بدئت هذه السورة بتنزيه من خلق الأشياء فجعلها سواء في الإتقان ، قدر لكل شيء ما يصلحه ، فهداه إليه ، وأنبت المرعى فجعله غثاء أحوى ، ثم أخبرت الآيات أن الله سيقرئ رسوله القرآن ، فيحفظه ولا ينسى منه شيئا إلا ما شاء الله ، ويسره لليسرى ، ثم أمرت الرسول إن يذكر بالقرآن ليذكر من يخشى ، ويتجنب الذكرى الأشقى الذي يصلى النار الكبرى . وأكدت الآيات أن الفلاح لمن تزكى وذكر اسم ربه فصلى . وختمت السورة ببيان أن ما جاء فيها ثابت في الصحف الأولى صحف إبراهيم وموسى .
سورة الأعلى مكية وآياتها تسع عشرة
في رواية للإمام أحمد عن الإمام علي - كرم الله وجهه - أن رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] كان يحب هذه السورة : ( سبح اسم ربك الأعلى ) . . وفي صحيح مسلم أنه كان يقرأ في العيدين ويوم الجمعة بسبح اسم ربك الأعلى ، و( هل أتاك حديث الغاشية ) . وربما اجتمعا في يوم واحد فقرأهما . .
وحق لرسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] أن يحب هذه السورة وهي تحيل له الكون كله معبدا تتجاوب أرجاؤه بتسبيح ربه الأعلى وتمجيده ، ومعرضا يحفل بموحيات التسبيح والتحميد : ( سبح اسم ربك الأعلى . الذي خلق فسوى . والذي قدر فهدى . والذي أخرج المرعى . فجعله غثاء أحوى ) . . وإيقاع السورة الرخي المديد يلقي ظلال التسبيح ذي الصدى البعيد . .
وحق له [ صلى الله عليه وسلم ] أن يحبها ، وهي تحمل له من البشريات أمرا عظيما . وربه يقول له ، وهو يكلفه التبليغ والتذكير : ( سنقرئك فلا تنسى - إلا ما شاء الله إنه يعلم الجهر وما يخفى - ونيسرك لليسرى . فذكر إن نفعت الذكرى ) . . وفيها يتكفل له ربه بحفظ قلبه لهذا القرآن ، ورفع هذه الكلفة عن عاتقه . ويعده أن ييسره لليسرى في كل أموره وأمور هذه الدعوة . وهو أمر عظيم جدا .
وحق له [ صلى الله عليه وسلم ] أن يحبها ، وهي تتضمن الثابت من قواعد التصور الإيماني : من توحيد الرب الخالق وإثبات الوحي الإلهي ، وتقرير الجزاء في الآخرة . وهي مقومات العقيدة الأولى . ثم تصل هذه العقيدة بأصولها البعيدة ، وجذورها الضاربة في شعاب الزمان : ( إن هذا لفي الصحف الأولى . صحف إبراهيم وموسى ) . . فوق ما تصوره من طبيعة هذه العقيدة ، وطبيعة الرسول الذي يبلغها والأمة التي تحملها . . طبيعة اليسر والسماحة . .
وكل واحدة من هذه تحتها موحيات شتى ؛ ووراءها مجالات بعيدة المدى . .
( سبح اسم ربك الأعلى . الذي خلق فسوى . والذي قدر فهدى . والذي أخرج المرعى . فجعله غثاء أحوى ) . .
إن هذا الافتتاح ، بهذا المطلع الرخي المديد ، ليطلق في الجو ابتداء أصداء التسبيح ، إلى جانب معنى التسبيح . وإن هذه الصفات التي تلي الأمر بالتسبيح : ( الأعلى الذي خلق فسوى . والذي قدر فهدى . والذي أخرج المرعى . فجعله غثاء أحوى ) . . لتحيل الوجود كله معبدا يتجاوب جنباته بتلك الأصداء ؛ ومعرضا تتجلى فيه آثار الصانع المبدع : ( الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى ) . .
والتسبيح هو التمجيد والتنزيه واستحضار معاني الصفات الحسنى لله ، والحياة بين إشعاعاتها وفيوضاتها وإشراقاتها ومذاقاتها الوجدانية بالقلب والشعور . وليست هي مجرد ترديد لفظ : سبحان الله ! . . و( سبح اسم ربك الأعلى ) . . تطلق في الوجدان معنى وحالة يصعب تحديدها باللفظ ، ولكنها تتذوق بالوجدان . وتوحي بالحياة مع الإشراقات المنبثقة من استحضار معاني الصفات .
