231- وإذا طلقتم النساء فشارفن انتهاء عدتهن ، فلكم أن تراجعوهن قاصدين إقامة العدل وحسن الصحبة وعدم المضارة ، ولكم أن تتركوهن لتنقضي عدتهن ملاحظين المعاملة اللائقة عند الفراق من غير جفوة ، ولا يجوز أن يكون القصد من المراجعة مضارة المرأة وتطويل عدتها ، ومن يفعل ذلك فقد حَرَم نفسه سعادة الحياة الزوجية وثقة الناس به واستحق سخط الله عليه ، ولا تتخذوا أحكام الله في الأسرة - التي جاءت بها الآيات وجعلت زمام الأسرة بيد الوكيل - سخرية ولهواً وعبثاً ، تطلِّقون لغير سبب وترجعونها مضارة وإيذاء . واذكروا نعمة الله عليكم بتنظيم الحياة الزوجية تنظيماً عالياً ، وبما أنزل عليكم من كتاب مبين للرسالة المحمدية والعلوم النافعة والأمثال والقصص التي بها تتعظون وتهتدون ، واتخذوا بينكم وبين غضب الله وقاية واعلموا أن الله يعلم سركم وجهركم ونياتكم وأعمالكم وهو مجازيكم بما كنتم تعملون .
بعد ذلك يجيء التوجيه الإلهي للأزواج المطلقين . توجيههم إلى المعروف واليسر والحسنى بعد الطلاق في جميع الأحوال :
( وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف ، ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا ؛ ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه . ولا تتخذوا آيات الله هزوا ؛ واذكروا نعمة الله عليكم ، وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة يعظكم به ؛ واتقوا الله واعلموا أن الله بكل شيء عليم ) .
( وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف ، ذلك يوعظ به من كان منكم يؤمن بالله واليوم الآخر . ذلكم أزكى لكم وأطهر . والله يعلم وأنتم لا تعلمون ) . .
إن المعروف والجميل والحسنى يجب أن تسود جو هذه الحياة . سواء اتصلت حبالها أو انفصمت عراها . ولا يجوز أن تكون نية الإيذاء والإعنات عنصرا من عناصرها . ولا يحقق هذا المستوى الرفيع من السماحة في حالة الانفصال والطلاق التي تتأزم فيها النفوس ، إلا عنصر أعلى من ملابسات الحياة الأرضية . عنصر يرفع النفوس عن الإحن والضغن ، ويوسع من آفاق الحياة ويمدها وراء الحاضر الواقع الصغير . . هو عنصر الإيمان بالله . والإيمان باليوم الآخر . وتذكر نعمة الله في شتى صورها ابتداء من نعمة الإيمان - أرفع النعم - إلى نعمة الصحة والرزق . واستحضار تقوى الله والرجاء في العوض منه عن الزوجية الفاشلة والنفقة الضائعة . . وهذا العنصر الذي تستحضره الآيتان اللتان تتحدثان هنا عن إيثار المعروف والجميل والحسنى ، سواء اتصلت حبال الحياة الزوجية أو انفصمت عراها .
ولقد كانت المرأة في الجاهلية تلاقي من العنت ما يتفق وغلظ الجاهلية وانحرافها . كانت تلقى هذا العنت طفلة توأد في بعض الأحيان ، أو تعيش في هون ومشقة وإذلال ! وكانت تلقاه زوجة هي قطعة من المتاع للرجل ، أغلى منها الناقة والفرس وأعز ! وكانت تلقاه مطلقة . تعضل فتمنع من الزواج حتى يسمح مطلقها ويأذن ! أو يعضلها أهلها دون العودة إلى مطلقها ، إن أرادا أن يتراجعا . . وكانت النظرة إليها بصفة عامة نظرة هابطة زرية ، شأنها في هذا شأن سائر الجاهليات السائدة في الأرض في ذلك الأوان .
