فأما مسألة التبني ، ودعوة الأبناء إلى غير آبائهم ، فقد كانت كذلك تنشأ من التخلخلفي بناء الأسرة ، وفي بناء المجتمع كله .
ومع ما هو مشهور من الاعتزاز بالعفة في المجتمع العربي ، والاعتزاز بالنسب ، فإنه كانت توجد إلى جانب هذا الاعتزاز ظواهر أخرى مناقضة في المجتمع ، في غير البيوت المعدودة ذات النسب المشهور .
كان يوجد في المجتمع أبناء لا يعرف لهن آباء ! وكان الرجل يعجبه أحد هؤلاء فيتبناه . يدعوه ابنه ، ويلحقه بنسبه ، فيتوارث وإياه توارث النسب .
وكان هناك أبناء لهم آباء معروفون . ولكن كان الرجل يعجب بأحد هؤلاء فيأخذه لنفسه ، ويتبناه ، ويلحقه بنسبه ، فيعرف بين الناس باسم الرجل الذي تبناه ، ويدخل في أسرته . وكان هذا يقع بخاصة في السبي ، حين يؤخذ الأطفال والفتيان في الحروب والغارات ؛ فمن شاء أن يلحق بنسبه واحدا من هؤلاء دعاه ابنه ، وأطلق عليه اسمه ، وعرف به ، وصارت له حقوق البنوة وواجباتها .
ومن هؤلاء زيد بن حارثة الكلبي . وهو من قبيلة عربية . سبي صغيرا في غارة أيام الجاهلية ؛ فاشتراه حكيم بن حزام لعمته خديجة - رضي الله عنها - فلما تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهبته له . ثم طلبه أبوه وعمه فخيره رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] فاختار رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] فأعتقه ، وتبناه ، وكانوا يقولون عنه : زيد بن محمد . وكان أول من آمن به من الموالي .
فلما شرع الإسلام ينظم علاقات الأسرة على الأساس الطبيعي لها ، ويحكم روابطها ، ويجعلها صريحة لا خلط فيها ولا تشويه . . أبطل عادة التبني هذه ؛ ورد علاقة النسب إلى أسبابها الحقيقية . . علاقات الدم والأبوة والبنوة الواقعية . وقال : ( وما جعل أدعياءكم أبناءكم ) . . ( ذلكم قولكم بأفواهكم ) . . والكلام لا يغير واقعا ، ولا ينشئ علاقة غير علاقة الدم ، وعلاقة الوراثة للخصائص التي تحملها النطفة ، وعلاقة المشاعر الطبيعية الناشئة من كون الولد بضعة حية من جسم والده الحي !
( والله يقول الحق وهو يهدي السبيل ) . .
يقول الحق المطلق الذي لا يلابسه باطل . ومن الحق إقامة العلاقات على تلك الرابطة الحقة المستمدة من اللحم والدم ، لا على كلمة تقال بالفم . ( وهو يهدي السبيل )المستقيم ، المتصل بناموس الفطرة الأصيل ، الذي لا يغني غناءه سبيل آخر من صنع البشر ، يصنعونه بأفواههم . بكلمات لا مدلول لها من الواقع . فتغلبها كلمة الحق والفطرة التي يقولها الله ويهدي بها السبيل .
( ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله ) . .
وإنه لقسط وعدل أن يدعى الولد لأبيه . عدل للوالد الذي نشأ هذا الولد من بضعة منه حية . وعدل للولد الذي يحمل اسم أبيه ، ويرثه ويورثه ، ويتعاون معه ويكون امتدادا له بوراثاته الكامنة ، وتمثيله لخصائصه وخصائص آبائه وأجداده . وعدل للحق في ذاته الذي يضع كل شيء في مكانه ؛ ويقيم كل علاقة على أصلها الفطري ، ولا يضيع مزية على والد ولا ولد ؛ كما أنه لا يحمل غير الوالد الحقيقي تبعة البنوة ، ولا يعطيه مزاياها . ولا يحمل غير الولد الحقيقي تبعة البنوة ولا يحابيه بخيراتها !
وهذا هو النظام الذي يجعل التبعات في الأسرة متوازنة . ويقيم الأسرة على أساس ثابت دقيق مستمد من الواقع . وهو في الوقت ذاته يقيم بناء المجتمع على قاعدة حقيقية قوية بما فيها من الحق ومن مطابقة الواقع الفطري العميق . . وكل نظام يتجاهل حقيقة الأسرة الطبيعية هو نظام فاشل ، ضعيف ، مزور الأسس ، لا يمكن أن يعيش !
ونظرا للفوضى في علاقات الأسرة في الجاهلية والفوضى الجنسية كذلك ، التي تخلف عنها أن تختلط الأنساب ، وأن يجهل الآباء في بعض الأحيان ، فقد يسر الإسلام الأمر - وهو بصدد إعادة تنظيم الأسرة ، وإقامة النظام الاجتماعي على أساسها - فقرر في حالة عدم الاهتداء إلى معرفة الآباء الحقيقيين مكانا للأدعياء في الجماعة الإسلامية ، قائما على الأخوة في الدين والموالاة فيه :
( فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم ) . .
