المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ إِنَّآ أَحۡلَلۡنَا لَكَ أَزۡوَٰجَكَ ٱلَّـٰتِيٓ ءَاتَيۡتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتۡ يَمِينُكَ مِمَّآ أَفَآءَ ٱللَّهُ عَلَيۡكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّـٰتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَٰلَٰتِكَ ٱلَّـٰتِي هَاجَرۡنَ مَعَكَ وَٱمۡرَأَةٗ مُّؤۡمِنَةً إِن وَهَبَتۡ نَفۡسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنۡ أَرَادَ ٱلنَّبِيُّ أَن يَسۡتَنكِحَهَا خَالِصَةٗ لَّكَ مِن دُونِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَۗ قَدۡ عَلِمۡنَا مَا فَرَضۡنَا عَلَيۡهِمۡ فِيٓ أَزۡوَٰجِهِمۡ وَمَا مَلَكَتۡ أَيۡمَٰنُهُمۡ لِكَيۡلَا يَكُونَ عَلَيۡكَ حَرَجٞۗ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُورٗا رَّحِيمٗا} (50)

50- يا أيها النبي : إنا أبحنا لك أزواجك اللاتي أعطيتهن مهورهن ، وأبحنا لك ما ملكت يمينك من الإماء مما أنعم الله به عليك ، وأحللنا لك التزوج من بنات عمك وبنات عماتك ، وبنات خالك وبنات خالاتك اللاتي هاجرن معك ، وأحللنا لك امرأة مؤمنة إن وهبت نفسها لك بلا مهر ، وأنت تريد نكاحها وترغب فيها . خلصت لك هذه الهبة من دون المؤمنين فلا تحل لهم . قد علمنا ما فرضناه على المؤمنين في أزواجهم وإمائهم من أحكام . وما رخصنا لك فيه دونهم . لئلا يكون عليك ضيق فيما شرعناه لك . وكان الله غفوراً لذنوب عباده رحيماً بالتوسعة عليهم .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ إِنَّآ أَحۡلَلۡنَا لَكَ أَزۡوَٰجَكَ ٱلَّـٰتِيٓ ءَاتَيۡتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتۡ يَمِينُكَ مِمَّآ أَفَآءَ ٱللَّهُ عَلَيۡكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّـٰتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَٰلَٰتِكَ ٱلَّـٰتِي هَاجَرۡنَ مَعَكَ وَٱمۡرَأَةٗ مُّؤۡمِنَةً إِن وَهَبَتۡ نَفۡسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنۡ أَرَادَ ٱلنَّبِيُّ أَن يَسۡتَنكِحَهَا خَالِصَةٗ لَّكَ مِن دُونِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَۗ قَدۡ عَلِمۡنَا مَا فَرَضۡنَا عَلَيۡهِمۡ فِيٓ أَزۡوَٰجِهِمۡ وَمَا مَلَكَتۡ أَيۡمَٰنُهُمۡ لِكَيۡلَا يَكُونَ عَلَيۡكَ حَرَجٞۗ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُورٗا رَّحِيمٗا} (50)

49

بعد ذلك يبين الله لرسوله [ صلى الله عليه وسلم ] ما يحل له من النساء ، وما في ذلك من خصوصية لشخصه ولأهل بيته ، بعدما نزلت آية سورة النساء التي تجعل الحد الأقصى للأزواج أربعا : ( فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع ) . .

وكان في عصمة النبي في هذا الوقت تسع نساء ، تزوج بكل منهن لمعنى خاص . عائشة وحفصة ابنتا صاحبيه أبي بكر وعمر . وأم حبيبة بنت أبي سفيان ، وأم سلمة ، وسودة بنت زمعة ، وزينب بنت خزيمة من المهاجرات اللواتي فقدن أزواجهن وأراد النبي [ صلى الله عليه وسلم ] تكريمهن ، ولم يكن ذوات جمال ولا شباب ، إنما كان معنى التكريم لهن خالصا في هذا الزواج . وزينب بنت جحش وقد علمنا قصة زواجها ، وقد كان هناك تعويض لها كذلك عن طلاقها من زيد الذي زوجها رسول الله منه فلم تفلح الزيجة لأمر قضاه الله تعالى ، وعرفناه في قصتها . ثم جويرية بنت الحارث من بني المصطلق ، وصفية بنت حيي بن أخطب . وكانتا من السبي فأعتقهما رسول الله وتزوج بهما الواحدة تلو الأخرى ، توثيقا لعلاقته بالقبائل ، وتكريما لهما ، وقد أسلمتا بعدما نزل بأهلهما من الشدة .

وكن قد أصبحن ( أمهات المؤمنين )ونلن شرف القرب من رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] واخترن الله ورسوله والدار الآخرة بعد نزول آيتي التخيير . فكان صعبا على نفوسهن أن يفارقهن رسول الله بعد تحديد عدد النساء . وقد نظر الله إليهن ، فاستثنى رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] من ذلك القيد ، وأحل له استبقاء نسائه جميعا في عصمته ، وجعلهن كلهن حلا له ، ثم نزل القرآن بعد ذلك بألا يزيد عليهن أحدا ، ولا يستبدل بواحدة منهن أخرى . فإنما هذه الميزة لهؤلاء اللواتي ارتبطن به وحدهن ، كي لا يحرمن شرف النسبة إليه ، بعدما اخترن الله ورسوله والدار الآخرة . . وحول هذه المبادئ تدور هذه الآيات :

يا أيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك اللاتي آتيت أجورهن ، وما ملكت يمينك مما أفاء الله عليك ، وبنات عمك وبنات عماتك ، وبنات خالك وبنات خالاتك اللاتي هاجرن معك ، وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي إن أراد النبي أن يستنكحها ، خالصة لك من دون المؤمنين ، قد علمنا ما فرضنا عليهم في أزواجهم وما ملكت أيمانهم ، لكي لا يكون عليك حرج ، وكان الله غفورا رحيما . ترجي من تشاء منهن وتؤوي إليك من تشاء ، ومن ابتغيت ممن عزلت فلا جناح عليك . ذلك أدنى أن تقر أعينهن ولا يحزن ويرضين بما آتيتهن كلهن ، والله يعلم ما في قلوبكم وكان الله عليما حليما . لا يحل لك النساء من بعد ، ولا أن تبدل بهن من أزواج ولو أعجبك حسنهن - إلا ما ملكت يمينك - وكان الله على كل شيء رقيبا . .

