57- والله - سبحانه وتعالى وحده - هو الذي يطلق الرياح مبشرة برحمته في الأمطار التي تنبت الزرع وتسقى الغرس ، فتحمل هذه الرياح سحاباً{[67]} محملا بالماء ، نسوقه لبلد لا نبات فيه ، فيكون كالميت الذي فقد الحياة ، فينزل الماء ، فينبت الله به أنواعاً من كل الثمرات ، وبمثل ذلك الإحياء للأرض بالإنبات نخرج الموتى فنجعلهم أحياء لعلكم تتذكرون بهذا قدرة الله وتؤمنون بالبعث .
ومرة أخرى يفتح السياق للقلب البشري صفحة من صفحات الكون المعروضة للأنظار ؛ ولكن القلوب تمر بها غافلة بليدة ؛ لا تسمع نطقها ، ولا تستشعر إيقاعها . . إنها صفحة يفتحها على ذكر رحمة الله في الآية السابقة ؛ نموذجاً لرحمة الله في صورة الماء الهاطل ، والزرع النامي ، والحياة النابضة بعد الموت والخمود :
( وهو الذي يرسل الرياح ، بشراً بين يدي رحمته ، حتى إذا أقلت سحاباً ثقالاً سقناه لبلد ميت ، فأنزلنا به الماء ، فأخرجنا به من كل الثمرات . . كذلك نخرج الموتى لعلكم تذكرون ) . .
إنها آثار الربوبية في الكون . آثار الفاعلية والسلطان والتدبير والتقدير . وكلها من صنع الله ؛ الذي لا ينبغي أن يكون للناس رب سواه . وهو الخالق الرازق بهذه الأسباب التي ينشئها برحمته للعباد .
وفي كل لحظة تهب ريح . وفي كل وقت تحمل الريح سحاباً . وفي كل فترة ينزل من السحاب ماء .
ولكن ربط هذا كله بفعل الله - كما هو في الحقيقة - هو الجديد الذي يعرضه القرآن هذا العرض المرتسم في المشاهد المتحركة ، كأن العين تراه .
إنه هو الذي يرسل الرياح مبشرات برحمته . والرياح تهب وفق النواميس الكونية التي أودعها الله هذا الكون - فما كان الكون لينشىء نفسه ، ثم يضع لنفسه هذه النواميس التي تحكمه ! - ولكن التصور الإسلامي يقوم على اعتقاد أن كل حدث يجري في الكون - ولو أنه يجري وفق الناموس الذي قدره الله - إنما يقع ويتحقق - وفق الناموس - بقدر خاص ينشئه ويبرزه في عالم الواقع . وأن الأمر القديم بجريان السنة ، لا يتعارض مع تعلق قدر الله بكل حادث فردي من الأحداث التي تجري وفق هذه السنة . فإرسال الرياح - وفق النواميس الإلهية في الكون - حدث من الأحداث ، يقع بمفرده وفق قدر خاص .
وحمل الرياح للسحاب يجري وفق نواميس الله في الكون أيضاً . ولكنه يقع بقدر خاص . ثم يسوق الله السحاب - بقدر خاص منه - إلى ( بلد ميت ) . . صحراء أو جدباء . . فينزل منه الماء - بقدر كذلك خاص - فيخرج من كل الثمرات - بقدر منه خاص - يجري كل أولئك وفق النواميس التي أودعها طبيعة الكون وطبيعة الحياة .
إن التصور الإسلامي في هذا الجانب ينفي العفوية والمصادفة في كل ما يجري في الكون . ابتداء من نشأته وبروزه ، إلى كل حركة فيه وكل تغيير وكل تعديل . كما ينفي الجبرية الآلية ، التي تتصور الكون كأنه آلة ، فرغ صانعها منها ، وأودعها القوانين التي تتحرك بها ، ثم تركها تتحرك حركة آلية جبرية حتمية وفق هذه القوانين التي تصبح بذلك عمياء !
إنه يثبت الخلق بمشيئة وقدر . ثم يثبت الناموس الثابت والسنة الجارية . ولكنه يجعل معها القدر المصاحب لكل حركة من حركات الناموس ولكل مرة تتحقق فيها السنة . القدر الذي ينشىء الحركة ويحقق السنة ، وفق المشيئة الطليقة من وراء السنن والنواميس الثابتة .
