اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{سَبِّحِ ٱسۡمَ رَبِّكَ ٱلۡأَعۡلَى} (1)

مقدمة السورة:

مكية في قول الجمهور .

وقال الضحاك : مدنية ، وهي تسع عشرة آية ، واثنتان وسبعون كلمة ومائتان وأربعة وثمانون حرفا .

قوله تعالى : { سَبِّحِ اسم رَبِّكَ الأعلى } . يستحب للقارئ إذا قرأ : { سَبِّحِ اسم رَبِّكَ الأعلى } أن يقول عقيبه : «سبحان ربي الأعلى » كذا جاء في الحديث{[59870]} ، وقال جماعة من الصحابة والتابعين وقال ابنُ عباسٍ والسديُّ : معنى «سبح اسم ربك الأعلى » أي : عظِّم ربك الأعلى ، والاسم صلة ، قصد بها تعظيم المسمى{[59871]} .

كقول لبيد : [ الطويل ]

5175- إلَى الحَوْلِ ثُمَّ اسْمُ السَّلامِ عَليْكُمَا{[59872]}*** . . .

[ وقيل : نزه ربك عن السوء ، وعما يقوله الملحدون ، وذكره الطبري أن المعنى : نزه اسم ربك الأعلى على أن تسمي به أحداً سواه .

وقيل : المعنى : نزه تسمية ربك وذكرك إياه أن تذكره إلا وأنت خاشع معظّم لذكره ، وجعلوا الاسم بمعنى التسمية ]{[59873]} .

قال ابن الخطيب{[59874]} : معنى { سَبِّحِ اسم رَبِّكَ الأعلى } أي : نزهه عن كل ما لا يليق به في ذاته ، وفي صفاته ، وفي أفعاله ، وفي أسمائه ، وفي أحكامه .

أمَّا في ذاته ، فأن تعتقد أنها ليست من الجواهر والأعراض .

وأما في صفاته ، فأن تعتقد أنها ليست محدثة ولا متناهية ولا ناقصة .

وأمَّا في أفعاله ، فأن تعتقد أنه سبحانه مالك مطلق لا اعتراض لأحد عليه في أمر من الأمور .

وقالت المعتزلة : هو أن تعتقد أن كل ما فعله صواب حسن ، وأنه سبحانه لا يفعل القبيح ، ولا يرضى به ، وأما في أسمائه : فأن لا تذكره - سبحانه وتعالى - إلاَّ بالأسماء التي لا توهم نقصاً بوجه من الوجوه ، سواء ورد الإذن فيها أو لم يرد .

وأمَّا في أحكامه : فهو أن تعلم أن ما كلفنا به ليس لنفعٍ يعود إليه ، بل لمحض المالكية على قولنا ، أو لرعاية مصالح العباد على قول المعتزلة .

فصل فيمن استدل بالآية على أن الاسم نفس المسمى

قال ابن الخطيب{[59875]} : تُمسِّك بهذه الآية في أن الاسم نفس المسمى .

وأقول : الخوض في هذه المسألة لا يمكن إلا بعد الكشف عن محل النزاع ، فنقول : إن كان الاسم عبارة عن اللفظ ؛ والمسمى عبارة عن الذات ، فليس الاسم المسمى بالضرورة ، فكيف يمكن الاستدلال على ما علم بالضرورة ؟ نعم هنا نكتة ، وهي أن الاسم هو اللفظ الدَّال على معنى في نفسه من غير زمن ، والاسم كذلك ، فيكون اسماً لنفسه ، فالاسم هنا نفس المسمى ، فعلى هذا يَرِدُ من أطلق ذلك ؛ لأن الحكم بالتعميم خطأ ، والمراد : الذي يدل على أن الاسم نفس المسمى هو أن أحداً لا يقول : سبحان الله وسبحان اسم ربنا ، فمعنى «سبح اسم ربك » سبح ربك ، والربُّ أيضاً اسم ، فلو كان غير المسمى لم يجز أن يقع التسبيح عليه .

وهذا الاستدلال ضعيف ، لما بيَّنا أنه يمكن أن يكون وارداً بتسبيح الاسم ، ويمكن أن يكون المراد : سبح المسمى ، وذكر الاسم صلة فيه ، ويكون المراد : سبح باسم ربك ، كما قال تعالى : { فَسَبِّحْ باسم رَبِّكَ العظيم } [ الواقعة : 74 ] ، ويكون المعنى : سبح بذكر أسمائه .