ففي الآية يحل الله للنبي [ صلى الله عليه وسلم ] أنواع النساء المذكورات فيها - ولو كن فوق الأربع - مما هو محرم على غيره . وهذه الأنواع هي : الأزواج اللواتي أمهرهن . وما ملكت يمينه إطلاقا من الفيء ، وبنات عمه وبنات عماته وبنات خاله وبنات خالاته ممن هاجرن معه دون غيرهن ممن لم يهاجرن - إكراما للمهاجرات - وأيما امرأة وهبت نفسها للنبي بلا مهر ولا ولي . إن أراد النبي نكاحها [ وقد تضاربت الروايات حول ما إذا كان النبي [ صلى الله عليه وسلم ] قد تزوج واحدة من هذا الصنف من النساء أم لم يتزوج ، والأرجح أنه زوج اللواتي عرضن أنفسهن عليه من رجال آخرين ] وقد جعل الله هذه خصوصية للنبي [ صلى الله عليه وسلم ] بما أنه ولي المؤمنين والمؤمنات جميعا . فأما الآخرون فهم خاضعون لما بينه الله وفرضه عليهم في أزواجهم وما ملكت أيمانهم . ذلك كي لا يكون على النبي حرج في استبقاء أزواجه وفي الاستجابة للظروف الخاصة المحيطة بشخصه .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ إِنَّآ أَحۡلَلۡنَا لَكَ أَزۡوَٰجَكَ ٱلَّـٰتِيٓ ءَاتَيۡتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتۡ يَمِينُكَ مِمَّآ أَفَآءَ ٱللَّهُ عَلَيۡكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّـٰتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَٰلَٰتِكَ ٱلَّـٰتِي هَاجَرۡنَ مَعَكَ وَٱمۡرَأَةٗ مُّؤۡمِنَةً إِن وَهَبَتۡ نَفۡسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنۡ أَرَادَ ٱلنَّبِيُّ أَن يَسۡتَنكِحَهَا خَالِصَةٗ لَّكَ مِن دُونِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَۗ قَدۡ عَلِمۡنَا مَا فَرَضۡنَا عَلَيۡهِمۡ فِيٓ أَزۡوَٰجِهِمۡ وَمَا مَلَكَتۡ أَيۡمَٰنُهُمۡ لِكَيۡلَا يَكُونَ عَلَيۡكَ حَرَجٞۗ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُورٗا رَّحِيمٗا} (50)

القول في تأويل قوله تعالى : { يَأَيّهَا النّبِيّ إِنّآ أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللاّتِيَ آتَيْتَ أُجُورَهُنّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمّآ أَفَآءَ اللّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمّكَ وَبَنَاتِ عَمّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاَتِكَ اللاّتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنّبِيّ إِنْ أَرَادَ النّبِيّ أَن يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لّكَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِيَ أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلاَ يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللّهُ غَفُوراً رّحِيماً } .

يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : يا أيّها النّبِيّ إنّا أحْلَلْنا لَكَ أزْوَاجَكَ اللاّتي آتَيْتَ أُجُورَهُنّ يعني : اللاتي تزوّجتهنّ بصداق مسمى ، كما :

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : أزْوَاجَكَ اللاّتي آتَيْتَ أُجُورَهُنّ قال : صدقاتهنّ .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : يا أيّهَا النّبِيّ إنّا أحْلَلْنا لَكَ أزْوَاجَكَ اللاّتي آتَيْتَ أُجُورَهُنّ قال : كان كل امرأة آتاها مهرا ، فقد أحلها الله له .

حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : يا أيّها النّبِيّ إنّا أحْلَلْنا لَكَ أزَوَاجَكَ اللاّتي آتَيْتَ أُجُورَهُنّ . . . إلى قوله : خِالصَةً لَكَ مِنْ دُون المُؤْمِنِينَ فما كان من هذه التسمية ما شاء كثيرا أو قليلاً .

وقوله : وَما مَلَكَتْ يَمِينُكَ ممّا أفاءَ اللّهُ عَلَيْكَ يقول : وأحللنا لك إماءك اللواتي سبيتهنّ ، فملكتهنّ بالسباء ، وصرن لك بفتح الله عليك من الفيء وَبَناتِ عَمّكَ وَبَناتِ عَمّاتِكَ وَبَناتِ خالِكَ وبَناتِ خالاتِكَ اللاّتي هاجَرْنَ مَعَكَ فأحلّ الله له صلى الله عليه وسلم من بنات عمه وعماته وخاله وخالاته ، المهاجرات معه منهنّ دون من لم يهاجر منهنّ معه ، كما :

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا عبد الله بن موسى ، عن إسرائيل ، عن السدي ، عن أبي صالح ، عن أمّ هانىء ، قالت : خطبني النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فاعتذرت له بعذري ، ثم أنزل الله عليه : إنّا أحْلَلْنا لَكَ أزْوَاجَكَ اللاّتي آتَيْتَ أُجُورَهُنّ . . . إلى قوله اللاّتِي هاجَرْنَ مَعَكَ قالت : فلم أحلّ له ، لم أهاجر معه ، كنت من الطلقاء .