والصفة الأولى القريبة في هذا النص هي صفة الرب . وصفة الأعلى . . والرب : المربي والراعي ، وظلال هذه الصفة الحانية مما يتناسق مع جو السورة وبشرياتها وإيقاعاتها الرخية . . وصفة الأعلى تطلق التطلع إلى الآفاق التي لا تتناهى ؛ وتطلق الروح لتسبح وتسبح إلى غير مدى . . وتتناسق مع التمجيد والتنزيه ، وهو في صميمه الشعور بصفة الأعلى . .
والخطاب هنا لرسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ابتداء . وهذا الأمر صادر إليه من ربه . بهذه الصيغة : ( سبح اسم ربك الأعلى ) . . وفيه من التلطف والإيناس ما يجل عن التعبير . وقد كان رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] يقرأ هذا الأمر ، ثم يعقب عليه بالاستجابة المباشرة ، قبل أن يمضي في آيات السورة ، يقول : " سبحان ربي الأعلى " . . فهو خطاب ورده . وأمر وطاعته . وإيناس ومجاوبته . . إنه في حضرة ربه ، يتلقى مباشرة ويستجيب . في أنس وفي اتصال قريب . . وحينما نزلت هذه الآية قال : " اجعلوها في سجودكم " . وحينما نزلت قبلها : ( فسبح باسم ربك العظيم ) . . قال : " اجعلوها في ركوعكم " . . فهذا التسبيح في الركوع والسجود كلمة حية ألحقت بالصلاة وهي دافئة بالحياة . لتكون استجابة مباشرة لأمر مباشر . أو بتعبير أدق . . لإذن مباشر . . فإذن الله لعباده بأن يحمدوه ويسبحوه إحدى نعمه عليهم وأفضاله . إنه إذن بالاتصال به - سبحانه - في صورة مقربة إلى مدارك البشر المحدودة . صورة تفضل الله عليهم بها ليعرفهم ذاته . في صفاته . في الحدود التي يملكون أن يتطلعوا إليها . وكل إذن للعباد بالاتصال بالله في أية صورة من صور الاتصال ، هو مكرمة له وفضل على العباد .
القول في تأويل قوله تعالى : { سَبّحِ اسْمَ رَبّكَ الأعْلَىَ * الّذِي خَلَقَ فَسَوّىَ * وَالّذِي قَدّرَ فَهَدَىَ * وَالّذِيَ أَخْرَجَ الْمَرْعَىَ * فَجَعَلَهُ غُثَآءً أَحْوَىَ * سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنسَىَ * إِلاّ مَا شَآءَ اللّهُ إِنّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَىَ } .
اختلف أهل التأويل في تأويل قوله : سَبّحِ اسْم رَبّكَ الأعْلىَ فقال بعضهم : معناه : عظّم ربك الأعلى ، لا ربّ أعلى منه وأعظم . وكان بعضهم إذا قرأ ذلك قال : سبحان ربي الأعلى . ذكر من قال ذلك :
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا أبو بشر ، عن سعيد بن جُبير ، عن ابن عمر أنه كان يقرأ : سَبّحِ اسْمَ رَبّكَ الأعْلىَ : سبحان ربي الأعلى الّذِي خَلَقَ فَسَوّى قال : وهي في قراءة أُبيّ بن كعب كذلك .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن السّديّ ، عن عبد خير ، قال : سمعت عليا رضي الله عنه قرأ : سَبّحِ اسْمَ رَبّكَ الأعْلَى فقال : سبحان ربي الأعلى .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، عن عنبسة ، عن أبي إسحاق الهمْداني ، أن ابن عباس كان إذا قرأ : سَبّحِ اسْمَ رَبّكَ الأعْلَى يقول : سبحان ربي الأعلى ، وإذا قرأ : لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ فأتى على آخرها ألَيْسَ ذَلك بِقادِرٍ عَلى أنْ يُحْيِي المَوْتَى ؟ يقول : سبحانك اللهمّ وبَلَى .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة سَبّحِ اسْمَ رَبّكَ الأعْلَى ذُكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قرأها قال : سبحان ربيَ الأعلَى .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران ، عن خارجة ، عن داود ، عن زياد بن عبد الله ، قال : سمعت ابن عباس يقرأ في صلاة المغرب سَبّحِ اسْمَ رَبّكَ الأعْلَى سبحان ربي الأعلَى .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : نزّه يا محمد اسم ربك الأعلى ، أن تسمي به شيئا سواه ، ينهاه بذلك أن يفعل ما فعل من ذلك المشركون ، من تسميتهم آلهتهم بعضَها اللات ، وبعضَها العزّى .