ثم جاء الإسلام . . جاء ينسم على حياة المرأة هذه النسمات الرخية التي نرى هنا نماذج منها . وجاء يرفع النظرة إليها فيقرر أنها والرجل نفس واحدة من خلقة بارئها . . وجاء يرتفع بالعلاقات الزوجية إلى مرتبة العبادة عند الإحسان فيها . . هذا ولم تطلب المرأة شيئا من هذا ولا كانت تعرفه . ولم يطلب الرجل شيئا من هذا ولا كان يتصوره . إنما هي الكرامة التي أفاضها الله من رحمته للجنسين جميعا ، على الحياة الإنسانية جميعا . .
( وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف . ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا ) . .
والمقصود ببلوغ الأجل هنا هو قرب انتهاء العدة التي قررها في آية سابقة . فإذا قرب الأجل فإما رجعة على نية الاصلاح - والمعاملة بالمعروف - وهذا هو الإمساك بالمعروف . . وإما ترك الأجل يمضي فتبين الزوجة - وهذا هو التسريح بإحسان ، بدون إيذاء ولا طلب فدية من الزوجة وبدون عضل لها عن الزواج بمن تشاء . .
( ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا ) . .
وذلك كالذي روي عن الأنصاري الذي قال لامرأته : والله لا آويك ولا أفارقك ! فهذا هو الإمساك بغير إحسان . إمساك الضرار الذي لا ترضاه سماحة الإسلام . وهو الإمساك الذي تكرر النهي عنه في هذا السياق ؛ لأنه فيما يبدو كان شائعا في البيئة العربية : ويمكن أن يشيع في أية بيئة لم الإسلام ، ولم يرفعها الإيمان . .
وهنا يستجيش القرآن أنبل المشاعر ؛ كما يستجيش عاطفة الحياء من الله ، وشعور الخوف منه في آن . ويحشد هذه المؤثرات كلها ليخلص النفوس من أوضاع الجاهلية وآثارها ؛ ويرتفع بها إلى المستوى الكريم الذي يأخذ بيدها إليه :
( ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه . ولا تتخذوا آيات الله هزوا . واذكروا نعمة الله عليكم وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة يعظكم به . واتقوا الله واعلموا أن الله بكل شيء عليم ) . .
إن الذي يمسك المطلقة ضرارا واعتداء يظلم نفسه . فهي أخته . من نفسه . فإذا ظلمها فقد ظلم نفسه . وهو يظلم نفسه بإيرادها مورد المعصية ، والجموح بها عن طريق الطاعة . . وهذه هي اللمسة الأولى .
وآيات الله التي بينها في العشرة والطلاق واضحة مستقيمة جادة ، تقصد إلى تنظيم هذه الحياة وإقامتها على الجد والصدق ؛ فإذا هو استغلها في الحاق الإضرار والأذى بالمرأة ، متلاعبا بالرخص التي جعلها الله متنفسا وصمام آمن ، واستخدم حق الرجعة الذي جعله الله فرصة لاستعادة الحياة الزوجية وإصلاحها ، في إمساكالمراة لإيذائها وإشقائها . . إذا فعل شيئا من هذا فقد اتخذ آيات الله هزوا - وذلك كالذي نراه في مجتمعنا الجاهلي الذي يدعى الإسلام في هذه الأيام ، من استخدام الرخص الفقهية وسيلة للتحايل والإيذاء والفساد . ومن استخدام حق الطلاق ذاته أسوأ استخدام - وويل لمن يستهزيء بآيات الله دون حياء من الله .
ويستجيش وجدان الحياء والاعتراف بالنعمة . وهو يذكرهم بنعمة الله عليهم وما أنزل عليهم من الكتاب والحكمة يعظهم به . . وتذكير المسلمين يومذاك بنعمة الله عليهم كان يستجيش معاني ضخمة واقعة في حياتهم ، شاملة لهذه الحياة . .