وهي علاقة أدبية شعورية ؛ لا تترتب عليها التزامات محددة ، كالتزام التوارث والتكافل في دفع الديات - وهي التزامات النسب بالدم ، التي كانت تلتزم كذلك بالتبني - وذلك كي لا يترك هؤلاء الأدعياء بغير رابطة في الجماعة بعد إلغاء رابطة التبني .
وهذا النص : ( فإن لم تعلموا آباءهم ) . . يصور لنا حقيقة الخلخلة في المجتمع الجاهلي . وحقيقة الفوضى في العلاقات الجنسية . هذه الفوضى وتلك الخلخلة التي عالجها الإسلام بإقامة نظام الأسرة على أساس الأبوة . وإقامة نظام المجتمع على أساس الأسرة السليمة .
وبعد الاجتهاد في رد الأنساب إلى حقائقها فليس على المؤمنين من مؤاخذة في الحالات التي يعجزون عن الاهتداء فيها إلى النسب الصحيح :
( وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ؛ ولكن ما تعمدت قلوبكم ) . .
وهذه السماحة مردها إلى أن الله سبحانه وتعالى يتصف بالغفران والرحمة ، فلا يعنت الناس بما لا يستطيعون :
ولقد شدد رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] في التثبت والتأكد من النسب لتوكيد جدية التنظيم الجديد الذي يلغي كل أثر للتخلخل الاجتماعي الجاهلي . وتوعد الذين يكتمون الحقيقة في الأنساب بوصمة الكفر . قال ابن جرير : حدثنا يعقوب بن إبراهيم . حدثنا ابن علية . عن عيينة بن عبد الرحمن عن أبيه قال : قال أبو بكر - رضي الله عنه - قال الله عز وجل : ( ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله ، فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم ) . . فأنا ممن لا يعرف أبوه ، فأنا من إخوانكم في الدين . . قال أبي [ من كلام عيينة بن عبد الرحمن ] : والله إني لأظنه لو علم أن أباه كان حمارا لانتمى إليه . وقد جاء في الحديث : " من ادعى إلى غير أبيه - وهو يعلم - إلا كفر " . . وهذا التشديد يتمشى مع عناية الإسلام بصيانة الأسرة وروابطها من كل شبهة ومن كل دخل ؛ وحياطتها بكل أسباب السلامة والاستقامة والقوة والثبوت . ليقيم عليها بناء المجتمع المتماسك السليم النظيف العفيف .
القول في تأويل قوله تعالى : { ادْعُوهُمْ لاَبَآئِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللّهِ فَإِن لّمْ تَعْلَمُوَاْ آبَاءَهُمْ فَإِخوَانُكُمْ فِي الدّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَآ أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلََكِن مّا تَعَمّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللّهُ غَفُوراً رّحِيماً } .
يقول الله تعالى ذكره : انسبوا أدعياءكم الذين ألحقتم أنسابهم بكم لاَبائهم . يقول لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : ألحق نسب زيد بأبيه حارثة ، ولا تدعه زيدا بن محمد . وقوله هُوَ أقْسَطُ عِنْدَ الله يقول : دعاؤكم إياهم لاَبائهم هو أعدل عند الله ، وأصدق وأصوب من دعائكم إياهم لغير آبائهم ونسبتكموهم إلى من تبنّاهم وادّعاهم وليسوا له بنين . كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ادْعُوهُمْ لاَبائهِمْ هُوَ أقْسَطُ عِنْدَ اللّهِ : أي أعدل عند الله ، وقوله : فإنْ لَمْ تَعْلمُوا آباءَهُمْ فَإخْوَانُكُمْ فِي الدّينِ وَمَوَالِيكُمْ يقول تعالى ذكره : فإن أنتم أيها الناس لم تعلموا آباء أدعيائكم من هم فتنسبوهم إليهم ، ولم تعرفوهم ، فتلحقوهم بهم ، فإخوانكم في الدين يقول : فهم إخوانكم في الدين ، إن كانوا من أهل ملّتكم ، ومواليكم إن كانوا محرّريكم وليسوا ببنيكم . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ادْعُوهُمْ لاَبائهمْ هُوَ أقْسَطُ عِنْدَ اللّهِ : أي أعدل عند الله فإنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فإخْوَانَكُمْ فِي الدّينِ وَمَوَالِيكُمْ فإن لم تعلموا من أبوه فإنما هو أخوك ومولاك .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، عن عُيينة بن عبد الرحمن ، عن أبيه ، قال : قال أبو بكرة : قال الله ادْعُوهُمْ لاَبائهِمْ هُوَ أقْسَطُ عِنْدَ اللّهِ ، فإنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فإخْوَانُكُمْ فِي الدّينِ وَمَوَالِيكُمْ فأنا ممن لا يُعرف أبوه ، وأنا من إخوانكم في الدين ، قال : قال أبي : والله إني لأظنه لو علم أن أباه كان حمّارا لانتمى إليه .