إنه تصور حي . ينفي عن القلب البلادة . بلادة الآلية والجبرية . ويدعها أبداً في يقظة وفي رقابة . . كلما حدث حدثٌ وفق سنة الله . وكلما تمت حركة وفق ناموس الله . انتفض هذا القلب ، يرى قدر الله المنفذ ، ويرى يد الله الفاعلة ، ويسبح لله ويذكره ويراقبه ، ولا يغفل عنه بالآلية الجبرية ولا ينساه !
هذا تصور يستحيي القلوب ، ويستجيش العقول ، ويعلقها جميعاً بفاعلية الخالق المتجددة ؛ وبتسبيح البارىء الحاضر في كل لحظة وفي كل حركة وفي كل حدث آناء الليل وأطراف النهار .
كذلك يربط السياق القرآني بين حقيقة الحياة الناشئة بإرادة الله وقدره في هذه الأرض ، وبين النشأة الآخرة ، التي تتحقق كذلك بمشيئة الله وقدره ؛ على المنهج الذي يراه الأحياء في نشأة هذه الحياة :
( كذلك نخرج الموتى ، لعلكم تذكرون ) . .
إن معجزة الحياة ذات طبيعة واحدة ، من وراء أشكالها وصورها وملابساتها . . هذا ما يوحي به هذا التعقيب . . وكما يخرج الله الحياة من الموات في هذه الأرض ، فكذلك يخرج الحياة من الموتى في نهاية المطاف . . إن المشيئة التي تبث الحياة في صور الحياة وأشكالها في هذه الأرض ، هي المشيئة التي ترد الحياة في الأموات . وإن القدر الذي يجري بإخراج الحياة من الموات في الدنيا ، لهو ذاته القدر الذي يجري بجريان الحياة في الموتى مرة أخرى . .
فالناس ينسون هذه الحقيقة المنظورة ؛ ويغرقون في الضلالات والأوهام !
القول في تأويل قوله تعالى : { وَهُوَ الّذِي يُرْسِلُ الرّيَاحَ بُشْرىً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتّىَ إِذَآ أَقَلّتْ سَحَاباً ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مّيّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَآءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلّ الثّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْموْتَىَ لَعَلّكُمْ تَذَكّرُونَ } .
يقول تعالى ذكره : إن ربكم الذي خلق السموات والأرض والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره «هُوَ الّذِي يُرْسِلُ الرّياحُ نَشْرا بينَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ » . والنشر بفتح النون وسكون الشين في كلام العرب من الرياح الطيبة اللينة الهبوب التي تنشىء السحاب ، وكذلك كلّ ريح طيبة عندهم فهي نشر ومنه قول امرىء القيس :
كأنّ المُدَامَ وَصَوْبَ الغَمامِ ***ورِيحَ الخُزَامَى وَنَشْرَ القُطُرْ
وبهذه القراءة قرأ ذلك عامة قرّاء الكوفيين خلا عاصم بن أبي النجود ، فإنه كان يقرؤه : بُشْرا على اختلاف عنه فيه ، فروى ذلك بعضهم عنه : بُشْرا بالباء وضمها وسكون الشين ، وبعضهم بالباء وضمها وضمّ الشين ، وكان يتأوّل في قراءته ذلك كذلك قوله : وَمِنْ آياتِه أن يُرْسِلَ الرّياحَ مُبَشّراتٍ : تبشر بالمطر ، وأنه جمع بشير بُشُرا ، كما يجمع النذير نُذُرا . وأما قرّاء المدينة وعامة المكيين والبصريين ، فإنهم قرءوا ذلك : «وَهُوَ الّذِي يُرْسِلُ الرّيَاحَ نُشْرا » بضم النون والشين ، بمعنى جمع نشور جمع نشرا ، كما يجمع الصبور صُبُرا ، والشكور شُكُرا . وكان بعض أهل العلم بكلام العرب يقول : معناها إذا قرئت كذلك أنها الريح التي تهبّ من كلّ ناحية وتجيء من كلّ وجه . وكان بعضهم يقول : إذا قرئت بضمّ النون فينبغي أن تسكن شينها ، لأن ذلك لغة بمعنى النشر بالفتح وقال : العرب تضمّ النون من النشر أحيانا ، وتفتح أحيانا بمعنى واحد . قال : فاختلاف القرّاء في ذلك على قدر اختلافها في لغتها فيه . وكان يقول : هو نظير الخَسف والخُسف بفتح الخاء وضمها .
