فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{وَٱلتِّينِ وَٱلزَّيۡتُونِ} (1)

مقدمة السورة:

95

سورة التين

هي ثمان آيات وهي مكية في قول الجمهور ، وروى القرطبي عن ابن عباس أنها مدنية ، ويخالف هذه الرواية ما أخرجه ابن الضريس والنحاس وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس قال : أنزلت سورة التين بمكة . وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير مثله . وأخرج البخاري ومسلم وأهل السنن وغيرهم عن البراء بن عازب قال : «كان النبي صلى الله عليه وسلم في سفر فصلى العشاء فقرأ في إحدى الركعتين بالتين والزيتون ، فما سمعت أحداً أحسن صوتاً ولا قراءة منه » . وأخرج الخطيب عنه قال : «صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم المغرب ، فقرأ : { والتين والزيتون } » . وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف وعبد بن حميد في مسنده والطبراني عن عبد الله بن يزيد «أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ في المغرب والتين والزيتون » . وأخرج ابن قانع وابن السكن والشيرازي في الألقاب عن زرعة بن خليفة قال : «أتيت النبي صلى الله عليه وسلم من اليمامة ، فعرض علينا الإسلام فأسلمنا ، فلما صلينا الغداة قرأ باتين والزيتون ، و{ إنا أنزلناه في ليلة القدر } » .

قال أكثر المفسرين : هو التين الذي يأكله الناس { والزيتون } الذي يعصرون منه الزيت ، وإنما أقسم بالتين ، لأنه فاكهة مخلصة من شوائب التنغيص ، وفيها أعظم عبرة لدلالتها على من هيأها لذلك ، وجعلها على مقدار اللقمة . قال كثير من أهل الطب : إن التين أنفع الفواكه للبدن ، وأكثرها غذاء ، وذكروا له فوائد كما في كتب المفردات والمركبات ، وأما الزيتون ، فإنه يعصر منه الزيت الذي هو إدام غالب البلدان ودهنهم ، ويدخل في كثير من الأدوية . وقال الضحاك : «التين » المسجد الحرام ، و«الزيتون » المسجد الأقصى . وقال ابن زيد : «التين » مسجد دمشق ، و«الزيتون » مسجد بيت المقدس ، وقال قتادة : التين الجبل الذي عليه دمشق ، والزيتون الجبل الذي عليه بيت المقدس . وقال عكرمة وكعب الأحبار : التين دمشق ، والزيتون بيت المقدس .

وليت شعري ما الحامل لهؤلاء الأئمة على العدول عن المعنى الحقيقي في اللغة العربية ، والعدول إلى هذه التفسيرات البعيدة عن المعنى ، المبنية على خيالات لا ترجع إلى عقل ولا نقل . وأعجب من هذا اختيار ابن جرير للآخر منها مع طول باعه في علم الرواية والدراية . قال الفراء : سمعت رجلاً يقول : التين جبال حلوان إلى همدان ، والزيتون جبال الشام . قلت : هب أنك سمعت هذا الرجل ، فكان ماذا ؟ فليس بمثل هذا تثبت اللغة ، ولا هو نقل عن الشارع . وقال محمد بن كعب : التين مسجد أصحاب الكهف ، والزيتون مسجد إيلياء . وقيل : إنه على حذف مضاف : أي ومنابت التين والزيتون . قال النحاس : لا دليل على هذا من ظاهر التنزيل ، ولا من قول من لا يجوِّز خلافه .

/خ8