وأول ما كان يخطر على بالهم من نعمة الله عليهم ، هو وجودهم ذاته كأمة . . فماذا كان أولئك العرب والأعراب قبل أن يأتيهم الإسلام ؟ أنهم لم يكونوا شيئا مذكورا . لم تكن الدنيا تعرفهم ولا تحس بهم . كانوا فرقا ومزقا لا وزن لها ولا قيمة . لم يكن لديهم شيء يعطونه للبشرية فتعرفهم به . بل لم يكن لديهم شيء يعطونه لأنفسهم فيغنيهم . لم يكن لديهم شيء على الإطلاق . لا مادي ولا معنوي . . كانوا فقراء يعيشون في شظف . إلا قلة منهم تعيش في ترف ، ولكنه ترف غليظ ساذج هابط أشبه شيء بترف الأوابد التي تكثر في أوكارها الفرائس ! وكانوا كذلك فقراء العقل والروح والضمير . عقيدتهم مهلهلة ساذجة سخيفة . وتصورهم للحياة بدائي قبلي محدود . واهتماماتهم في الحياة لا تتعدى الغارات الخاطفة ، والثارات الحادة ، واللهو والشراب والقمار ، والمتاع الساذج الصغير على كل حال !
ومن هذه الوهدة المغلقة أطلقهم الإسلام . بل أنشأهم إنشاء . أنشأهم ومنحهم الوجود الكبير ، الذي تعرفهم به الإنسانية كلها . أعطاهم ما يعطونه لهذه الإنسانية . أعطاهم العقيدة الضخمة الشاملة التي تفسر الوجود كما لم تفسره عقيدة قط ؛ والتي تمكنهم من قيادة البشرية قيادة راشدة رفيعة . وأعطاهم الشخصية المميزة بهذه العقيدة التي تجعل لهم وجودا بين الأمم والدول ، ولم يكن لهم قبلها أدنى وجود . وأعطاهم القوة التي تعرفهم بها الدنيا وتحسب لهم معها حسابا ، وكانوا قبلها خدما للإمبراطوريات من حولهم ، أو مهملين لا يحس بهم أحد . وأعطاهم الثروة كذلك بما فتح عليهم في كل وجهة . . وأكثر من هذا أعطاهم السلام ، سلام النفس . وسلام البيت وسلام المجتمع الذي يعيشون فيه . أعطاهم طمأنينة القلب وراحة الضمير والاستقرار على المنهج والطريق . . وأعطاهم الاستعلاء الذي ينظرون به إلى قطعان البشرية الضالة في أرجاء الجاهلية المترامية الأطراف في الأرض ؛ فيحسون أن الله آتاهم ما لم يؤت أحدا من العالمين . .
فإذا ذكرهم الله بالنعمة هنا ، فهم يذكرون شيئا حاضرا في حياتهم لا يحتاج إلى طول تذكر . وهم هم أنفسهم الذين عاشوا في الجاهلية ثم عاشوا في الإسلام في جيل واحد . وشهدوا هذه النقلة البعيدة التي لا تحققها إلا خارقة فوق تصور البشر . . وهم يذكرون هذه النعمة ممثلة فيما أنزل الله عليهم من الكتاب والحكمة يعظهم به . . والقرآن يقول لهم : ( وما أنزل عليكم ) . . بضمير المخاطب ؛ ليشعروا بضخامة الإنعام وغزارة الفيض ولصوق النعمة بأشخاصهم ، والله ينزل عليهم هذه الآيات ، التي يتألف منها المنهج الرباني ، ومنه دستور الأسرة قاعدة الحياة . .
ثم يلمس قلوبهم اللمسة الأخيرة في هذه الآية ، وهو يخوفهم الله ويذكرهم أنه بكل شيء عليم :
( واتقوا الله ، واعلموا أن الله بكل شيء عليم ) . .
فيستجيش شعور الخوف والحذر ، بعد شعور الحياء والشكر . . ويأخذ النفس من أقطارها ، ليقودها في طريق السماحة والرفق والتجمل . .
