة ، وهذا أيضاً مضمن عدم الكتابة لأن الأمة بجملتها غير كاتبة حتى تحدث فيها الكتابة كسائر الصنائع ، وقرأ بعض القراء فيما ذكر أبو حاتم «الأَمي » بفتح الهمزة وهو منسوب إلى الأم وهو القصد ، أي لأن هذا النبي مقصد للناس وموضع أم يؤمونه بأفعالهم وتشرعهم ، قال ابن جني : وتحتمل هذه القراءة أن يريد الأمي فغير تغيير النسب .
والضمير في قوله : { يجدونه } لبني إسرائيل والهاء منه لمحمد صلى الله عليه وسلم ، والمراد صفته ونعته .
وروي أن الله عز وجل قال لموسى قل لبني إسرائيل أجعل لكم الأرض مسجداً وطهوراً وأجعل السكينة معكم في بيوتكم وأجعلكم تقرؤون التوراة عن ظهر قلوبكم ، فأخبر موسى بني إسرائيل فقالوا : إنما نريد أن نصلي في الكنائس وأن تكون السكينة كما كانت في التابوت وأن لا نقرأ التوراة إلا نظراً ، فقيل لهم فنكتبها للذين يتقون يعني أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، وروي عن عبد الله بن عمر ، وفي البخاري أو غيره أن في التوراة من صفة محمد صلى الله عليه وسلم «يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً وحرزاً للأميين أنت عبدي ورسولي سميتك المتوكل ليس بفظ ولا غليظ ولا صَّخاب في الأسواق ، ولا يجزي بالسيئة السيئة ، ولكن يعفو ويصفح ، ولن أقبضه حتى أقيم به الملة العوجاء بأن يقولوا : لا إله إلا الله ، فنقيم به قلوباً غلفاً وآذاناً صماً وأعيناً عمياً » .
وفي البخاري «فنفتح به عيوناً عمياً وآذاناً صماً وقلوباً غلفاً » ونص كعب الأحبار نحو هذه الألفاظ إلا أنه قال «قلوباً غلفاً وآذاناً صموماً » ، قال الطبري وهي لغة حميرية وقد رويت «غلوفياً وصمومياً » .
قال القاضي أبو محمد : وأظن هذا وهماً وعجمة .
وقوله تعالى : { يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر } يحتمل أن يريد ابتداء وصف الله تعالى النبي صلى الله عليه وسلم ويحتمل أن يجعله متعلقاً ب { يجدونه } في موضع الحال على تجوز ، أي يجدونه في التوراة أمراً بشرط وجوده فالمعنى الأول لا يقتضي أنهم علموا من التوراة أنه يأمرهم وينهاهم ويحل ويحرم ، والمعنى الثاني يقتضي ذلك فالمعنى الثاني على هذا ذم لهم ، ونحا إلى هذا أبو إسحاق الزجّاج ، وقال أبو علي الفارسي في الإغفال { يأمرهم } عندي تفسير لما كتب من ذكره كما أن قوله تعالى { خلقه من تراب } تفسير للمثل ، ولا يجوز أن يكون حالاً من الضمير في { يجدونه } لأن الضمير للذكر والاسم ، والذكر والاسم لا يأمران .
قال القاضي أبو محمد : وما قدمته من التجوز وشرط الوجود يقرب ما منع منه أبو علي ، وانظر و { بالمعروف } ما عرف الشرع ، وكل معروف من جهة المروءة فهو معروف بالشرع ، فقد قال صلى الله عليه وسلم «بعثت لأتمم محاسن الأخلاق » و { المنكر } مقابله .
و { الطيبات } قال فيها بعض المفسرين إنها إشارة إلى البحيرة ونحوها ، ومذهب مالك رحمه الله أنها المحللات فكأنه وصفها بالطيب إذ هي لفظة تتضمن مدحاً وتشريفاً ، وبحسب هذا يقول في { الخبائث } إنها المحرمات وكذلك قال ابن عباس «الخبائث » هي لحم الخنزير والربا وغيره ، وعلى هذا حلل مالك المتقذرات كالحيات والخنافس والعقارب ونحوها ، ومذهب الشافعي رحمه الله أن الطيبات هي من جهة الطعم إلا أن اللفظة عنده ليست على عمومها بهذا الوجه من الطعم يقتضي تحليل الخمر والخنزير بل يراها مختصة فيما حلله الشرع ، ويرى «الخبائث » لفظاً عاماً في المحرمات بالشرع وفي المتقذرات فيحرم العقارب والخنافس والوزغ وما جرى هذا المجرى ، والناس على هذين القولين إلا أن في تعيين الخبائث اختلافاً ليس هذا موضع تقصيه .