والصواب من القول في ذلك أن يقال : إن قراءة من قرأ ذلك «نَشْرا » وَ «نُشُرا » بفتح النون وسكون الشين وبضمّ النون والشين قراءتان مشهورتان في قرأة الأمصار ، فلا أحبّ القراءة بها ، وإن كان لها معنى صحيح ووجه مفهوم في المعنى والإِعراب لما ذكرنا من العلة .
وأما قوله بين يدي رحمته فإنه يقول قدام رحمته وأمامها والعرب كذلك تقول لكل شيء حدث قدام شيء وأمامه جاء بين يديه لأن ذلك من كلامهم جرى في إخبارهم عن بني آدم وكثر استعمال فيهم حتى قالوا ذلك في غير ابن آدم وما لايدله والرحمة التي ذكرها جلّ ثناؤه في هذا الموضع المطر .
فمعنى الكلام إذن : والله الذي يرسل الرياح لينا هبوبها ، طيبا نسيمها ، أمام غيثه الذي يسوقه بها إلى خلقه ، فينشىء بها سحابا ثقالاً ، حتى إذا أقلّتها ، والإقلال بها : حملها ، كما يقال : استقلّ البعير بحمله وأقلّه : إذا حمله فقام به . ساقه الله لإحياء بلد ميت قد تعفت مزارعه ودرست مشاربه وأجدب أهله ، فأنزل به المطر وأخرج به من كلّ الثمرات .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط عن السديّ : «وَهُوَ الّذِي يُرسِلُ الرّياحَ نُشْرا بينَ يَدَيْ رَحْمَتهِ » . . . إلى قوله : لَعَلّكُمْ تَذَكّرُونَ قال : إن الله يرسل الريح ، فتأتي بالسحاب من بين الخافقين طرف السماء والأرض من حيث يلتقيان ، فيخرجه من ثم ، ثم ينشره فيبسطه في السماء كيف يشاء ، ثم يفتح أبواب السماء ، فيسيل الماء على السحاب ، ثم يمطر السحاب بعد ذلك . وأما رحمته : فهو المطر .
وأما قوله : كذلكَ نُخْرِجُ المَوْتَى لَعَلّكُمْ تَذَكّرُونَ فإنه يقول تعالى ذكره : كما نحيي هذا البلد الميت بما ننزل به من الماء الذي ننزله من السحاب ، فنخرج به من الثمرات بعد موته وجدوبته وقحوط أهله ، كذلك نخرج الموتى من قبورهم أحياء بعد فنائهم ودروس آثارهم . لَعَلّكُمْ تَذَكّرُونَ يقول تعالى ذكره للمشركين به من عبدة الأصنام ، المكذّبين بالبعث بعد الممات ، المنكرين للثواب والعقاب : ضربت لكم أيها القوم هذا المثل الذي ذكرت لكم من إحياء البلد الميت بقطر المطر الذي يأتي به السحاب ، الذي تنشره الرياح التي وصفت صفتها لتعتبروا فتذكروا وتعلموا أن من كان ذلك من قدرته فيسير في إحياء الموتى بعد فنائها وإعادتها خلقا سويّا بعد دروسها .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قوله : كذلكَ نُخْرِجُ المَوْتَى لَعَلّكُمْ تَذَكّرُونَ وكذلك تخرجون ، وكذلك النشور ، كما نخرج الزرع بالماء .
وقال أبو هريرة : «إن الناس إذا ماتوا في النفخة الأولى أمطر عليهم من ماء تحت العرش يُدعى ماء الحيوان أربعين سنة فينبتون كما ينبت الزرع من الماء ، حتى إذا استكملت أجسامهم نفخ فيهم الروح ، ثم يلقي عليهم نومة ، فينامون في قبورهم ، فإذا نُفخ في الصور الثانية ، عاشوا وهم يجدون طعم النوم في رءوسهم وأعينهم ، كما يجد النائم حين يستيقظ من نومه ، فعند ذلك يقولون : يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا فناداهم المنادي هَذَا ما وَعَدَ الرّحْمَنُ وَصَدَقَ المُرْسَلُونَ .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله : كذلكَ نُخْرِجُ المَوْتَى قال : إذا أراد الله أن يخرج الموتى أمطر السماء حتى تتشقق عنهم الأرض ، ثم يرسل الأرواح فتعود كلّ روح إلى جسدها ، فكذلك يحيي الله الموتى بالمطر كإحيائه الأرض .