{ وَإِذَا طَلّقْتُمُ النّسَآءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنّ فَأَمْسِكُوهُنّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرّحُوهُنّ بِمَعْرُوفٍ وَلاَ تُمْسِكُوهُنّ ضِرَاراً لّتَعْتَدُواْ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلاَ تَتّخِذُوَاْ آيَاتِ اللّهِ هُزُواً وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَمَآ أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مّنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُوَاْ أَنّ اللّهَ بِكُلّ شَيْءٍ عَلِيمٌ }
يعني تعالى ذكره بذلك : وإذا طلقتم أيها الرجال نساءكم فبلغن أجلهن ، يعني ميقاتهن الذي وقته لهن من انقضاء الأقراء الثلاثة إن كانت من أهل الأقراء وانقضاء الأشهر ، إن كانت من أهل الشهور ، فأَمْسِكُوهُنّ يقول : فراجعوهن إن أردتم رجعتهن في الطلقة التي فيها رجعة ، وذلك إما في التطليقة الواحدة أو التطليقتين كما قال تعالى ذكره : الطّلاقُ مَرّتانِ فإمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أوْ تَسْرِيحٌ بإحْسانٍ .
وأما قوله : بِمَعْرُوفٍ فإنه عنى بما أذن به من الرجعة من الإشهاد على الرجعة قبل انقضاء العدة دون الرجعة بالوطء والجماع ، لأن ذلك إنما يجوز للرجل بعد الرجعة ، وعلى الصحبة مع ذلك والعشرة بما أمر الله به وبينه لكم أيها الناس . أوْ سَرّحُوهُنّ بِمَعْرُوفٍ يقول : أو خلّوهن يقضين تمام عدتهنّ وينقضي بقية أجلهنّ الذي أجلته لهنّ لعددهن بمعروف ، يقول : بإيفائهن تمام حقوقهن عليكم على ما ألزمتكم لهن من مهر ومتعة ونفقة وغير ذلك من حقوقهن قبلكم . وَلا تُمْسِكُوهُنّ ضِرَارا لِتَعْتَدُوا يقول : ولا تراجعوهنّ إن راجعتموهنّ في عددهنّ مضارة لهنّ لتطوّلوا عليهنّ مدة انقضاء عددهنّ ، أو لتأخذوا منهنّ بعض ما آتيتموهنّ بطلبهنّ الخلع منكم لمضارّتكم إياهنّ بإمساككم إياهنّ ، ومراجعتكموهنّ ضرارا واعتداء .
وقوله : لِتَعْتَدُوا يقول : لتظلموهنّ بمجاوزتكم في أمرهنّ حدودي التي بينتها لكم .
وبمثل الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن أبي الضحى ، عن مسروق : وَلا تُمْسِكوهُن ضِرَارا قال : يطلقها حتى إذا كادت تنقضي راجعها ، ثم يطلقها ، فيدعها ، حتى إذا كادت تنقضي عدتها راجعها ، ولا يريد إمساكها ، فذلك الذي يضارّ ويتخذ آيات الله هزوا .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن علية ، عن أبي رجاء ، قال : سئل الحسن عن قوله تعالى : وإذَا طَلّقْتُمُ النّساءَ فَبَلَغْنَ أجَلَهُنّ فأمْسِكُوهُنّ بِمَعْرُوفٍ أوْ سَرّحُوهُنّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنّ ضِرَارا لِتَعْتَدُوا قال : كان الرجل يطلق المرأة ، ثم يراجعها ، ثم يطلقها ، ثم يراجعها يضارّها فنهاهم الله عن ذلك .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : وإذَا طَلّقْتُمُ النّساءَ فَبَلَغْنَ أجَلَهُنّ فأمْسِكُوهُنّ بِمَعْرُوفٍ أوْ سَرّحُوهُنّ بِمَعْرُوفٍ قال نهى الله عن الضرار ضرارا أن يطلق الرجل امرأته ، ثم يراجعها عند آخر يوم يبقى من الأجل حتى يفي لها تسعة أشهر ليضارّها به .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد بنحوه ، إلا أنه قال : نهى عن الضرار ، والضرارُ في الطلاق : أن يطلق الرجل امرأته ثم يراجعها . وسائر الحديث مثل حديث محمد بن عمرو .