وقوله تعالى : { ويضع عنهم إصرهم } الآية ، { يضع } كأن قياسه أن يكون «يضِع » بكسر الضاد لكن رده حرف الحلق إلى فتح الضاد ، قال أبو حاتم وأدغم أبو عمرو «ويضع عنهم » العين في العين وأشمها الرفع وأشبعها أبو جعفر وشيبة ونافع ، وطلحة ويذهب عنهم إصرهم ، و «الإصر » الثقل وبه فسر هنا قتادة وابن جبير ومجاهد ، و «الإصر » أيضاً العهد وبه فسر ابن عباس والضحاك والحسن وغيرهم ، وقد جمعت هذه الآية المعنيين فإن بني إسرائيل قد كان أخذ عليهم عهد أن يقوموا بأعمال ثقال فوضع عنهم بمحمد صلى الله عليه وسلم ذلك العهد وثقل تلك الأعمال ، وحكى أبو حاتم عن ابن جبير ، قال : «الإصر » شدة العبادة .
وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم وحمزة والكسائي والناس «إصرهم » وقرأ ابن عامر وحده وأيوب السختياني ويعلى بن حكيم وأبو سراج الهذلي وأبو جعفر «آصارهم » بالجمع لما كانت الأعمال كثيرة كانت أثقالها متغايرة ، ومن وحد الإصر فإنما هو مفرد اسم جنس يراد به الجمع ، قال أبو حاتم : في كتاب بعض العلماء «أصرهم » واحد مفتوح الهمزة عن نافع وعيسى والزيات وذلك غلط ، وذكرها مكي عن أبي بكر عن عاصم وقال : هي لغة .
{ والأغلال التي كانت عليهم } عبارة مستعارة أيضاً لتلك الأثقال كقطع الجلد من أثر البول ، وأن لا دية ولا بد من قتل للقاتل ، وترك الأشغال يوم السبت ، فإنه روي أن موسى عليه السلام رأى يوم السبت رجلاً يحمل قصباً فضرب عنقه ، هذا قول جمهور المفسرين ، وهذا مثل قولك طوق فلان كذا إذا ألزمه ، ومنه قول الشاعر : [ مجزوء الكامل ]
إذهب بها إذهب بها*** طوقتها طوق الحمامه
أي لزمك عارها ومن هذا المعنى قول الهذلي :
فليس كعهد الدار يا أم مالك*** ولكن أحاطت بالرقاب السلاسل
وعاد الفتى كالكهل ليس بقابل*** سوى الحق شيئاً فاستراح العواذل
يريد أوامر الإسلام ولوازم الإيمان الذي قيد الفتك كما قال صلى الله عليه وسلم ، وقال ابن زيد : إنما المراد هنا ب { الأغلال } قول الله عز وجل في اليهود { غلت أيديهم } فمن آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم زالت عنه الدعوة وتغليلها .
ثم أخبر تعالى عن حال المؤمنين فقال : { فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه } وقرأ الجحدري وسليمان التيمي وقتادة وعيسى «عزروه » بالتخفيف ، وجمهور الناس على التشديد في الزاي ، ومعناه في القراءتين وقروه ، والتعزير والنصر مشاهدة خاصة للصحابة ، واتباع النور يشترك فيه معهم المؤمنون إلى يوم القيامة ، و { النور } كناية عن جملة الشرع ، وقوله : { معه } فيه حذف مضاف والتقدير مع بعثه أو نبوته أو نحو هذا ، وشبه الشرع والهدى بالنور إذ القلوب تستضيء به كما يستضيء بالنور ، و { المفلحون } معناه الفائزون ببغيتهم ، وهذا يعم معاني الفلاح فإن من بقي فقد فاز ببغيته .