هذه آية اعتبار واستدلال ، وقرأ نافع وأبو عمرو «الرياح » بالجمع «نُشُراً » بضم النون والشين ، قال أبو حاتم ، وهي قراءة الحسن وأبي عبد الرحمن وأبي رجاء ، واختلف عنهم الأعرج ، وأبي جعفر ونافع وأبي عمرو وعيسى بن عمر وأبي يحيى وأبي نوفل الأعرابيين ، وقرأ ابن كثير «الريح » واحدة «نُشْراً » بضمها أيضاً ، وقرأ ابن عامر «الرياح » جمعاً «نُشْراً » بضم النون وسكون الشين ، قال أبو حاتم : ورويت عن الحسن وأبي عبد الرحمن وأبي رجاء وقتادة وأبي عمرو ، وقرأ حمزة والكسائي ، «الريح » واحدة ، «نَشْراً » بفتح النون وسكون الشين ، قال أبو حاتم وهي قراءة ابن مسعود وابن عباس وزر بن حبيش وابن وثاب وإبراهيم وطلحة والأعمش ومسروق بن الأجدع ، وقرأ ابن جني قراءة مسروق «نَشَرا » بفتح النون والشين ، وقرأ عاصم «الرياح » جماعة «بُشْراً » بالباء المضمومة والشين الساكنة ، وروي عنه «بُشُراً » بضم الباء والشين ، وقرأ بها ابن عباس والسلمي وابن أبي عبلة ، وقرأ محمد بن السميفع وأبو قطيب «بُشرى » على وزن فعل بضم الباء ، ورويت عن أبي يحيى وأبي نوفل ، وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي «بَشْرا » بفتح الياء وسكون الشين ، قال الزهراوي : ورويت هذه عن عاصم .
ومن جمع الريح في هذه الآية فهو أسعد ، وذلك أن الرياح حيث وقعت في القرآن فهي مقترنة بالرحمة كقوله { ومن آياته أن يرسل الرياح مبشرات } وقوله { وأرسلنا الرياح لواقح } وقوله { الله الذي يرسل الرياح فتثير سحاباً } وأكثر ذكر الريح مفردة ، إنما هو بقرينة عذاب ، كقوله { وفي عاد إذا أرسلنا عليهم الريح العقيم } وقوله { وأما عاد فأهلكوا بريح صرصر عاتية } وقوله { بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم تدمر كل شيء بأمر ربها } نحا هذا المنحى يحيى بن يعمر وأبو عمرو بن العلاء وعاصم ، وفي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا هبت الريح يقول «اللهم اجعلها رياحاً ولا تجعلها ريحاً » .
قال القاضي أبو محمد : والمعنى في هذا كله بين ، وذلك أن ريح السقيا والمطر أنها هي منتشرة لينة تجيء من هاهنا وتتفرق فيحسن من حيث هي منفصلة الأجزاء متغايرة المهب يسيراً أن يقال لها رياح ، وتوصف بالكثرة ريح الصر والعذاب فهي عاصفة صرصر جسد واحد ، شديدة الَمِّر ، مهلكة بقوتها وبما تحمله أحياناً من الصر المحرق ، فيحسن من حيث هي شديدة الاتصال أن تسمى ريحاً مفردة ، وكذلك أفردت الريح في قوله تعالى : { وجرين بهم بريح طيبة } من حيث جري السفن إنما جرت بريح متصلة كأنها شيء واحد فأفردت لذلك ووصفت بالطيب إزالة الاشتراك بينها وبين الريح المكروهة ، وكذلك ريح سليمان عليه السلام إنما كانت تجري بأمره أو تعصف في قفوله وهي متصلة ، وبعد فمن قرأ في هذه الآية الريح بالإفراد فإنما يريد به اسم الجنس ، وأيضاً فتقيدها ب «نشر » يزيل الاشتراك .