فصل في تفسير الآية

روى أبو صالحٍ عن ابن عباس - رضي الله عنه - : صلِّ بأمر ربك الأعلى قال : وهو أن يقول : «سُبحانَ ربيّ الأعْلَى »{[59876]} وروي عن عليّ - رضي الله عنه - وابن عباسٍ ، وابن عمر وابن الزبيرِ ، وأبي موسى ، وعبد الله بن مسعود - رضي الله عنهم - كانوا إذا افتتحوا قراءة هذه السورة ، قالوا : «سُبْحَانَ رَبِّيَ الأعْلَى » وامتثالاً لأمره في ابتدائها ، فيختار الاقتداء بهم في قراءتهم ، لا أن سبحان ربيّ الأعلى من القرآن ، كما قاله بعض أهل{[59877]} الزَّيْغ .

وقيل : إنَّها في قراءة أبيّ{[59878]} : «سُبْحَانَ رَبِّيَ الأعْلَى » .

وروى ابن الأنباري بإسناده إلى عيسى بن عمر عن أبيهِ ، قال : قرأ علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - في الصلاة : «سَبِّح اسْمَ رَبِّك الأعْلَى » ، ثم قال : سبحان ربي الأعلى ، فلما انقضت الصلاة ، قيل له : يا أمير المؤمنين ، أتزيد هذا في القرآن ؟ قال : ما هو ؟ قالوا : سبحان ربي الأعلى ، قال : لا ، إنما أمرنا بشيء فقلته{[59879]} .

وعن عقبى بن عامرٍ الجهنيِّ ، قال : «لما نزلت { سَبِّحِ اسم رَبِّكَ الأعلى } قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «اجْعَلُوهَا في سُجودِكُم »ْ{[59880]} .

قال القرطبيُّ{[59881]} : «هذا كله يدل على أن الاسم هو المسمى ؛ لأنهم لم يقولوا : سبحان اسم ربي الأعلى » .

وقيل : معناه : ارفع صوتك بذكر ربك ؛ قال جرير : [ الكامل ]

5276- قَبَحَ الإلهُ وجُوهَ تَغْلبَ كُلَّمَا *** سَبحَ الحَجيجُ وكبَّرُوا تَكْبِيرَا{[59882]}

قوله : » الأعلى « : يجوز جره : «صفة »ل «ربك » ، ونصبه صفة ل «اسم » ، إلا أن هذا يمنع أن يكون «الذي » صفة ل «ربك » ، بل يتعين جعله نعتاً ل «اسم » ، أو مقطوعاً لئلا يلزم الفصل بين الصفة والموصوف بصفة غيره ؛ إذ يصير التركيب ، مثل قولك : جاءني غلامُ هندٍ العاقلُ الحسنة ، فيفصل ب «العاقل » بين «هند » وبين صفتها . وتقدم الكلام في إضافة الاسم إلى المسمى .


[59870]:أخرجه أبو داود (1/296)، كتاب: الصلاة، باب: الدعاء في الصلاة رقم (883)، وأحمد (1/232)، والبيهقي (2310)، وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (6/566)، وزاد نسبته إلى ابن مردويه. وقد ورد موقوفا عن ابن عباس من فعله، أخرجه الطبري في "تفسيره" (12/542)، وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (6/566)، وزاد نسبته إلى عبد الرزاق وابن أبي شيبة وعبد بن حميد.
[59871]:ذكره الماوردي في "تفسيره" (6/251)، والبغوي (4/475)، والقرطبي (20/11).
[59872]:تقدم.
[59873]:سقط من: ب.
[59874]:ينظر الفخر الرازي 31/124.
[59875]:السابق.
[59876]:ينظر المصدر السابق.
[59877]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (12/542)، عن علي وابن عمر وابن عباس. ونيظر المصادر السابقة.
[59878]:ونسبها الزمخشري لعلي، ينظر: الكشاف 4/738، وفي المحرر الوجيز 5/468 نقلا عن الطبري أن ابن عمر وعليا قرءا كذلك، قال ابن عطية: وهي قراءة أبي موسى الأشعري، وابن الزبير، ومالك بن أبي دينار.
[59879]:ذكره القرطبي في "تفسيره" (20/12)، وعزاه إلى ابن الأنباري.
[59880]:تقدم تخريجه في آخر سورة الواقعة.
[59881]:ينظر الجامع لأحكام القرآن 20/12.
[59882]:ينظر شرح ديوان جرير ص 542، والإتقان في علوم القرآن 1/363 والقرطبي 20/12.