يقسم الله في هذه السورة بثمرتين مباركتين ، ومكانين طيبين على أنه خلق الإنسان في أعدل صورة ، مكملا بالعقل والإرادة إلى غير ذلك من صفات الكمال ، ثم ذكرت الآيات أن الإنسان لم يقم بمقتضى خلقته ، فنزلت درجته إلى أسفل سافلين ، إلا من آمن وعمل الصالحات فقد مد له في العطاء ، ثم اتجهت السورة منكرة على من كذب بالبعث بعد ظهور أدلة قدرته وأنباء حكمته .
الحقيقة الرئيسية التي تعرضها هذه السورة هي حقيقة الفطرة القويمة التي فطر الله الإنسان عليها ، واستقامة طبيعتها مع طبيعة الإيمان ، والوصول بها معه إلى كمالها المقدور لها . وهبوط الإنسان وسفوله حين ينحرف عن سواء الفطرة واستقامة الإيمان .
ويقسم الله - سبحانه - على هذه الحقيقة بالتين والزيتون ، وطور سينين ، وهذا البلد الأمين ، وهذا القسم على ما عهدنا في كثير من سور هذا الجزء - هو الإطار الذي تعرض فيه تلك الحقيقة . وقد رأينا في السور المماثلة أن الإطار يتناسق مع الحقيقة التي تعرض فيه تناسقا دقيقا .
وطور سينين هو الطور الذي نودي موسى - عليه السلام - من جانبه . والبلد الأمين هو مكة بيت الله الحرام . . وعلاقتهما بأمر الدين والإيمان واضحة . . فأما التين والزيتون فلا يتضح فيهما هذا الظل فيما يبدو لنا .
وقد كثرت الأقوال المأثورة في التين والزيتون . . قيل : إن التين إشارة إلى طور تينا بجوار دمشق .
وقيل : هو إشارة إلى شجرة التين التي راح آدم وزوجه يخصفان من ورقها على سوآتهما في الجنة التي كانا فيها قبل هبوطهما إلى هذه الحياة الدنيا . وقيل : هو منبت التين في الجبل الذي استوت عليه سفينة نوح - عليه السلام .
وقيل في الزيتون : إنه إشارة إلى طور زيتا في بيت المقدس . وقيل : هو إشارة إلى بيت المقدس نفسه . وقيل : هو إشارة إلى غصن الزيتون الذي عادت به الحمامة التي أطلقها نوح عليه السلام - من السفينة - لترتاد حالة الطوفان . فلما عادت ومعها هذا الغصن عرف أن الأرض انكشفت وأنبتت !
وقيل : بل التين والزيتون هما هذان الأكلان الذان نعرفهما بحقيقتهما . وليس هناك رمز لشيء وراءهما . .
أو أنهما هما رمز لمنبتهما من الأرض . . .
وشجرة الزيتون إشير إليها في القرآن في موضع آخر بجوار الطور : فقال : ( وشجرة تخرج من طور سيناء تنبت بالدهن وصبغ للآكلين ) . . كما ورد ذكر الزيتون : ( وزيتونا ونخلا ) . . فأما " التين " فذكره يرد في هذا الموضع لأول مرة وللمرة الوحيدة في القرآن كله .
ومن ثم فإننا لا نملك أن نجزم بشيء في هذا الأمر . وكل ما نملك أن نقوله - اعتمادا على نظائر هذا الإطار في السور القرآنية - : إن الأقرب أن يكون ذكر التين والزيتون إشارة إلى أماكن أو ذكريات ذات علاقة بالدين والإيمان . أو ذات علاقة بنشأة الإنسان في أحسن تقويم [ وربما كان ذلك في الجنة التي بدأ فيها حياته ] . . كي تلتئم هذه الإشارة مع الحقيقة الرئيسية البارزة في السورة ؛ ويتناسق الإطار مع الحقيقة الموضوعة في داخله . على طريقة القرآن . . .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَالتّينِ وَالزّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا الْبَلَدِ الأمِينِ * لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِيَ أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ * ثُمّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ * إِلاّ الّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ } .
اختلف أهل التأويل في تأويل قوله : وَالتّينِ وَالزّيْتُونِ فقال بعضهم : عُنِي بالتين : التين الذي يؤكل ، والزيتون : الزيتون الذي يُعْصر . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا روح ، قال : حدثنا عوف ، عن الحسن ، في قول الله : والتّينِ والزّيْتُونِ قال : تينكم هذا الذي يؤكل ، وزيتونكم هذا الذي يُعصر .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا المعتمر بن سليمان ، قال : سمعت الحكم يحدّث ، عن عكرِمة ، قال : التين : هو التين ، والزيتون : الذي تأكلون .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، قال : حدثنا الحسين ، عن يزيد ، عن عكرِمة ( وَالتّينِ والزّيْتُونِ ) قال : تينكم وزيتونكم .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن عُلَية ، عن أبي رجاء ، قال : سُئل عكرِمة عن قوله : ( وَالتّينِ والزّيْتُونِ ) قال : التين تينكم هذا ، والزيتون : زيتونكم هذا .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا مؤمل ، قال : حدثنا سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : ( وَالتّينِ والزّيْتُونِ ) قال : التين الذي يُؤكل ، والزيتون : الذي يعصر .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران وحدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع ، جميعا عن سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحرث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله ( وَالتّينِ وَالزّيْتُونِ ) قال : الفاكهة التي تأكل الناس .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران ، عن سلام بن سليم ، عن خَصِيف ، عن مجاهد ( َالتّينِ وَالزّيْتُونِ ) قال : هو تينكم وزيتونكم .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا مؤمل ، قال : حدثنا سفيان ، عن حماد ، عن إبراهيم ، في قوله : ( وَالتّينِ والزّيْتُونِ ) قال : التين الذي يؤكل ، والزيتون الذي يُعصر .
حدثنا بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن الكلبيّ ( ولتّينِ والزّيْتُونِ ) هو الذي ترون .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قَتادة ، قال : قال الحسن ، في قوله : ( وَالتّينِ والزّيْتُونِ ) : التين تينكم ، والزيتون زيتونكم هذا .
وقال آخرون : التين : مسجد دمشق ، والزيتون : بيت المقدس . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا رَوْح ، قال : حدثنا عوف ، عن يزيد أبي عبد الله ، عن كعب أنه قال في قول الله : ( والتّينِ والزّيْتُونِ )قال : التين : مسجد دمشق ، والزيتون : بيت المقدس .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله : ( والتّينِ ) قال : الجبل الذي عليه دمشق ( والزّيْتُونِ ) : الذي عليه بيت المقدس .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ( والتّينِ والزّيْتُونِ ) ذُكر لنا أن التين الجبل الذي عليه دمشق ، والزيتون : الذي عليه بيت المقدس .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، وسألته عن قول الله : ( والتّينِ والزّيْتُونِ ) قال : التين : مسجد دمشق ، والزيتون ، مسجد إيلياء .
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا وكيع ، عن أبي بكر ، عن عكِرمة ( والتّينِ والزّيْتُونِ ) قال : هم جبلان .
وقال آخرون : التين : مسجد نوح ، والزيتون : مسجد بيت المقدس . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : ( والتّينِ والزّيْتُونِ ) يعني مجسد نوح الذي بني على الجُودِيّ ، والزيتون : بيت المقدس ، قال : ويقال : التين والزيتون وطور سينين : ثلاثة مساجد بالشام .
والصواب من القول في ذلك عندنا : قول من قال : التين : هو التين الذي يُؤكل ، والزيتون : هو الزيتون الذي يُعصر منه الزيت ، لأن ذلك هو المعروف عند العرب ، ولا يُعرف جبل يسمى تينا ، ولا جبل يقال له زيتون ، إلاّ أن يقول قائل : أقسم ربنا جلّ ثناؤه بالتين والزيتون . والمراد من الكلام : القسمَ بمنابت التين ، ومنابت الزيتون ، فيكون ذلك مذهبا ، وإن لم يكن على صحة ذلك أنه كذلك ، دلالة في ظاهر التنزيل ، ولا من قول من لا يجوّز خلافه ، لأن دمشق بها منابت التين ، وبيت المقدس منابت الزيتون .
بسم الله الرحمن الرحيم والتين والزيتون خصهما من الثمار بالقسم لأن التين فاكهة طيبة لا فصل له وغذاء لطيف سريع الهضم ودواء كثير النفع ، فإنه يلين الطبع ، ويحلل البلغم ، ويطهر الكليتين ، ويزيل رمل المثانة ، ويفتح سدد الكبد والطحال ، ويسمن البدن ، وفي الحديث أنه يقطع البواسير وينفع من النقرس ، والزيتون فاكهة وإدام ودواء وله دهن لطيف كثير المنافع مع أنه قد ينبت حيث لا دهنية فيه كالجبال . وقيل : المراد بهما جبلان من الأرض المقدسة أو مسجدا دمشق وبيت المقدس أو البلدان .