حدثني محمد بن سعد ، قال : حدثنا أبي ، قال : حدثنا عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : وإذَا طَلّقْتُمُ النّساءَ فَبَلَغْنَ أجَلَهُنّ فأمْسِكُوهُنّ بِمَعْرُوفٍ أوْ سَرّحُوهُنّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنّ ضِرَارا لِتَعْتَدُوا كان الرجل يطلق امرأته ثم يراجعها قبل انقضاء عدتها ، ثم يطلقها ، يفعل ذلك يضارّها ويعضلها ، فأنزل الله هذه الآية .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : وإذَا طَلّقْتُمُ النّساءَ فَبَلَغْنَ أجَلَهُنّ فأمْسِكُوهُنّ بِمَعْرُوفٍ أوْ سَرّحُوهُنّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنّ ضِرَارا لِتَعْتَدُوا قال : كان الرجل يطلق امرأته تطليقة واحدة ثم يدعها ، حتى إذا ما تكاد تخلو عدتها راجعها ، ثم يطلقها ، حتى إذا ما كاد تخلو عدتها راجعها ، ولا حاجة له فيها ، إنما يريد أن يضارّها بذلك ، فنهى الله عن ذلك وتقدم فيه ، وقال : وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَه .
3حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني الليث ، عن يونس ، عن ابن شهاب ، قال : قال الله تعالى ذكره : وإذَا طَلّقْتُمُ النّساءَ فَبَلَغْنَ أجَلَهُنّ فأمْسِكُوهُنّ بِمَعْرُوفٍ أوْ سَرّحُوهُنّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنّ ضِرَارا لِتَعْتَدُوا فإذا طلق الرجل المرأة وبلغت أجلها فليراجعها بمعروف أو ليسرحها بإحسان ، ولا يحلّ له أن يراجعها ضرارا ، وليست له فيها رغبة إلا أن يضارّها .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الرزاق ، عن معمر ، عن قتادة في قوله : وَلا تُمْسِكُوهُنّ ضِرَارا لِتَعْتَدُوا قال : هو في الرجل يحلف بطلاق امرأته ، فإذا بقي من عدتها شيء راجعها يضارّها بذلك ، ويطوّل عليها فنهاهم الله عن ذلك .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا إسماعيل بن أبي أويس ، عن مالك بن أنس ، عن ثور بن زيد الديلي : أن رجلاً كان يطلق امرأته ثم يراجعها ، ولا حاجة له بها ولا يريد إمساكها ، كيما يطوّل عليها بذلك العدّة ليضارّها فأنزل الله تعالى ذكره : وَلا تُمْسِكُوهُنّ ضِرَارا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ يعظّم ذلك .
حدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ الفضل بن خالد ، قال : حدثنا عبيد بن سليمان الباهلي ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : ولا تُمْسِكُوهُنّ ضِرارا : هو الرجل يطلق امرأته واحدة ، ثم يراجعها ، ثم يطلقها ، ثم يراجعها ، ثم يطلقها ليضارّها بذلك لتختلع منه .
حدثنا موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : وإذَا طَلّقْتُمُ النّساءَ فَبَلَغْنَ أجَلَهُنّ فأمْسِكُوهُنّ بِمَعْرُوفٍ أوْ سَرّحُوهُنّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنّ ضِرَارا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلا تَتّخِذُوا آياتِ اللّهِ هُزُوا قال : نزلت في رجل من الأنصار يدعى ثابت بن يسار طلق امرأته حتى إذا انقضت عدتها إلا يومين أو ثلاثة راجعها ثم طلقها ، ففعل ذلك بها ، حتى مضت لها تسعة أشهر مضارّة يضارّها ، فأنزل الله تعالى ذكره : وَلا تُمْسِكُوهُنّ ضِرَارا لِتَعْتَدُوا .
حدثني العباس بن الوليد ، قال : أخبرني أبي ، قال : سمعت عبد العزيز يسأل عن طلاق الضرار ، فقال : يطلق ثم يراجع ، ثم يطلق ، ثم يراجع ، فهذا الضرار الذي قال الله : وَلا تُمْسِكُوهُنّ ضِرَارا لِتَعْتَدُوا .
حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا فضيل بن مرزوق ، عن عطية : وَلا تُمْسِكُوهُنّ ضِرَارا لِتَعْتَدُوا قال : الرجل يطلق امرأته تطليقة ، ثم يتركها حتى تحيض ثلاث حيض ، ثم يراجعها ، ثم يطلقها تطليقة ، ثم يمسك عنها حتى تحيض ثلاث حيض ، ثم يراجعها لتعتدوا قال : لا يطاول عليهن .
وأصل التسريح من سَرْحِ القوم ، وهو ما أطلق من نعمهم للرعي ، يقال للمواشي المرسلة للرعي : هذا سَرْح القوم ، يراد به مواشيهم المرسلة للرعي ، ومنه قول الله تعالى ذكره : والأنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَناِفعُ وَمِنْهَا تَأكُلُونَ وَلَكُمْ فِيها جمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُون يعني بقوله حين تسرحون : حين ترسلونها للرعي فقيل للمرأة إذا خلاها زوجها فأبانها منه : سَرّحها ، تمثيلاً لذلك بتسريح المسرّح ماشيته للرعي وتشبيها به .
القول في تأويل قوله تعالى : وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ .
يعني تعالى ذكره بذلك : ومن يراجع امرأته بعد طلاقه إياها في الطلاق الذي له فيه عليها الرجعة ضرارا بها ليعتدي حدّ الله في أمرها ، فقد ظلم نفسه ، يعني فأكسبها بذلك إثما ، وأوجب لها من الله عقوبة بذلك .
وقد بينا معنى الظلم فيما مضى ، وأنه وضع الشيء في غير موضعه وفعل ما ليس للفاعل فعله .
القول في تأويل قوله تعالى : وَلا تَتّخِذُوا آياتِ اللّهِ هُزُوا .
يعني تعالى ذكره : ولا تتخذوا أعلام الله وفصوله بين حلاله وحرامه وأمره ونهيه في وحيه وتنزيله استهزاءً ولعبا ، فإنه قد بين لكم في تنزيله وآي كتابه ما لكم من الرجعة على نسائكم في الطلاق الذي جعل لكم عليهن فيه الرجعة ، وما ليس لكم منها ، وما الوجه الجائز لكم منها وما الذي لا يجوز ، وما الطلاق الذي لكم عليهن فيه الرجعة وما ليس لكم ذلك فيه ، وكيف وجوه ذلك رحمة منه بكم ونعمة منه عليكم ، ليجعل بذلك لبعضكم من مكروه إن كان فيه من صاحبه مما هو فيه المخرج والمخلص بالطلاق والفراق ، وجعل ما جعل لكم عليهنّ من الرجعة سبيلاً لكم إلى الوصول إلى ما نازعه إليه ودعاه إليه هواه بعد فراقه إياهن منهن ، لتدركوا بذلك قضاء أوطاركم منهن ، إنعاما منه بذلك عليكم ، لا لتتخذوا ما بينت لكم من ذلك في آي كتابي وتنزيلي تفضلاً مني ببيانه عليكم ، وإنعاما ورحمة مني بكم لعبا وسخريا .
وبمعنى ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني عبد الله بن أحمد بن شبّوبَةَ ، قال : حدثنا أبي ، قال : حدثنا أيوب بن سليمان ، قال : حدثنا أبو بكر بن أبي أويس ، عن سليمان بن بلال ، عن محمد بن أبي عتيق وموسى بن عقبة ، عن ابن شهاب ، عن سليمان بن أرقم ، أن الحسن حدثهم : أن الناس كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يطّلق الرجل أو يعتق ، فيقال : ما صنعت ؟ فيقول : إنما كنت لاعبا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «مَنْ طَلّق لاعِبا أوْ أعْتَق لاعِبا فَقَدْ جاز عَلَيْهِ » قال الحسن : وفيه نزلت : وَلا تَتّخِذُوا آياتِ اللّهِ هُزُوا .
3حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : وَلا تَتّخِذُوا آياتِ اللّهِ هُزُوا قال : كان الرجل يطلق امرأته ، فيقول : إنما طلقت لاعبا ، ويتزوّج أو يعتق أو يتصدّق فيقول : إنما فعلت لاعبا ، فنهوا عن ذلك ، فقال تعالى ذكره : وَلا تَتّخِذُوا آياتِ اللّهِ هُزُوا .
3حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا إسحاق بن منصور ، عن عبد السلام بن حرب ، عن يزيد بن عبد الرحمن ، عن أبي العلاء ، عن حميد بن عبد الرحمن ، عن أبي موسى : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غضب على الأشعريين فأتاه أبو موسى ، فقال : يا رسول الله غضبت على الأشعريين فقال : «يَقُولُ أحَدُكُمْ قَدْ طَلّقْتُ قَد راجَعْتُ لَيْسَ هَذا طَلاقَ المُسْلِمِين ، طَلّقُوا المَرأةَ في قُبْلِ عِدّتِها » .
حدثنا أبو زيد ، عن ابن شبة ، قال : حدثنا أبو غسان النهدي ، قال : حدثنا عبد السلام بن حرب ، عن يزيد بن أبي خالد ، يعني الدالاني ، عن أبي العلاء الأودي ، عن حميد بن عبد الرحمن ، عن أبي موسى الأشعري ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال لهم : «يَقُولُ أحَدُكُمْ لاِمْرأتِهِ : قَدْ طَلّقْتُكِ ، قَدْ راجَعْتُكِ لَيْس هَذَا بِطَلاق المُسْلِمِين ، طَلّقُوا المَرأةَ في قُبْلِ عِدّتِها » .
القول في تأويل قوله تعالى : واذْكُرُوا نِعْمَة اللّهِ عَلَيْكُمْ وَما أنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الكِتابِ والحِكْمَةِ .
يعني تعالى ذكره بذلك : واذكروا نعمة الله عليكم بالإسلام ، الذي أنعم عليكم به ، فهداكم له ، وسائر نعمه التي خصكم بها دون غيركم من سائر خلقه ، فاشكروه على ذلك بطاعته فيما أمركم به ونهاكم عنه ، واذكروا أيضا مع ذلك ، ما أنزل عليكم من كتابه ذلك ، القرآن الذي أنزله على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم ، واذكروا ذلك فاعلموا به ، واحفظوا حدوده فيه . والحكمة : يعني : وما أنزل عليكم من الحكمة ، وهي السنن التي علمكموها رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنها لكم . وقد ذكرت اختلاف المختلفين في معنى الحكمة فيما مضى قبل في قوله : ويُعَلّمُهُمُ الكِتابَ وَالحَكْمَةَ فأغنى عن إعادته في هذا الموضع .
القول في تأويل قوله تعالى : يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتّقُوا اللّهَ وَاعْلَمُوا أنّ اللّهَ بِكُلّ شَيْءٍ عَلِيمٌ .
يعني تعالى ذكره بقوله : يَعِظُكُمْ بِهِ يعظكم بالكتاب الذي أنزل عليكم . والهاء التي في قوله «به » عائدة على الكتاب . وَاتّقُوا اللّهَ يقول : وخافوا الله فيما أمركم به ، وفيما نهاكم عنه في كتابه الذي أنزله عليكم ، وفيما أنزله فبينه على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم لكم أن تضيعوه وتتعدوا حدوده ، فتستوجبوا ما لا قبل لكم به من أليم عقابه ، ونكال عذابه . وقوله : وَاعْلَمُوا أنّ اللّهَ بِكُلّ شَيْءٍ عَلِيمٌ يقول : واعلموا أيها الناس أن ربكم الذي حدّ لكم هذه الحدود ، وشرع لكم هذه الشرائع ، وفرَض عليكم هذه الفرائض في كتابه وفي تنزيله ، على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم بكل ما أنتم عاملوه من خير وشرّ ، وحسن وسيىء ، وطاعة ومعصية ، عالم لا يخفى عليه من ظاهر ذلك وخفيه وسره وجهره شيء ، وهو مجازيكم بالإحسان إحسانا ، وبالسيىء سيئا ، إلا أن يعفو ويصفح فلا تتعرّضوا لعقابه ، ولا تظلموا أنفسكم .