وقوله : وَلَيْسَ عَليْكُمْ جُناحٌ فِيما أخْطأْتُمْ بِهِ يقول : ولا حرج عليكم ولا وزر في خطأ يكون منكم في نسبة بعض من تنسبونه إلى أبيه ، وأنتم ترونه ابن من ينسبونه إليه ، وهو ابن لغيره وَلَكِنْ ما تَعَمّدَتْ قُلُوبُكُمْ يقول : ولكن الإثم والحرج عليكم في نسبتكموه إلى غير أبيه ، وأنتم تعلمونه ابن غير من تنسبونه إليه . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أخْطأْتُمْ بِهِ يقول : إذا دعوت الرجل لغير أبيه ، وأنت ترى أنه كذلك وَلَكِنْ ما تَعَمّدَتْ قُلُوبُكُمْ يقول الله : لا تدعه لغير أبيه متعمدا . أما الخطأ فلا يؤاخذكم الله به وَلَكِنْ يُؤَاخِذْكُمْ بِمَا تَعَمّدَتْ قُلُوبُكُمْ .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد تَعَمّدَتْ قُلُوبُكُمْ قال : فالعمد ما أتى بعد البيان والنهي في هذا وغيره .
و «ما » التي في قوله وَلَكِنْ ما تَعَمّدَتْ قُلُوبُكُمْ خفض ردّا على «ما » التي في قوله فِيما أخْطأْتُمْ بِهِ وذلك أن معنى الكلام : ليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ، ولكن فيما تعمدت قلوبكم .
وقوله : وكانَ اللّهُ غَفُورا رَحِيما يقول الله تعالى ذكره : وكان الله ذا ستر على ذنب من ظاهر زوجته فقال الباطل والزور من القول ، وذنب من ادّعى ولد غيره ابنا له ، إذا تابا وراجعا أمر الله ، وانتهيا عن قيل الباطل بعد أن نهاهما ربهما عنه ذا رحمة بهما أن يعاقبهما على ذلك بعد توبتهما من خطيئتهما .
{ ادعوهم لآبائهم } انسبوهم إليهم ، وهو إفراد للمقصود من أقواله الحقه وقوله : { هو أقسط عند الله } تعليل له ، والضمير لمصدر { ادعوهم } و { اقسط } افعل تفضيل قصد به الزيادة مطلقا من القسط بمعنى العدل ومعناه البالغ في الصدق . { فإن لم تعلموا آباءهم } فتنسبوهم إليهم . { فإخوانكم في الدين } أي فهم إخوانكم في الدين . { ومواليكم } وأولياؤكم فيه فقولوا هذا أخي ومولاي بهذا التأويل . { وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به } ولا إثم عليكم فيما فعلتموه من ذلك مخطئين قبل النهي أو بعده على النسيان أو سبق اللسان . { ولكن ما تعمدت قلوبكم } ولكن الجناح فيما تعمدت قلوبكم أو ولكن ما تعمدت قلوبكم فيه الجناح . { وكان الله غفورا رحيما } لعفوه عن المخطئ . واعلم أن التبني لا عبرة به عندنا وعند أبي حنيفة يوجب عتق مملوكه ويثبت النسب لمجهوله الذي يمكن إلحاقه به .
أمر الله تعالى في هذه الآية بدعاء الأدعياء إلى آبائهم للصلب فمن جهل ذلك فيه كان مولى وأخاً في الدين ، فقال الناس زيد بن حارثة وسالم مولى أبي حذيفة إلى غير ذلك .
وذكر الطبري أن أبا بكرة قرأ هذه الآية ثم قال : أنا ممن لا يعرف أبوه فأنا أخوكم في الدين ومولاكم ، قال الراوي : ولو علم والله أن أباه حماراً لا نتمى إليه{[9451]} .
قال الفقيه الإمام القاضي : ورجال الحديث يقولون في أبي بكرة نفيع بن الحارث ، و { أقسط } معناه أعدل ، وقال قتادة : بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من ادعى إلى غير أبيه متعمداً حرم الله عليه الجنة{[9452]} ، وقوله تعالى : { وليس عليكم جناح } الآية رفع للحرج عمن وهم ونسي وأخطأ فجرى على العادة من نسبة زيد إلى محمد وغير ذلك مما يشبهه ، وأبقى الجناح في التعمد مع النهي المنصوص ، وقوله تعالى : { وكان الله غفوراً رحيماً } يريد لما مضى من فعلهم في ذلك ، ثم هي صفتان لله تعالى تطرد في كل شيء ، وقالت فرقة «خطأهم » فيما كان سلف من قولهم ذلك .
قال الفقيه الإمام القاضي : وهذا ضعيف لا يتصف ذلك بخطأ إلا بعد النهي وإنما «الخطأ » هنا بمعنى النسيان وما كان مقابل العمد ، وحكى الطبري عن قتادة أنه قال : «الخطأ » الذي رفع الله تعالى فيه الجناح أن تعتقد في أحد أنه ابن فلان فتنسبه إليه وهو في الحقيقة ليس بابنه ، والعمد هو أن تنسبه إلى فلان وأنت تدري أنه ابن غيره ، والخطأ مرفوع عن هذه الأمة عقابه ، وقد قال صلى الله عليه وسلم : «رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما أكرهوا عليه »{[9453]} وقال صلى الله عليه وسلم : «ما أخشى عليكم النسيان . وإنما أخشى العمد »{[9454]} .
{ ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله فإن لن تعلموا ءاباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم }
استئناف بالشروع في المقصود من التشريع لإبطال التبنّي وتفصيل لما يحق أن يجريه المسلمون في شأنه . وهذا الأمر إيجاب أبطل به ادعاء المتبني متبناه ابناً له . والمراد بالدعاء النسب . والمراد من دعوتهم بآبائهم ترتب آثار ذلك ، وهي أنهم أبناء آبائهم لا أبناء من تبناهم .
واللام في { لآبائهم } لام الانتساب ، وأصلها لام الاستحقاق . يقال : فلان لفلان ، أي : هو ابنه ، أي : ينتسب له ، ومنه قولهم : فلان لِرَشْدَةٍ وفلان لِغَيَّةٍ ، أي : نسبَه لها ، أي : من نكاح أو من زنا ، وقال النابغة :
لئن كان للقبرين قبر بجلق *** وقبر بصيداء الذي عند حارب
أي : من أبناء صاحبي القبرين . وقال علقمة بن عبد يمدح الملك الحارث :
فلست لأنْسِي ولكن لِمَلاك *** تنزل من جو السماء يصوب
وفي حديث أبي قتادة : « صلّى رسول الله صلى الله عليه وسلم حاملاً أمَامة ابنة بنته زينبَ ولأبِي العاص بن ربيعة » فكانت اللامُ مغنية عن أن يقول وابنة أبي العاص .
وضمير { هو أقسط عند الله } عائد إلى المصدر المفهوم من فعل { ادعوهم لآبائهم } أي : الدعاء للآباء . وجملة { هو أقسط } استئناف بياني كأنَّ سائلاً قال : لماذا لا ندعوهم للذين تبنوهم ؟ فأجيب ببيان أن ذلك القسط فاسم التفضيل مسلوب المفاضلة ، أي : هو قسط كامل وغيره جورٌ على الآباء الحق والأدعياء ، لأن فيه إضاعة أنسابهم الحق . والغرض من هذا الاستئناف تقرير ما دل عليه قوله { وما جعل أدعياءكم أبناءكم ذلكم قولكم بأفواهكم والله يقول الحق وهو يهدي السبيل } [ الأحزاب : 4 ] لتُعلم عناية الله تعالى بإبطال أحكام الجاهلية في التبنّي ، ولتطمئن نفوس المسلمين من المتبنين والأدعياء ومن يتعلق بهم بقبول هذا التشريع الذي يشق عليهم إذ ينزع منهم إلفاً ألفوه .
ولهذا المعنى الدقيق فرع عليه قوله : { فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم } ، فجَمَع فيه تأكيداً للتشريع بعدم التساهل في بقاء ما كانوا عليه بعذر أنهم لا يعلمون آباء بعض الأدعياء ، وتأنيساً للناس أن يعتاضوا عن ذلك الانتساب المكذوب اتصالاً حقاً لا يفوت به ما في الانتساب القديم من الصلة ، ويتجافى به عما فيه من المفسدة فصاروا يدعون سالماً متبنى أبي حذيفة : سالماً مولى أبي حذيفة ، وغيرَه ، ولم يشذ عن ذلك إلا قول الناس للمقداد بن عمرو : المقداد بن الأسود ، نسبة للأسود بن عبد يغوث الذي كان قد تبنّاه في الجاهلية كما تقدم .
قال القرطبي : لما نزلت هذه الآية قال المقدادُ : أنا المقداد بن عمرو ، ومع ذلك بقي الإطلاق عليه ولم يسمع فيمن مضى من عصَّى مُطْلِقَ ذلك عليه ولو كان متعمداً اه . وفي قول القرطبي : ولو كان متعمداً ، نظر ، إذ لا تمكن معرفة تعمد من يُطلق ذلك عليه . ولعله جرى على ألسنة الناس المقدادُ بن الأسود فكان داخلاً في قوله تعالى : { وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به } لأن ما جرى على الألسنة مظنة النسيان ، والمؤاخذة بالنسيان مرفوعة .
وارتفاع { إخوانُكم } على الإخبار عن مبتدأ محذوف هو ضمير الأدعياء ، أي : فهم لا يَعْدُون أن يوصفوا بالإخوان في الإسلام إن لم يكونوا مواليَ أو يوصفوا بالموالي إن كانوا مواليَ بالحلف أو بولاية العتاقة وهذا استقراء تام . والإخبار بأنهم إخوان وموال كناية عن الإرشاد إلى دعوتهم بأحد هذين الوجهين .
والواو للتقسيم وهي بمعنى ( أو ) فتصلح لمعنى التخيير ، أي : فإن لم تعلموا آباءهم فادعوهم إن شئتم بإخوان وإن شئتم ادعوهم موالي إن كانوا كذلك . وهذا توسعة على الناس .