والإرسال في الريح هو بمعنى والإجراء والإطلاق والإسالة ومنه الحديث فلرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة ، والريح تجمع في القليل أرواح وفي الكثير رياح لأن العين من الريح واو انقلبت في الواحد ياء للكسر الذي قبلها ، وكذلك في الجمع الكثير ، وصحت في القليل لأنه لا شيء فيه يوجب الإعلال ، وأما «نُشُراً » بضم النون والشين فيحتمل أن يكون جمع ناشر على النسب أي ذات نشر من الطي أو نشور من الحياة ، ويحتمل «نَشُراً » أن يكون جمع نشور بفتح النون وضم الشين كرسول ورسل وصبور وصبر وشكور وشكر ، ويحتمل «نشرا » أن يكون كالمفعول بمعنى منشور كركوب بمعنى مركوب ، ويحتمل أن يكون من أبنية اسم الفاعل لأنها تنشر الحساب ، وأما مثلا الأول في قولنا ناشر ونشر فشاهد وشهد ونازل ونزل ، كما قال الشاعر :
. . . . . . . . . . . . . . . *** أو تنزلون فإنّا معشر نزل
وقاتل وقتل ومنه قول الأعشى : [ البسيط ]
. . . . . . . . . . . . *** إنا لمثلكم يا قومنا قتل
وأما من قرأ «نُشْراً » بضم النون وسكون الشين فإنما خفف الشين من قوله { نشراً } وأما من قرأ «نَشْراً » بفتح النون وسكون الشين فهو مصدر في موضع الحال من الريح ، ويحتمل في المعنى أن يراد به من النشر الذي هو خلاف الطيّ كل بقاء الريح دون هبوب طيّ ، ويحتمل أن يكون من أن النشر الذي هو الإحياء كما قال الأعشى : [ السريع ]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** يا عجبا للميّت الناشر
وأما من قرأ «نَشَراً » بفتح النون والشين وهي قراءة شاذة فهو اسم وهو على النسب ، قال أبو الفتح أي ذوات نشر ، والنَّشَر أن تنتشر الغنم بالليل فترعى ، فشبه السحاب ، في انتشاره وعمومه بذلك ، وأما «بُشُراً » بضم الباء والشين فجمع بشير كنذير ونذر ، و «بشْراً » بسكون الشين مخفف منه و «بَشْراً » بفتح الباء وسكون الشين مصدر و «بشرى » مصدر أيضاً في موضع الحال . و «الرحمة » في هذه الآية المطر ، و { بين يدي } أي أمام رحمته وقدامها وهي هنا استعارة وهي حقيقة فيما بين يدي الإنسان من الأجرام .
و { أقلت } معناه : رفعت من الأرض واستقلت بها ، ومنه القلة وكأن المقل يرد ما رفع قليلاً إذا قدر عليه ، و { ثقالاً } معناه من الماء ، والعرب تصف السحاب بالثقل والَّدْلح ، ومنه قول قيس بن الخطيم : [ المتقارب ]
بأحسنَ منها ولا مزنة*** دلوح تكشف أدجانها
والريح تسوق السحاب من وارئها فهو سوق حقيقة ، والضمير في { سقناه } عائد على السحاب ، واستند الفعل إلى ضمير اسم الله تعالى من حيث هو إنعام ، وصفه البلد بالموت ، استعارة بسبب سعته وجدوبته وتصويح نباته ، وقرأ أبو عمرو وعاصم والأعمش : «لبلد ميْت » بسكون الياء وشدها الباقون والضمير في قوله : { فأنزلنا به } يحتمل أن يعود على السحاب أي منه ، ويحتمل أن يعود على البلد ، ويحتمل أن يعود على الماء وهو أظهرها ، وقال السدي في تفسير هذه الآية : إن الله تعالى يرسل الرياح فتأتي بالسحاب من بين الخافقين طرف السماء والأرض حيث يلتقيان فتخرجه من َثَّم ، ثم تنشره فتبسطه في السماء ثم تفتح أبواب السماء فيسيل الماء على السحاب ثم تمطر السحاب بعد ذلك .
قال القاضي أبو محمد : وهذا التفصيل لم ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وقوله تبارك وتعالى { كذلك نخرج الموتى } يحتمل مقصدين أحدهما أن يراد كهذه القدرة العظيمة في إنزال الماء وإخراج الثمرات به من الأرض المحدبة هي القدرة على إحياء الموتى من الأجداث وهذه مثال لها ، ويحتمل أن يراد أن هكذا يصنع بالأموات من نزول المطر عليهم حتى يحيوا به فيكون الكلام خبراً لا مثلاً ، وهذا التأويل إنما يستند إلى الحديث الذي ذكره الطبري عن أبي هريرة أن الناس إذا ماتوا في النفخة الأولى مطر عليهم مطر من ماء تحت العرش يقال له ماء الحيوان أربعين سنة فينبتون كما ينبت الزرع ، فإذا كملت أجسادهم نفخ فيهم الروح ، ثم تلقى عليهم نومة فينامون فإذا نفخ في الصور الثانية قاموا وهم يجدون طعم النوم ، فيقولون يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا ، فيناديهم المنادي هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون .