المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{ٱلَّذِينَ يَبۡخَلُونَ وَيَأۡمُرُونَ ٱلنَّاسَ بِٱلۡبُخۡلِ وَيَكۡتُمُونَ مَآ ءَاتَىٰهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضۡلِهِۦۗ وَأَعۡتَدۡنَا لِلۡكَٰفِرِينَ عَذَابٗا مُّهِينٗا} (37)

37- أولئك الذين يضمّون إلى التكبر والتباهي البخل بأموالهم وجهودهم عن الناس ، ويدعون الناس إلى مثل صنيعهم من البخل ، ويخفون نعمة الله وفضله عليهم فلا ينفعون أنفسهم ولا الناس بذلك ، وقد أعددنا للجاحدين أمثالهم عذاباً مؤلماً مذلاً .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{ٱلَّذِينَ يَبۡخَلُونَ وَيَأۡمُرُونَ ٱلنَّاسَ بِٱلۡبُخۡلِ وَيَكۡتُمُونَ مَآ ءَاتَىٰهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضۡلِهِۦۗ وَأَعۡتَدۡنَا لِلۡكَٰفِرِينَ عَذَابٗا مُّهِينٗا} (37)

24

ويعقب على الأمر بالإحسان ، بتقبيح الاختيال والفخر ، والبخل والتبخيل ، وكتمان نعمة الله وفضله ، والرياء في الإنفاق ؛ والكشف عن سبب هذا كله ، وهو عدم الإيمان بالله واليوم الآخر ، واتباع الشيطان وصحبته :

( الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ، ويكتمون ما آتاهم الله من فضله . وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا . والذين ينفقون أموالهم رئاء الناس ، ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر . ومن يكن الشيطان له قرينا فساء قرينا ! ) . .

وهكذا تتضح مرة أخرى تلك اللمسة الأساسية في المنهج الإسلامي . وهي ربط كل مظاهر السلوك ، وكل دوافع الشعور ، وكل علاقات المجتمع بالعقيدة . فإفراد الله - سبحانه - بالعبادة والتلقي ، يتبعه الإحسان إلى البشر ، ابتغاء وجه الله ورضاه ، والتعلق بثوابه في الآخرة ؛ في أدب ورفق ومعرفة بأن العبد لا ينفق إلا من رزق الله . فهو لا يخلق رزقه ، ولا ينال إلا من عطاء الله . . والكفر بالله وباليوم الآخر يصاحبه الاختيال والفخر ، والبخل والأمر بالبخل ، وكتمان فضل الله ونعمته بحيث لا تظهر آثارها في إحسان أو عطاء ؛ أو الإنفاق رياء وتظاهرا طلبا للمفخرة عند الناس ؛ إذ لا إيمان بجزاء آخر غير الفخر والخيلاء بين العباد !

وهكذا تتحدد " الأخلاق " . . أخلاق الإيمان . وأخلاق الكفر . . فالباعث على العمل الطيب ، والخلق الطيب ، هو الإيمان بالله واليوم الآخر ، والتطلع إلى رضاء الله . . وجزاء الآخرة . فهو باعث رفيع لا ينتظر صاحبة جزاء من الناس ، ولا يتلقاه ابتداء من عرف الناس ! فاذا لم يكن هناك إيمان باله يبتغي وجهه ، وتتحدد بواعث العمل بالرغبة في رضاه . وإذا لم يكن هناك اعتقاد بيوم آخر يتم فيه الجزاء . . اتجه هم الناس إلى نيل القيم الأرضية المستمدة من عرف الناس . وهذه لا ضابط لها في جيل واحد في رقعة واحدة ، فضلا عن أن يكون لها ضابط ثابت في كل زمان وفي كل مكان ! وكانت هذه هي بواعثهم للعمل . وكان هناك التأرجح المستمر كتأرجح أهواء الناس وقيمهم التي لا تثبت على حال ! وكان معها تلك الصفات الذميمة من الفخر والخيلاء ، والبخل والتبخيل ، ومراءاة الناس لا التجرد والإخلاص !