و { في } للظرفية المجازية ، أي : إخوانكم أخوة حَاصِلة بسبب الدّين كما يجمع الظرف محتوياته ، أو تجعل { في } للتعليل والتسبب ، أي : إخوانكم بسبب الإسلام مثل قوله تعالى : { فإذا أوذي في الله } [ العنكبوت : 10 ] ، أي : لأجل الله لقوله تعالى : { إنما المؤمنون إخوة } [ الحجرات : 10 ] .
وليس في دعوتهم بوصف الأخوة ريبة أو التباس مثل الدعوة بالبُنوّة لأن الدعوة بالأخوة في أمثالهم ظاهرة لأن لوصف الأخوة فيهم تأويلاً بإرادة الاتصال الديني بخلاف وصف البنوة فإنما هو ولاء وتحَالف فالحقُّ أن يُدْعَوا بذلك الوصف ، وفي ذلك جبر لخواطر الأدعياء من تَبنَّوْهم .
والمراد بالولاء في قوله { ومواليكم } ولاء المحَالفة لا ولاء العتق ، فالمحالفة مثل الأخوة . وهذه الآية ناسخة لما كان جارياً بين المسلمين ومن النبي صلى الله عليه وسلم من دعوة المُتَبَنَّيْن إلى الذين تبنوهم فهو من نسخ السنة الفعلية والتقريرية بالقرآن . وذلك مراد من قال : إن هذه الآية نسخت حكم التبنّي .
قال في « الكشاف » : « وفي فصل هذه الجمل ووصلها من الحسن والفصاحة ما لا يغْبَى عن عالم بطرق النظم » . وبيّنه الطيبي فقال : يعني في إخلاء العاطف وإثباته من الجمل من مفتتح السورة إلى هنا . وبيانُه : أن الأوامر والنهي في { اتق } [ الأحزاب : 1 ] { ولاَ تطع } [ الأحزاب : 1 ] { واتّبع } [ الأحزاب : 2 ] { وتَوكل } [ الأحزاب : 3 ] ، فإن الاستهلال بقوله : { يا أيها النبي اتق الله } [ الأحزاب : 1 ] دال على أن الخطاب مشتمل على أمر معْنِيَ شأنه لائح منه الإلهاب ، ومن ثم عَطف عليه { ولا تطع } كما يعطف الخاص على العام ، وأردَف به النهي ، ثم أمَر بالتوكل تشجيعاً على مخالفة أعداء الدين ، ثم عَقَّب كلا من تلك الأوامر بما يطابقه على سبيل التتميم ، وعلل { ولا تطع الكافرين } بقوله { إن الله كان عليماً حكيماً } [ الأحزاب : 1 ] تتميماً للارتداع ، وعلل قوله { واتبع ما يوحى إليك } بقوله { إن الله كان بما تعملون خبيراً } [ الأحزاب : 2 ] تتميماً ، وذَيل قوله { وتوكل على الله } بقوله { وكفى بالله وكيلاً } [ الأحزاب : 3 ] تقريراً وتوكيداً على منوال : فلان ينطق بالحَق والحقُ أبلج ، وفصل قوله { ما جعَل الله لرجل من قلبين في جوفه } [ الأحزاب : 4 ] على سبيل الاستئناف تنبيهاً على بعض من أباطيلهم . وقوله : { ذلكم قولكم بأفواهكم } [ الأحزاب : 4 ] فذلكة لتلك الأحوال آذنت بأنها من البطلان وحقيق بأن يذم قائله . ووَصل قوله { والله يقول الحقّ وهو يهدي السبيل } [ الأحزاب : 4 ] على هذه الفذلكة بجامع التضاد على منوال ما سبق في المجمل في { ولا تطع } و { اتبع ، } وفَصل قوله { ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله } وقوله { النبي أولى بالمؤمنين } [ الأحزاب : 6 ] ، وهلم جرّاً إلى آخر السورة تفصيلاً لقول الحق والاهتداء إلى السبيل القويم اهـ .
{ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَآ أَخْطَأْتُمْ بِهِ ولكن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ الله غَفُوراً رَحِيماً }
عطف على جملة { ادعوهم لآبائهم } لأن الأمر فيها للوجوب فهو نهي عن ضده لتحريمه كأنه قيل : ولا تدعوهم للذين تبنوهم إلا خطأ .
والجناح : الإثم ، وهو صريح في أن الأمر في قوله { ادعوهم لآبائهم } أمر وجوب .