وقال غيرهم : بل معنى ذلك : نزّهِ الله عما يقول فيه المشركون كما قال : وَلاَ تَسُبّوا الّذِينَ يَدْعَونَ مِنْ دُونِ اللّهِ فيَسبّوا اللّهَ عَدْوا بِغَيرِ عِلْمٍ . وقالوا : معنى ذلك : سبح ربك الأعلى قالوا : وليس الاسم معنى .
وقال آخرون : نزّه تسميتك يا محمد ربك الأعلى وذكرك إياه ، أن تذكره إلاّ وأنت له خاشع متذلل قالوا : وإنما عُنِي بالاسم : التسمية ، ولكن وُضع الاسم مكان المصدر .
وقال آخرون : معنى قوله : سَبّحِ اسْمَ رَبّكَ الأعْلَى : صلّ بذكر ربك يا محمد ، يعني بذلك : صلّ وأنت له ذاكر ، ومنه وَجِل خائف .
وأولى الأقوال في ذلك عندنا بالصواب : قول من قال : معناه : نزّه اسم ربك أن تدعو به الاَلهة والأوثان ، لما ذكرت من الأخبار ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعن الصحابة أنهم كانوا إذا قرأوا ذلك قالوا : سبحان ربيَ الأعلى ، فبَيّن بذلك أن معناه كان عندهم معلوما : عظم اسم ربك ، ونزّهه .
بسم الله الرحمن الرحيم سورة الأعلى وهي مكية في قول الجمهور وحكى النقاش عن الضحاك أنها مدنية وذلك ضعيف وإنما دعا إليه قول من قال : إن ذكر صلاة العيد فيها . {[1]}
{ سبح } في هذه الآية ، بمعنى نزه وقدس وقل سبحانه عن النقائص والغير {[11744]}جمعاً وما يقول المشركون ، والاسم الذي هو : ألف ، سين ، ميم ، يأتي في مواضع من الكلام الفصيح يراد به المسمى ، ويأتي في مواضع يراد به التسمية نحو قوله عليه السلام : «إن لله تسعة وتسعين اسماً »{[11745]} وغير ذلك ، ومعنى أريد به المسمى فإنما هو صلة كالزائد كأنه قال في هذه الآية : سبح ربك ، أي نزهه ، وإذا كان الاسم واحداً من الأسماء كزيد وعمرو ، فيجيء في الكلام على ما قلت ، تقول زيد قائد تريد المسمى ، وتقول : زيد ثلاثة أحرف تريد به التسمية ، وهذه الآية تحتمل هذا الوجه الأول ، وتحتمل أن يراد بالاسم التسمية نفسها على معنى نزاه اسم ربك عن أن يسمى به صنم أو وثن ، فيقال له إله ورب ونحو ذلك ، و { الأعلى } يصح أن يكون صفة للاسم ، ويحتمل أن يكون صفة للرب ، وذكر الطبري أن ابن عمر وعلياً قرآ هذه السورة : «سبحان ربي الأعلى » قال وهي في مصحف أبيّ بن كعب كذلك ، وهي قراءة أبي موسى الأشعري وابن الزبير ومالك بن أبي دينار ، وروى ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قرأ هذه الآية قال : «سبحان ربي الأعلى {[11746]} » ، وكان ابن مسعود وابن عامر وابن الزبير يفعلون ذلك ، ولما نزلت هذه الآية قال النبي صلى الله عليه وسلم : «اجعلوها في سجودكم »{[11747]} ، وقال قوم : معنى { سبح اسم ربك } نزه اسم ربك تعالى عن أن تذكره إلا وانت خاشع ، وقال ابن عباس معنى الآية : صلّ باسم ربك الأعلى كما تقول ابدأ باسم الله ، وحذف حرف الجر