والتعبير القرآني يقول : إن الله " لا يحب هؤلاء . . والله - سبحانه - لا ينفعل انفعال الكره والحب . إنما المقصود ما يصاحب هذا الانفعال في مألوف البشر من الطرد والأذى وسوء الجزاء : " وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا " . . والإهانة هي الجزاء المقابل للفخر والخيلاء . ولكن التعبير القرآني يلقي ظلاله - إلى جوار المعنى المقصود - وهي ظلال مقصودة ؛ تثير في النفوس الكره لهذه الصفات ، ولهذه التصرفات ؛ كما تثير الاحتقار والاشمئزاز . وبخاصة حين يضم إليها أن الشيطان هو قرينهم : " ومن يكن الشيطان له قرينًا فساء قرينًا ! "

وقد ورد أن هذه النصوص نزلت في جماعة من يهود المدينة . . وهي صفات تنطبق على اليهود ، كما تنطبق على المنافقين . . وكلاهما كان موجودا في المجتمع المسلم في ذلك الحين . . وقد تكون الإشارة إلى كتمانهم ما آتاهم الله من فضله ، تعني كذلك كتمانهم للحقائق التي يعرفونها في كتبهم عن هذا الدين ، وعن رسوله الأمين . . ولكن النص عام ، والسياق بصدد الإحسان بالمال وبالمعاملة . فأولى أن نترك مفهومه عاما . لأنه الأقرب إلى طبيعة السياق .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{ٱلَّذِينَ يَبۡخَلُونَ وَيَأۡمُرُونَ ٱلنَّاسَ بِٱلۡبُخۡلِ وَيَكۡتُمُونَ مَآ ءَاتَىٰهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضۡلِهِۦۗ وَأَعۡتَدۡنَا لِلۡكَٰفِرِينَ عَذَابٗا مُّهِينٗا} (37)

القول في تأويل قوله تعالى :

{ الّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَآ آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مّهِيناً } . .

يعني بذلك جلّ ثناؤه : إن الله لا يحبّ المختال الفخور ، الذي يبخل ويأمر الناس بالبخل . ف «الذين » يحتمل أن يكون في موضع رفع ردّا على ما في قوله { فَخُورا } من ذمّ ، ويحتمل أن يكون نصبا على النعت ل «مَنْ » . والبخل في كلام العرب منع الرجل سائله ما لديه وعنده من فضل عنه . كما :

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن ابن طاوس عن أبيه في قوله : { الّذِينَ يَبْخَلُونَ ويأْمُرُونَ النّاسَ بالبُخْلِ } قال : البخل : أن يبخل الإنسان بما في يديه ، والشحّ : أن يشحّ على ما في أيدي الناس . قال : يحبّ أن يكون له ما في أيدي الناس بالحلّ والحرام لا يقنع .

واختلف القراء في قراءة قوله : { ويَأْمُرُونَ النّاسَ بالبُخْلِ } فقرأته عامة قراء أهل الكوفة : «بالبَخَل » بفتح الباء والخاء . وقرأته عامة قراء أهل المدينة وبعض البصريين بضم الباء : { بالبُخْلِ } . وهما لغتان فصيحتان بمعنى واحد ، وقراءتان معروفتان غير مختلفتي المعنى ، فبأيتهما قرأ القارىء فهو مصيب في قراءته . وقد قيل : إن الله جلّ ثناؤه عنى بقوله : { الّذِينَ يَبْخَلُونَ ويأْمُرُونَ النّاسَ بالبُخْلِ } : الذين كتموا اسم محمد صلى الله عليه وسلم وصفته من اليهود ، ولم يبينوه للناس ، وهم يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل . ذكر من قال ذلك :

حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا المعتمر بن سليمان ، عن أبيه ، عن الحضرميّ : { الّذِينَ يَبْخَلُونَ ويأْمُرُونَ النّاسَ بالبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ ما آتاهُمْ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ } قال : هم اليهود بخلوا بما عندهم من العلم وكتموا ذلك .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : { الّذِينَ يَبْخَلُونَ ويأْمُرُونَ النّاسَ بالبُخْلِ } . . . إلى قوله : { وكانَ اللّهُ بِهِمْ عَلِيما } ما بين ذلك في يهود .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { الّذِينَ يَبْخَلُونَ ويأْمُرُونَ النّاسَ بالبُخْلِ } وهم أعداء الله أهل الكتاب ، بخلوا بحقّ الله عليهم ، وكتموا الإسلام ومحمدا صلى الله عليه وسلم ، وهم يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل .

حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، أما : { الّذِينَ يَبْخَلُونَ ويأْمُرُونَ النّاسَ بالبُخْلِ } فهم اليهود ، { وَيكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ } اسم محمد صلى الله عليه وسلم . أو { يَبْخَلُونَ ويَأْمُرُونَ النّاسَ بالبُخْلِ } : يبخلون باسم محمد صلى الله عليه وسلم ، ويأمر بعضهم بعضا بكتمانه .