ومعنى { فيما أخطأتم به } ما يجري على الألسنة خارجاً مخرج الغالب فيما اعتادوه أن يقولوا : فلان ابن فلان للدّعي ومتبنيه ، ولذلك قابله بقوله { ولكن ما تعمّدت قلوبكم } أي : ما تعمدته عقائدكم بالقصد والإرادة إليه . وبهذا تقرر إبطال حكم التبني وأن لا يقول أحد لِدَعِيِّه : هو ابني ، ولا يقول : تبنيت فلاناً ، ولو قاله أحد لم يكن لقوله أثر ولا يعتبر وصية وإنما يعتبر قولُ الرجل : أنزلت فلاناً منزلة ابن لي يرث ما يرثه ابني . وهذا هو المسمى بالتنزيل وهو خارج مخرج الوصية بمناب وارث إذا حمله ثلث الميت . وأما إذا قال لمن ليس بابنه : هو ابني ، على معنى الاستلحاق فيجري على حكمه إن كان المنسوبُ مجهول النسب ولم يكن الناسب مريداً التلطف والتقريب . وعند أبي حنيفة وأصحابه من قال : هو ابني ، وكان أصغر من القائل وكان مجهول النسب سناً ثبت نسبه منه ، وإن كان عبده عَتق أيضاً ، وإن كان لا يولد مثله لمثله لم يثبت النسب ولكنه يعتق عليه عند أبي حنيفة خلافاً لصاحبيه فقالا : لا يعتق عليه . وأما معروف النسب فلا يثبت نسبه بالقائل فإن كان عبداً يعتق عليه لأن إطلاقه ممنوع إلا من جهة النسب فلو قال لعبده : هو أخي ، لم يعتق عليه إذا قال : لم أرِدْ به أخوة النسب لأن ذلك يطلق في أخوة الإسلام بنص الآية ، وإذا قال أحد لدعيّه : يا بني ، على وجه التلطف فهو ملحق بالخطأ ولا ينبغي التساهل فيه إذا كانت فيه ريبة .
وقوله { ادعوهم لآبائهم } يعود ضمير أمره إلى الأدعياء فلا يشمل الأمرُ دعاء الحفدة أبناء لأنهم أبناء . وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحَسن رضي الله عنه : « إنّ ابني هذا سيّد » وقال : « لا تُزْرِموا ابني » أي : لا تقطعوا عليه بوله . وكذلك لا يشمل ما يقوله أحد لآخر غير دعيٍ له : يا ابني ، تلطّفاً وتقرباً ، فليس به بأس لأن المدعو بذلك لم يكن دعياً للقائل ولم يزل الناس يدعون لداتهم بالأخ أو الأخت ، قال الشاعر :
أنتِ أختي وأنت حرمة جاري *** وحرام عليّ خون الجوار
ويَدعون من هو أكبر باسم العم كثيراً ، قال النمر بن تولب :
دعاني الغواني عَمَّهن وخلتُني *** لي اسم فلا أدعى به وهو أول
يريد : أنهن كنّ يدعونه : يا أخي .
ووقوع { جناح } في سياق النفي ب { ليس } يقتضي العموم فيفيد تعميم انتفاء الإثم عن العمل الخطأ بناء على قاعدة عدم تخصيص العام بخصوص سببه الذي ورد لأجله وهو أيضاً معْضود بتصرفات كثيرة في الشريعة ، منها قوله تعالى : { ربنا لا تؤاخذنا إن نسِينا أو أخطأنا } [ البقرة : 286 ] ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم « رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما أُكرِهُوا عليه » . ويفهم من قوله { ادعوهم لآبائهم } النهيُ عن أن ينسب أحد إلى غير أبيه بطريق لحن الخطاب . وفي الحديث : « من انتسب إلى غير أبيه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يَقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً » . ويخرج من النهي قول الرجل لآخر : أنت أبي وأنا ابنك على قصد التعظيم والتقريب وذلك عند انتفاء اللبس ، كقول أبي الطيب يُرقق سيف الدولة :
إنما أنتَ والد والأبُ القا *** طع أحنَى من واصل الأولاد
وجملة { كان اللَّه غفوراً رحيماً } [ الأحزاب : 24 ] تعليل نفي الجناح عن الخطأ بأن نفي الجناح من آثار اتصاف الله تعالى بالمغفرة والرحمة بخلقه .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول الله تعالى ذكره: انسبوا أدعياءكم الذين ألحقتم أنسابهم بكم لآبائهم. يقول لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ألحق نسب زيد بأبيه حارثة، ولا تدعه زيدا بن محمد.
وقوله:"هُوَ أقْسَطُ عِنْدَ الله" يقول: دعاؤكم إياهم لآبائهم هو أعدل عند الله، وأصدق وأصوب من دعائكم إياهم لغير آبائهم ونسبتكموهم إلى من تبنّاهم وادّعاهم وليسوا له بنين...
وقوله: "فإنْ لَمْ تَعْلمُوا آباءَهُمْ فَإخْوَانُكُمْ فِي الدّينِ وَمَوَالِيكُمْ "يقول تعالى ذكره: فإن أنتم أيها الناس لم تعلموا آباء أدعيائكم من هم فتنسبوهم إليهم، ولم تعرفوهم، فتلحقوهم بهم، "فإخوانكم في الدين" يقول: فهم إخوانكم في الدين، إن كانوا من أهل ملّتكم، ومواليكم إن كانوا محرّريكم وليسوا ببنيكم... وقوله: "وَلَيْسَ عَليْكُمْ جُناحٌ فِيما أخْطأْتُمْ بِهِ" يقول: ولا حرج عليكم ولا وزر في خطأ يكون منكم في نسبة بعض من تنسبونه إلى أبيه، وأنتم ترونه ابن من ينسبونه إليه، وهو ابن لغيره "وَلَكِنْ ما تَعَمّدَتْ قُلُوبُكُمْ" يقول: ولكن الإثم والحرج عليكم في نسبتكموه إلى غير أبيه، وأنتم تعلمونه ابن غير من تنسبونه إليه...