وقد ذُكر أن ذلك في قراءة ابن مسعود : «وَبَناتِ خالاتِكَ وَاللاّتِي هاجَرْنَ مَعَكَ » بواو وذلك وإن كان كذلك في قراءته محتمل أن يكون بمعنى قراءتنا بغير الواو ، وذلك أن العرب تدخل الواو في نعت من قد تقدم ذكره أحيانا ، كما قال الشاعر :

فإِنّ رُشيدا وَابنَ مَرْوَانَ لَمْ يَكُنْ *** لِيَفْعَلَ حتى يَصْدُرَ الأَمْرُ مَصْدَرَا

ورشيد هو ابن مروان . وكان الضحاك بن مزاحم يتأوّل قراءة عبد الله هذه أنهنّ نوع غير بنات خالاته ، وأنهنّ كل مهاجرة هاجرت مع النبيّ صلى الله عليه وسلم . ذكر الخبر عنه بذلك :

حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في حرف ابن مسعود : «وَاللاّتِي هاجَرْنَ مَعَكَ » يعني بذلك : كلّ شيء هاجر معه ليس من بنات العمّ والعمة ، ولا من بنات الخال والخالة .

وقوله : وَامْرأَةً مُؤْمِنَةً إنْ وَهَبَتْ نَفْسَها للنّبِيّ يقول : وأحللنا له امرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي بغير صداق ، كما :

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : وَامْرأةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها للنّبِيّ بغير صداق ، فلم يكن يفعل ذلك ، وأحلّ له خاصة من دون المؤمنين .

وذُكر أن ذلك في قراءة عبد الله : «وَامْرأةً مُؤْمِنَةً وَهَبَتْ نَفْسَها للنّبِيّ » بغير إن ، ومعنى ذلك ومعنى قراءتنا وفيها «إن » واحد ، وذلك كقول القائل في الكلام : لا بأس أن يطأ جارية مملوكة إن ملكها ، وجارية مملوكة ملكها .

وقوله إنْ أرَادَ النّبِيّ أنْ يَسْتَنْكِحَها يقول : إن أراد أن ينكحها ، فحلال له أن ينكحها إذا وهبت نفسها له بغير مهر خالِصَةً لَكَ يقول : لا يحلّ لأحد من أمّتك أن يقرب امرأة وهبت نفسها له ، وإنما ذلك لك يا محمد خالصة أخلصت لك من دون سائر أمتك ، كما :

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ المُؤْمِنِينَ يقول : ليس لامرأة أن تهب نفسها لرجل بغير أمر وليّ ولا مهر ، إلا للنبيّ ، كانت له خالصة من دون الناس . ويزعمون أنها نزلت في ميمونة بنت الحارث أنها التي وهبت نفسها للنبيّ .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : يا أيّها النّبِيّ إنّا أحْلَلْنا لَكَ أزْوَاجَكَ . . . إلى قوله خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ المُؤْمِنِينَ قال : كان كل امرأة آتاها مهرا فقد أحلها الله له إلى أن وهب هؤلاء أنفسهنّ له ، فأحللن له دون المؤمنين بغير مهر خالصة لك من دون المؤمنين إلا امرأة لها زوج .

حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، عن صالح بن مسلم ، قال : سألت الشعبي عن امرأة وهبت نفسها لرجل ، قال : لا يكون ، لا تحلّ له ، إنما كانت للنبيّ صلى الله عليه وسلم .

واختلفت القرّاء في قراءة قوله : إنْ وَهَبَتْ نَفْسَها فقرأ ذلك عامة قرّاء الأمصار : إنْ وَهَبَتْ بكسر الألف على وجه الجزاء ، بمعنى : إن تهب . وذُكر عن الحسن البصري أنه قرأ : «أنْ وَهَبَتْ » بفتح الألف ، بمعنى : وأحللنا له امرأة مؤمنة أن ينكحها ، لهبتها له نفسها .

والقراءة التي لا أستجيز خلافها في كسر الألف لإجماع الحجة من القرّاء عليه .

وأما قوله : خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ المُؤْمِنِينَ ليس ذلك للمؤمنين . وذُكر أن لرسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن تنزل عليه هذه الاَية أن يتزوّج أيّ النساء شاء ، فقصره الله على هؤلاء ، فلم يعدُهن ، وقصر سائر أمته على مثنى وثلاث ورُباع . ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا المعتمر بن سليمان ، قال : سمعت داود بن أبي هند ، عن محمد بن أبي موسى ، عن زياد رجل من الأنصار ، عن أبيّ بن كعب ، أن التي أحلّ الله للنبيّ من النساء هؤلاء اللاتي ذكر الله يا أيّها النّبِيّ إنّا أحْلَلْنا لَكَ أزْوَاجَكَ اللاّتي آتَيْتَ أُجُورَهُنّ . . . إلى قوله : فِي أزْوَاجِهِمْ وإنما أحلّ الله للمؤمنين مثنى وثُلاث ورُباع .

وحدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : يا أيّها النّبِيّ إنّا أحْلَلْنا لَكَ أزْوَاجَكَ . . . إلى آخر الاَية ، قال : حرّم الله عليه ما سوى ذلك من النساء وكان قبل ذلك ينكح في أيّ النساء شاء ، لم يحرّم ذلك عليه ، فكان نساؤه يجدن من ذلك وجدا شديدا أن ينكح في أيّ الناس أحبّ فلما أنزل الله : إني قد حرّمت عليك من الناس سوى ما قصصت عليك ، أعجب ذلك نساءه .

واختلف أهل العلم في التي وهبت نفسها لرسول الله صلى الله عليه وسلم من المؤمنات ، وهل كانت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة كذلك ؟ فقال بعضهم : لم يكن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة إلا بعقد نكاح أو ملك يمين ، فأما بالهبة فلم يكن عنده منهنّ أحد . ذكر من قال ذلك :

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا يونس بن بكير ، عن عنبسة بن الأزهر ، عن سماك ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : لم يكن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة وهبت نفسها .

حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن الحكم ، عن مجاهد ، أنه قال في هذه الاَية : وَامْرأةً مُؤْمِنَةً إنْ وَهَبَتْ نَفْسَها للنّبِيّ قال : أن تهب .

وأما الذين قالوا : قد كان عنده منهن ، فإن بعضهم قال : كانت ميمونة بنت الحارث . وقال بعضهم : هي أمّ شريك . وقال بعضهم : زينب بنت خزيمة . ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الأعلى ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن ابن عباس ، قال : وَامْرأةً مُؤْمِنَةً إنْ وَهَبَتْ نَفْسَها للنّبِيّ قال : هي ميمونة بنت الحارث .

وقال بعضهم : زينب بنت خزيمة أمّ المساكين امرأة من الأنصار .

حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، قال : ثني الحكم ، قال : كتب عبد الملك إلى أهل المدينة يسألهم ، قال : فكتب إليه عليّ ، قال شعبة : وهو ظني عليّ بن حسين ، قال : وقد أخبرني به أبان بن تغلب ، عن الحكم ، أنه عليّ بن الحسين ، الذي كتب إليه ، قال : هي امرأة من الأسد يقال لها أمّ شريك ، وهبت نفسها للنبيّ .

قال : ثنا شعبة ، قال : ثني عبد الله بن أبي السفر ، عن الشعبي ، أنها امرأة من الأنصار ، وهبت نفسها للنبيّ ، وهي ممن أرجأ .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : ثني سعيد ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن خولة بنت حكيم بن الأوقص من بني سليم ، كانت من اللاتي وهبن أنفسهنّ لرسول الله صلى الله عليه وسلم .

قال : ثني سعيد بن أبي الزناد ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، قال : كنا نتحدّث أن أمّ شريك كانت وهبت نفسها للنبيّ صلى الله عليه وسلم ، وكانت امرأة صالحة .

وقوله : قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أزْوَاجِهِمْ يقول تعالى ذكره : قد علمنا ما فرضنا على المؤمنين في أزواجهم إذا أرادوا نكاحهنّ مما لم نفرضه عليك ، وما خصصناهم به من الحكم في ذلك دونك ، وهو أنا فرضنا عليهم أنه لا يحلّ لهم عقد نكاح على حرّة مسلمة إلا بوليّ عَصَبة وشهود عدول ، ولا يحلّ لهم منهنّ أكثر من أربع . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثني عبد الله بن أحمد بن شبوّيَه ، قال : حدثنا مطهر ، قال : حدثنا عليّ بن الحسين ، قال : ثني أبي ، عن مطر ، عن قتادة ، في قول الله : قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أزْوَاجِهِمْ قال : إن مما فرض الله عليهم أن لا نكاح إلا بوليّ وشاهدين .

حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا سفيان ، عن ليث ، عن مجاهد قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أزْوَاجِهِمْ قال : في الأربع .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أزْوَاجِهِمْ قال : كان مما فرض الله عليهم أن لا تزوّج امرأة إلا بوليّ وصداق عند شاهدي عدل ، ولا يحلّ لهم من النساء إلا أربع ، وما ملكت أيمانهم .

وقوله : وَما مَلَكَتْ أيمانُهُمْ يقول تعالى ذكره : قد علمنا ما فرضنا على المؤمنين في أزواجهم ، لأنه لا يحلّ لهم منهنّ أكثر من أربع ، وما ملكت أيمانهم ، فإن جميعهن إذا كنّ مؤمنات أو كتابيات ، لهم حلال بالسباء والتسرّي وغير ذلك من أسباب الملك . وقوله : لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وكانَ اللّهُ غَفُورا رَحِيما يقول تعالى ذكره : إنا أحللنا لك يا محمد أزواجك اللواتي ذكرنا في هذه الاَية ، وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبيّ ، إن أراد النبيّ أن يستنكحها ، لكيلا يكون عليك إثم وضيق في نكاح من نكحت من هؤلاء الأصناف التي أبحت لك نكاحهنّ من المسميّات في هذه الاَية ، وكان الله غفورا لك ولأهل الإيمان بك ، رحيما بك وبهم أن يعاقبهم على سالف ذنب منهم سلف بعد توبتهم منه .

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ إِنَّآ أَحۡلَلۡنَا لَكَ أَزۡوَٰجَكَ ٱلَّـٰتِيٓ ءَاتَيۡتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتۡ يَمِينُكَ مِمَّآ أَفَآءَ ٱللَّهُ عَلَيۡكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّـٰتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَٰلَٰتِكَ ٱلَّـٰتِي هَاجَرۡنَ مَعَكَ وَٱمۡرَأَةٗ مُّؤۡمِنَةً إِن وَهَبَتۡ نَفۡسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنۡ أَرَادَ ٱلنَّبِيُّ أَن يَسۡتَنكِحَهَا خَالِصَةٗ لَّكَ مِن دُونِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَۗ قَدۡ عَلِمۡنَا مَا فَرَضۡنَا عَلَيۡهِمۡ فِيٓ أَزۡوَٰجِهِمۡ وَمَا مَلَكَتۡ أَيۡمَٰنُهُمۡ لِكَيۡلَا يَكُونَ عَلَيۡكَ حَرَجٞۗ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُورٗا رَّحِيمٗا} (50)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

{يا أيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك} النساء التسع {التي آتيت أجورهن و} أحللنا لك {وما ملكت يمينك} بالولاية: مارية القبطية أم إبراهيم، وريحانة بنت عمرو اليهودي، وكانت سبيت من اليهود.

{مما أفاء الله عليك و} أحللنا لك {وبنات عمك وبنات عمتك وبنات خالك وبنات خالاتك التي هاجرن معك} إلى المدينة، إضمار فإن كانت لم تهاجر إلى المدينة فلا يحل تزويجها.

{وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي إن أراد النبي أن يستنكحها} أن يتزوجها بغير مهر، وهي أم شريك بنت جابر بن ضباب بن حجر من بني عامر بن لؤي، وكانت تحت أبي الفكر الأزدي، وولدت له غلامين شريكا ومسلما... ثم توفى عنها زوجها أبو الفكر، فوهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم فلم يقبلها، ولو فعله لكان له خاصة دون المؤمنين، فإن وهبت امرأة يهودية أو نصرانية أو أعرابية نفسها فإنه لا يحل للنبي صلى الله عليه وسلم أن يتزوجها.

{خالصة لك} الهبة خاصة لك، يا محمد {من دون المؤمنين} لا تحل هبة المرأة نفسها بغير مهر لغيرك من المؤمنين...

{قد علمنا ما فرضنا عليهم} ما أوجبنا على المؤمنين {في أزواجهم} ألا يتزوجوا إلا أربع نسوة بمهر وبينة.

{و} أحللنا لهم {وما ملكت أيمانهم} جماع الولاية {لكيلا يكون عليك} يا محمد {حرج} في الهبة بغير مهر، فيها تقديم.

{وكان الله غفورا رحيما} غفورا في التزويج بغير مهر للنبي صلى الله عليه وسلم، رحيما في تحليل ذلك له.

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم:"يا أيّها النّبِيّ إنّا أحْلَلْنا لَكَ أزْوَاجَكَ اللاّتي آتَيْتَ أُجُورَهُنّ" يعني: اللاتي تزوّجتهنّ بصداق مسمى... وقوله: "وَما مَلَكَتْ يَمِينُكَ ممّا أفاءَ اللّهُ عَلَيْكَ "يقول: وأحللنا لك إماءك اللواتي سبيتهنّ، فملكتهنّ بالسباء، وصرن لك بفتح الله عليك من الفيء "وَبَناتِ عَمّكَ وَبَناتِ عَمّاتِكَ وَبَناتِ خالِكَ وبَناتِ خالاتِكَ اللاّتي هاجَرْنَ مَعَكَ" فأحلّ الله له صلى الله عليه وسلم من بنات عمه وعماته وخاله وخالاته، المهاجرات معه منهنّ دون من لم يهاجر منهنّ معه... وقوله: "وَامْرأَةً مُؤْمِنَةً إنْ وَهَبَتْ نَفْسَها للنّبِيّ" يقول: وأحللنا له امرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي بغير صداق... عن مجاهد، قوله: "وَامْرأةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها للنّبِيّ" بغير صداق، فلم يكن يفعل ذلك، وأحلّ له خاصة من دون المؤمنين...

وقوله: "إنْ أرَادَ النّبِيّ أنْ يَسْتَنْكِحَها" يقول: إن أراد أن ينكحها، فحلال له أن ينكحها إذا وهبت نفسها له بغير مهر "خالِصَةً لَكَ" يقول: لا يحلّ لأحد من أمّتك أن يقرب امرأة وهبت نفسها له، وإنما ذلك لك يا محمد خالصة أخلصت لك من دون سائر أمتك...

وأما قوله: "خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ المُؤْمِنِينَ" ليس ذلك للمؤمنين. وذُكر أن لرسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن تنزل عليه هذه الآية أن يتزوّج أيّ النساء شاء، فقصره الله على هؤلاء، فلم يعدُهن، وقصر سائر أمته على مثنى وثلاث ورُباع... واختلف أهل العلم في التي وهبت نفسها لرسول الله صلى الله عليه وسلم من المؤمنات، وهل كانت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة كذلك؟ فقال بعضهم: لم يكن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة إلا بعقد نكاح أو ملك يمين، فأما بالهبة فلم يكن عنده منهنّ أحد...

وأما الذين قالوا: قد كان عنده منهن، فإن بعضهم قال: كانت ميمونة بنت الحارث. وقال بعضهم: هي أمّ شريك. وقال بعضهم: زينب بنت خزيمة...

وقوله: "قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أزْوَاجِهِمْ" يقول تعالى ذكره: قد علمنا ما فرضنا على المؤمنين في أزواجهم إذا أرادوا نكاحهنّ مما لم نفرضه عليك، وما خصصناهم به من الحكم في ذلك دونك، وهو أنا فرضنا عليهم أنه لا يحلّ لهم عقد نكاح على حرّة مسلمة إلا بوليّ عَصَبة وشهود عدول، ولا يحلّ لهم منهنّ أكثر من أربع... وقوله: "وَما مَلَكَتْ أيمانُهُمْ" يقول تعالى ذكره: قد علمنا ما فرضنا على المؤمنين في أزواجهم، لأنه لا يحلّ لهم منهنّ أكثر من أربع، وما ملكت أيمانهم، فإن جميعهن إذا كنّ مؤمنات أو كتابيات، لهم حلال بالسباء والتسرّي وغير ذلك من أسباب الملك. وقوله: "لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وكانَ اللّهُ غَفُورا رَحِيما" يقول تعالى ذكره: إنا أحللنا لك يا محمد أزواجك اللواتي ذكرنا في هذه الآية، وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبيّ، إن أراد النبيّ أن يستنكحها، لكيلا يكون عليك إثم وضيق في نكاح من نكحت من هؤلاء الأصناف التي أبحت لك نكاحهنّ من المسميّات في هذه الآية، وكان الله غفورا لك ولأهل الإيمان بك، رحيما بك وبهم أن يعاقبهم على سالف ذنب منهم سلف بعد توبتهم منه.

لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :

وسَّعْنَا الأمرَ عليكَ في باب النكاح بكم شِئْتَ؛ فإنك مأمونٌ من عيب عدم التسوية بينهن وعدم مراعاة حقوقهن، ومن الحَيْفِ عليهن، والتَّوْسعةُ في بابِ النكاحَ تَدُلُّ على الفضيلة كالحُرِّ والعبد.

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

{أُجُورَهُنَّ} مهورهنّ: لأنّ المهر أجر على البضع.

إيتاؤها: إما إعطاؤها عاجلاً. وإما فرضها وتسميتها في العقد. فإن قلت: لم عدل عن الخطاب إلى الغيبة في قوله تعالى: {نَفْسَهَا لِلنَّبِي إِنْ أَرَادَ النبي} ثم رجع إلى الخطاب؟ قلت: للإيذان بأنه مما خصّ به وأوثر، ومجيئه على لفظ النبي، للدلالة على أن الاختصاص تكرمة له لأجل النبوّة، وتكريره تفخيم له وتقرير لاستحقاقه الكرامة لنبوّته.

استنكاحها: طلب نكاحها والرغبة فيه.

أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :

...

...

...

الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: {اللَّاتِي آتَيْت أُجُورَهُنَّ} يَعْنِي اللَّوَاتِي تَزَوَّجْت بِصَدَاقٍ، وَكَانَ أَزْوَاجُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: مِنْهُنَّ مَنْ ذَكَرَ لَهَا صَدَاقًا، وَمِنْهُنَّ مَنْ كَانَ ذَكَرَ لَهَا الصَّدَاقَ بَعْدَ النِّكَاحِ، كَزَيْنَبِ بِنْتِ جَحْشٍ فِي الصَّحِيحِ من الْأَقْوَالِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَنْزَلَ نِكَاحَهَا من السَّمَاءِ، وَكَانَ فَرْضُ الصَّدَاقِ بَعْدَ ذَلِكَ لَهَا، وَمِنْهُنَّ مَنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا وَحَلَّتْ لَهُ؛ وَيَأْتِي بَيَانُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

...

الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: {مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْك} وَالْمُرَادُ بِهِ الْفَيْءُ الْمَأْخُوذُ عَلَى وَجْهِ الْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ الشَّرْعِيَّةِ؛ وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْكُلُ من عَمَلِهِ، وَيَطَأُ من مَلْكِ يَمِينِهِ، بِأَشْرَفِ وُجُوهِ الْكَسْبِ، وَأَعْلَى أَنْوَاعِ الْمِلْكِ، وَهُوَ الْقَهْرُ وَالْغَلَبَةُ، لَا من الصَّفْقِ بِالْأَسْوَاقِ.

...

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: {وَبَنَاتِ عَمِّك} فَذَكَرَهُ مُفْرَدًا، وَقَالَ: {وَبَنَاتِ عَمَّاتِك} فَذَكَرَهُنَّ جَمِيعًا. وَكَذَلِكَ قَالَ: وَبَنَاتِ خَالِك فَرْدًا وَبَنَاتِ خَالَاتِك جَمْعًا. وَالْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْعَمَّ وَالْخَالَ فِي الْإِطْلَاقِ اسْمُ جِنْسٍ كَالشَّاعِرِ وَالرَّاجِزِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ فِي الْعَمَّةِ وَالْخَالَةِ. وَهَذَا عُرْفٌ لُغَوِيٌّ؛ فَجَاءَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ بِغَايَةِ الْبَيَانِ لِرَفْعِ الْإِشْكَالِ؛ وَهَذَا دَقِيقٌ فَتَأَمَّلُوهُ.

...

.

الْمَسْأَلَةُ الْمُوفِيَةُ عِشْرِينَ: {إنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا} مَعْنَاهُ أَنَّهَا إذَا وَهَبَتْ الْمَرْأَةُ نَفْسَهَا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُخَيَّرٌ بَعْدَ ذَلِكَ إنْ شَاءَ نَكَحَهَا وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهَا؛ وَإِنَّمَا بَيَّنَ ذَلِكَ، وَجَعَلَهُ قُرْآنًا يُتْلَى وَاَللَّهُ أَعْلَمُ؛ لِأَنَّ من مَكَارِمِ أَخْلَاقِ نَبِيِّنَا أَنْ يَقْبَلَ من الْوَاهِبِ هِبَتَهُ، وَيَرَى الْأَكَارِمُ أَنَّ رَدَّهَا هُجْنَةٌ فِي الْعَادَةِ، وَوَصْمَةٌ عَلَى الْوَاهِبِ، وَإِذَايَةٌ لِقَلْبِهِ؛ فَبَيَّنَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ ذَلِكَ فِي حَقِّ رَسُولِهِ لِرَفْعِ الْحَرَجِ عَنْهُ، وَلِيُبْطِلَ ظَنَّ النَّاسِ فِي عَادَتِهِمْ وَقَوْلِهِمْ.

...

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ: فِي فَائِدَةِ الْآيَةِ وَلِأَجْلِ مَا سِيقَتْ لَهُ: وَفِي ذَلِكَ أَرْبَعُ رِوَايَاتٍ

...

.

الثَّالِثَةُ: أَنَّهُ إنَّمَا أَبَاحَ لَهُ نِكَاحَ الْمُسْلِمَةِ؛ فَأَمَّا الْكَافِرَةُ فَلَا سَبِيلَ لَهُ إلَيْهَا.

تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :

وقد كان مَهْرُه لنسائه اثنتي عشرة أوقية ونَشّا وهو نصف أوقية، فالجميع خمسمائة درهم، إلا أم حبيبة بنت أبي سفيان فإنه أمهرها عنه النجاشي، رحمه الله، أربعمائة دينار، وإلا صفية بنت حُيَيّ فإنه اصطفاها من سَبْي خيبر، ثم أعتقها وجعل عتقها صداقها. وكذلك جُوَيرية بنت الحارث المصطلقية، أدى عنها كتابتها إلى ثابت بن قيس بن شماس وتزوجها، رضي الله عن جميعهن.

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

ولما كان النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم، وكان المراد الأعظم في هذه الآيات بيان ما شرفه الله به من ذلك، أتبع ما بين أنه لا عدة فيه من نكاح المؤمنين وما حرمه عليهم من التضييق على الزوجات المطلقات بعض ما شرفه الله تعالى به وخصه من أمر التوسعة في النكاح، وختمه بأن أزواجه لا تحل بعده، فهن كمن عدتهن ثابتة لا تنقضي أبداً، أو كمن زوجها غائب عنها وهو حي، لأنه صلى الله عليه وسلم حي في قبره: {يا أيها النبي} ذاكراً سبحانه الوصف الذي هو مبدأ القرب ومقصوده ومنبع الكمال ومداره.

ولما كان الذين في قلوبهم مرض ينكرون خصائص النبي صلى الله عليه وسلم أكد قوله: {إنا أحللنا لك أزواجك} أي نكاحهن...

ولما كان المقصود من هذه السورة بيان مناقبه صلى الله عليه وسلم وما خصه الله به مما قد يطعن فيه المنافقون من كونه أولى من كل أحد بنفسه وماله، بين أنه مع ذلك لا يرضى إلا بالأكمل، فبين أنه كان يعجل المهور، ويوفي الأجور، فقال: {اللاتي آتيت} أي بالإعطاء الذي هو الحقيقة، وهي به صلى الله عليه وسلم أولى أو بالتسمية في العقد قال الكشاف: وكان التعجيل ديدن السلف وسنتهم وما لا يعرف بينهم غيره {أجورهن} أي مهورهن لأنها عوض عن منفعة البضع، وأصل الأجر الجزاء على العمل {وما ملكت يمينك}.

ولما كان حوز الإنسان لما سباه أطيب لنفسه وأعلى لقدره وأحل مما اشتراه قال: {مما أفاء} أي رد {الله} الذي له الأمر كله {عليك} مثل صفية بنت حيي النضرية وريحانة القرظية وجويرية بنت الحارث الخزاعية رضي الله عنهن مما كان في أيدي الكفار، أسنده إليه سبحانه إفهاماً لأنه فيء على وجهه الذي أحله الله لا خيانة فيه، وعبر بالفيء الذي معناه الرجوع إفهاماً لأن ما في يد الكافر ليس له، وإنما هو لمن يستلبه منه من المؤمنين بيد القهر أو لمن يعطيه الكافر منهم عن طيب نفس، ومن هنا كان يعطي النبي صلى الله عليه وسلم ما يطلب منه من بلاد الكفار أو نسائهم، وما أعطى أحداً شيئاً إلا وصل إليه كتميم الداري وشويل رضي الله عنهما، وقيد بذلك تنبيهاً على فضله صلى الله عليه وسلم ووقوعه من كل شيء على أفضله كما تقدمت الإشارة إليه، وإشارة إلى أنه سبق في علم الله أنه لا يصل إليه من ملك اليمين إلا ما كان هذا سبيله، ودخل فيه ما أهدى له من الكفار مثل مارية القبطية أم ولده إبراهيم عليه السلام، وفي ذلك أيضاً إشارة إلى ما خصه به من تحليل ما كان خطره على من كان قبله من الغنائم {وبنات عمك} الشقيق وغيره من باب الأولى، فإن النسب كلما بعد كان أجدر بالحل.

ولما كان قد أفرد العم لأن واحد الذكور يجمع من غيره لشرفه وقوته وكونه الأصل الذي تفرع منه هذا النوع، عرف بجمع الإناث أن المراد به الجنس لئلا يتوهم أن المراد إباحة الأخوات مجتمعات فقال: {وبنات عماتك} من نساء بني عبد المطلب.

ولما بدأ بالعمومة لشرفها، أتبعها قوله: {وبنات خالك} جارياً أيضاً في الإفراد والجمع على ذلك النحو {وبنات خالاتك} أي من نساء بني زهرة ويمكن أن يكون في ذلك احتباك عجيب وهو: بنات عمك وبنات أعمامك، وبنات عماتك وبنات عمتك، وبنات خالك وبنات أخوالك، وبنات خالاتك وبنات خالتك، وسره ما أشير إليه.