وقوله: "وكانَ اللّهُ غَفُورا رَحِيما" يقول الله تعالى ذكره: وكان الله ذا ستر على ذنب من ظاهر زوجته فقال الباطل والزور من القول، وذنب من ادّعى ولد غيره ابنا له، إذا تابا وراجعا أمر الله، وانتهيا عن قيل الباطل بعد أن نهاهما ربهما عنه ذا رحمة بهما أن يعاقبهما على ذلك بعد توبتهما من خطيئتهما.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
يحتمل أن يكون قوله: {فإخوانكم في الدين} أي سموهم إخوانا، وذلك أعظم في القلوب وآخذ من التسمية بالآباء والنسبة إليهم؛ وذلك لأن الحاجة إلى معرفة الآباء والنسبة إليهم إنما تكون عند الكتابة والشهادة وعند الغيبة، وأما عند الحضرة فلا.
وجائز أن يكون قوله: {ومواليكم} من الولاية كقوله: {والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض} [التوبة: 71] وقوله: {إنما المؤمنون إخوة} [الحجرات: 10].
جهود ابن عبد البر في التفسير 463 هـ :
قال أبو عمر: قد تجاوز الله لهذه الأمة عن الخطأ والنسيان، قال الله عز وجل: {وليس عليكم جناح فيما أخطأتم}.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
راعُوا أنسابهم، فإن أردتم غير النسبة فالأخوّةُ في الدِّين تجمعكم، وقرابةُ الدِّين والشكلية أولى من قرابة النَّسَبِ.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
ثم قال ما هو الحق وهدى إلى ما هو سبيل الحق، وهو قوله: {ادعوهم لآبَائِهِمْ} وبين أن دعاءهم لآبائهم هو أدخل الأمرين في القسط والعدل، وفي فصل هذه الجمل ووصلها: من الحسن والفصاحة مالا يغني على عالم بطرق النظم.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
فأما مسألة التبني، ودعوة الأبناء إلى غير آبائهم، فقد كانت كذلك تنشأ من التخلخلفي بناء الأسرة، وفي بناء المجتمع كله.
ومع ما هو مشهور من الاعتزاز بالعفة في المجتمع العربي، والاعتزاز بالنسب، فإنه كانت توجد إلى جانب هذا الاعتزاز ظواهر أخرى مناقضة في المجتمع، في غير البيوت المعدودة ذات النسب المشهور.
كان يوجد في المجتمع أبناء لا يعرف لهن آباء! وكان الرجل يعجبه أحد هؤلاء فيتبناه. يدعوه ابنه، ويلحقه بنسبه، فيتوارث وإياه توارث النسب.
وكان هناك أبناء لهم آباء معروفون. ولكن كان الرجل يعجب بأحد هؤلاء فيأخذه لنفسه، ويتبناه، ويلحقه بنسبه، فيعرف بين الناس باسم الرجل الذي تبناه، ويدخل في أسرته. وكان هذا يقع بخاصة في السبي، حين يؤخذ الأطفال والفتيان في الحروب والغارات؛ فمن شاء أن يلحق بنسبه واحدا من هؤلاء دعاه ابنه، وأطلق عليه اسمه، وعرف به، وصارت له حقوق البنوة وواجباتها.
ومن هؤلاء زيد بن حارثة الكلبي. وهو من قبيلة عربية. سبي صغيرا في غارة أيام الجاهلية؛ فاشتراه حكيم بن حزام لعمته خديجة -رضي الله عنها- فلما تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهبته له. ثم طلبه أبوه وعمه فخيره رسول الله [صلى الله عليه وسلم] فاختار رسول الله [صلى الله عليه وسلم] فأعتقه، وتبناه، وكانوا يقولون عنه: زيد بن محمد. وكان أول من آمن به من الموالي.
فلما شرع الإسلام ينظم علاقات الأسرة على الأساس الطبيعي لها، ويحكم روابطها، ويجعلها صريحة لا خلط فيها ولا تشويه.. أبطل عادة التبني هذه؛ ورد علاقة النسب إلى أسبابها الحقيقية.. علاقات الدم والأبوة والبنوة الواقعية. وقال: (وما جعل أدعياءكم أبناءكم).. (ذلكم قولكم بأفواهكم).. والكلام لا يغير واقعا، ولا ينشئ علاقة غير علاقة الدم، وعلاقة الوراثة للخصائص التي تحملها النطفة، وعلاقة المشاعر الطبيعية الناشئة من كون الولد بضعة حية من جسم والده الحي!
(والله يقول الحق وهو يهدي السبيل)..