ولما بين شرف أزواجه من جهة النسب لما علم واشتهر أن نسبه صلى الله عليه وسلم من جهة الرجال والنساء أشرف الأنساب بحيث لم يختلف في ذلك اثنان من العرب، بين شرفهن من جهة الأعمال فقال: {اللاتي هاجرن} وأشار بقوله: {معك} إلى أن الهجرة قبل الفتح

{أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا} [الحديد: 10] ولم يرد بذلك التقييد بل التنبيه على الشرف، وإشارة إلى أنه سبق في علمه سبحانه أنه لا يقع له أن يتزوج من هي خارجة عن هذه الأوصاف...

ولما بين ما هو الأشرف من النكاح لكونه الأصل، و أتبعه سبحانه ما خص به شرعه صلى الله عليه وسلم من المغنم الذي تولى سبحانه إباحته، أتبعه ما جاءت إباحته من جهة المبيح إعلاماً بأنه ليس من نوع الصدقة التي نزه عنها قدره فقال: {وامرأة} أي وأحللنا لك امرأة {مؤمنة} أي هذا الصنف حرة كانت أو رقيقة {إن وهبت نفسها للنبي}.

ولما ذكر وصف النبوة لأنه مدار الإكرام من الخالق والمحبة من الخلائق تشريفاً له به وتعليقاً للحكم بالوصف، لأنه لو قال "لك "كان ربما وقع في بعض الأوهام -كما قال الزجاج- أنه غير خاص به صلى الله عليه وسلم، كرره بياناً لمزيد شرفه في سياق رافع لما ربما يتوهم من أنه يجب عليه القبول فقال: {إن أراد النبي} أي الذي أعلينا قدره بما اختصصناه به من الإنباء بالأمور العظمية من عالم الغيب والشهادة {أن يستنكحها} أي يوجد نكاحه لها يجعلها من منكوحاته بعقد أو ملك يمين، فتصير له مجرد ذلك بلا مهر ولا ولي ولا شهود.

ولما كان ربما فهم أن غيره يشاركه في هذا المعنى، قال مبيناً لخصوصيته واصفاً لمصدر {أحللنا} مفخماً للأمر بهاء المبالغة ملتفتاً إلى الخطاب لأنه معين للمراد رافع للارتياب: {خالصة لك} وزاد المعنى بياناً بقوله: {من دون المؤمنين} أي من الأنبياء وغيرهم، وأطلق الوصف المفهم للرسوخ فشمل من قيد بالإحسان والإيقان، وغير ذلك من الألوان، دخل من نزل عن رتبتهم من الذين يؤمنون والذين آمنوا وسائر الناس من باب الأولى مفهوم موافقة، وقد كان الواهبات عدة ولم يكن عنده منهن شيء. روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: كنت أغار على اللاتي وهبن أنفسهن لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأقول: أما تستحيي المرأة أن تهب نفسها، فلما نزلت {ترجى من تشاء منهن} قلت: يا رسول الله، ما أرى ربك إلا يسارع في هواك.

ولما كان التخصيص لا يصح ولا يتصور إلا من محيط العلم بأن هذا الأمر ما كان لغير المخصوص تام القدرة، ليمنع غيره من ذلك، علله بقوله: {قد} أي أخبرناك بأن هذا أمر يخصك دونهم لأنا قد {علمنا ما فرضنا} أي قدرنا بعظمتنا.

ولما كان ما قدره للإنسان عطاء ومنعا لا بد له منه، عبر فيه بأداة الاستعلاء فقال: {عليهم} أي المؤمنين {في أزواجهم} أي من أنه لا تحل لهم امرأة بلفظ الهبة منها ولا بدون مهر ولا بدون ولي وشهود، وهذا عام لجميع المؤمنين المتقدمين والمتأخرين. ولما كان هذا عاماً للحرة والرقيقة قال: {وما ملكت أيمانهم} أي من أن أحداً غيرك لا يملك رقيقة بهبتها لنفسها منه، فيكون أحق من سيدها.

ولما فرغ من تعليل الدونية، علل التخصيص لفاً ونشراً مشوشاً بقوله: {لكيلا يكون عليك حرج} أي ضيق في شيء من أمر النساء حيث أحللنا لك أنواع المنكوحات وزدناك الواهبة. ولما ذكر سبحانه ما فرض في الأزواج والإماء الشامل للعدل في عشرتهن، وكان النبي صلى الله عليه وسلم أعلى الناس فهماً وأشدهم لله خشية، وكان يعدل بينهن، ويعتذر مع ذلك من ميل القلب الذي هو خارج عن طوق البشر بقوله "اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما لا أملك" خفف عنه سبحانه بقوله: {وكان الله} أي المتصف بصفات الكمال من الحلم والأناة والقدرة وغيرها أزلاً وأبداً {غفوراً رحيماً} أي بليغ الستر فهو إن شاء يترك المؤاخذة فيما له أن يؤاخذ به، ويجعل مكان المؤاخذة الإكرام العظيم متصفاً بذلك أزلاً وأبداً.

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

ولعل المناسبة لورودها عقب الآيات التي قبلها أنه لما خاض المنافقون في تزوّج النبي صلى الله عليه وسلم زينب بنتِ جحش وقالوا: تزوج من كانت حليلة متبنّاه، أراد الله أن يجمع في هذه الآية مَن يحل للنبيء تزوجهن حتى لا يقع الناس في تردد ولا يفتنهم المرجفون. ولعل ما حدث من استنكار بعض النساء أن تهدي المرأة نفسها لرجل كان من مناسبات اشتمالها على قوله: {وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبيء} الآية ولذلك جمعت الآية تقرير ما هو مشروع وتشريع ما لم يكن مشروعاً لتكون جامعة للأحوال، وذلك أوعب وأقطع للتردد والاحتمال.

معنى {وهبت نفسها للنبيء} أنها ملّكته نفسها تمليكاً شبيهاً بملك اليمين.