يقول الحق المطلق الذي لا يلابسه باطل. ومن الحق إقامة العلاقات على تلك الرابطة الحقة المستمدة من اللحم والدم، لا على كلمة تقال بالفم. (وهو يهدي السبيل) المستقيم، المتصل بناموس الفطرة الأصيل، الذي لا يغني غناءه سبيل آخر من صنع البشر، يصنعونه بأفواههم. بكلمات لا مدلول لها من الواقع. فتغلبها كلمة الحق والفطرة التي يقولها الله ويهدي بها السبيل.
(ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله)..
وإنه لقسط وعدل أن يدعى الولد لأبيه. عدل للوالد الذي نشأ هذا الولد من بضعة منه حية. وعدل للولد الذي يحمل اسم أبيه، ويرثه ويورثه، ويتعاون معه ويكون امتدادا له بوراثاته الكامنة، وتمثيله لخصائصه وخصائص آبائه وأجداده. وعدل للحق في ذاته الذي يضع كل شيء في مكانه؛ ويقيم كل علاقة على أصلها الفطري، ولا يضيع مزية على والد ولا ولد؛ كما أنه لا يحمل غير الوالد الحقيقي تبعة البنوة، ولا يعطيه مزاياها. ولا يحمل غير الولد الحقيقي تبعة البنوة ولا يحابيه بخيراتها!
وهذا هو النظام الذي يجعل التبعات في الأسرة متوازنة. ويقيم الأسرة على أساس ثابت دقيق مستمد من الواقع. وهو في الوقت ذاته يقيم بناء المجتمع على قاعدة حقيقية قوية بما فيها من الحق ومن مطابقة الواقع الفطري العميق.. وكل نظام يتجاهل حقيقة الأسرة الطبيعية هو نظام فاشل، ضعيف، مزور الأسس، لا يمكن أن يعيش!
ونظرا للفوضى في علاقات الأسرة في الجاهلية والفوضى الجنسية كذلك، التي تخلف عنها أن تختلط الأنساب، وأن يجهل الآباء في بعض الأحيان، فقد يسر الإسلام الأمر -وهو بصدد إعادة تنظيم الأسرة، وإقامة النظام الاجتماعي على أساسها- فقرر في حالة عدم الاهتداء إلى معرفة الآباء الحقيقيين مكانا للأدعياء في الجماعة الإسلامية، قائما على الأخوة في الدين والموالاة فيه:
(فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم)..
وهي علاقة أدبية شعورية؛ لا تترتب عليها التزامات محددة، كالتزام التوارث والتكافل في دفع الديات -وهي التزامات النسب بالدم، التي كانت تلتزم كذلك بالتبني- وذلك كي لا يترك هؤلاء الأدعياء بغير رابطة في الجماعة بعد إلغاء رابطة التبني.
وهذا النص: (فإن لم تعلموا آباءهم).. يصور لنا حقيقة الخلخلة في المجتمع الجاهلي. وحقيقة الفوضى في العلاقات الجنسية. هذه الفوضى وتلك الخلخلة التي عالجها الإسلام بإقامة نظام الأسرة على أساس الأبوة. وإقامة نظام المجتمع على أساس الأسرة السليمة.
وبعد الاجتهاد في رد الأنساب إلى حقائقها فليس على المؤمنين من مؤاخذة في الحالات التي يعجزون عن الاهتداء فيها إلى النسب الصحيح:
(وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به؛ ولكن ما تعمدت قلوبكم)..
وهذه السماحة مردها إلى أن الله سبحانه وتعالى يتصف بالغفران والرحمة، فلا يعنت الناس بما لا يستطيعون:
ولقد شدد رسول الله [صلى الله عليه وسلم] في التثبت والتأكد من النسب لتوكيد جدية التنظيم الجديد الذي يلغي كل أثر للتخلخل الاجتماعي الجاهلي. وتوعد الذين يكتمون الحقيقة في الأنساب بوصمة الكفر. قال ابن جرير: حدثنا يعقوب بن إبراهيم. حدثنا ابن علية. عن عيينة بن عبد الرحمن عن أبيه قال: قال أبو بكر -رضي الله عنه- قال الله عز وجل: (ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله، فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم).. فأنا ممن لا يعرف أبوه، فأنا من إخوانكم في الدين.. قال أبي [من كلام عيينة بن عبد الرحمن]: والله إني لأظنه لو علم أن أباه كان حمارا لانتمى إليه. وقد جاء في الحديث:"من ادعى إلى غير أبيه -وهو يعلم- إلا كفر".. وهذا التشديد يتمشى مع عناية الإسلام بصيانة الأسرة وروابطها من كل شبهة ومن كل دخل؛ وحياطتها بكل أسباب السلامة والاستقامة والقوة والثبوت. ليقيم عليها بناء المجتمع المتماسك السليم النظيف العفيف.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
فالقضية التي يريد الله أن يثيرها لدى الإنسان كقيمةٍ من القيم الدينية، هي أن لا يعقد قلبه على خطأ في الفكرة أو في المنهج أو في التشريع، لأن الخطأ في الكلمة قد يغتفر إذا صدر عن غير قصد، ولكن الخطأ في الفكرة أو في الخط عن قصدٍ أو تقصيرٍ، قد يخلق أكثر من مشكلةٍ للإنسان وللحياة.