حدثنا محمد بن مسلم الرازي ، قال : ثني أبو جعفر الرازي ، قال : حدثنا يحيى ، عن عارم ، عن أشعث ، عن جعفر ، عن سعيد بن جبير ، في قوله : { الّذِينَ يَبْخَلُونَ ويأْمُرُونَ النّاسَ بالبُخْلِ } قال : هذا للعلم ، ليس للدنيا منه شيء .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : { الّذِينَ يَبْخَلُونَ ويأْمُرُونَ النّاسَ بالبُخْلِ } قال : هؤلاء يهود ، وقرأ : { ويَكْتُمُونَ ما آتاهُمْ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ } قال : يبخلون بما آتاهم الله من الرزق ، ويكتمون ما آتاهم الله من الكتب ، إذا سئلوا عن الشيء وما أنزل الله كتموه . وقرأ : { أمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ المُلْكِ فإذا لا يُؤْتُونَ النّاسَ نَقِيرا } من بخلهم .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد ، عن عكرمة أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : كان كردم بن زيد حليف كعب بن الأشرف ، وأسامة بن حبيب ، ونافع بن أبي نافع ، وبحري بن عمرو ، وحيّ بن أخطب ، ورفاعة بن زيد بن التابوت ، يأتون رجالاً من الأنصار ، وكانوا يخالطونهم ، يتنصحون لهم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيقولون لهم : لا تنفقوا أموالكم فإنا نخشى عليكم الفقر في ذهابها ، ولا تسارعوا في النفقة فإنكم لا تدرون ما يكون ! فأنزل الله فيهم : { الّذِينَ يَبْخَلُونَ ويأْمُرُونَ النّاسَ بالبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ } : أي من النبوّة التي فيها تصديق ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم ، { وأعْتَدنْا للْكافِرِينَ عَذَابا مُهِينا } . . . إلى قوله : { وكانَ اللّهُ بِهِمْ عَلِيما } .

فتأويل الاَية على التأويل الأوّل : والله لا يحبّ ذوي الخيلاء والفخر الذين يبخلون بتبيين ما أمرهم الله بتبيينه للناس من اسم محمد صلى الله عليه وسلم ونعته وصفته التي أنزلها في كتبه على أنبيائه ، وهم به عالمون ، ويأمرون الناس الذين يعلمون ذلك ، مثل علمهم بكتمان ما أمرهم الله بتبيينه له ، ويكتمون ما آتاهم الله من علم ذلك ومعرفته من حرم الله عليه كتمانه إياه .

وأما على تأويل ابن عباس وابن زيد : إن الله لا يحبّ من كان مختالاً فخورا ، الذين يبخلون على الناس بفضل ما رزقهم الله من أموالهم . ثم سائر تأويلهما وتأويل غيرهما سواء .

وأولى الأقوال بالصواب في ذلك ما قاله الذين قالوا : إن الله وصف هؤلاء القوم الذين وصف صفتهم في هذه الاَية بالبخل ، بتعريف من جهل أمر محمد صلى الله عليه وسلم أنه حقّ ، وأن محمدا لله نبيّ مبعوث ، وغير ذلك من الحقّ الذي كان الله تعالى ذكره قد بينه فيما أوحى إلى أنبيائه من كتبه ، فبخل بتبيينه للناس هؤلاء ، وأمروا من كانت حاله حالهم في معرفتهم به أن يكتموه من جهل ذلك ، ولا يبينوه للناس .

وإنما قلنا : هذا القول أولى بتأويل الاَية¹ لأن الله جلّ ثناؤه وصفهم بأنهم يأمرون الناس بالبخل ، ولم يبلغنا عن أمة من الأمم أنها كانت تأمر الناس بالبخل ديانة ولا تخلقا ، بل ترى ذلك قبيحا ، ويُذمّ فاعله ، ولا يمتدح¹ وإن هي تخلقت بالبخل واستعملته في أنفسها ، فالسخاء والجود تعدّه من مكارم الأفعال ، وتحثّ عليه¹ ولذلك قلنا : إن بخلهم الذي وصفهم الله به إنما كان بخلاً بالعلم الذي كان الله آتاهموه ، فبخلوا بتبيينه للناس ، وكتموه دون البخل بالأموال . إلا أن يكون معنى ذلك الذين يبخلون بأموالهم التي ينفقونها في حقوق الله وسبله ، ويأمرون الناس من أهل الإسلام بترك النفقة في ذلك ، فيكون بخلهم بأموالهم وأمرهم الناس بالبخل . فهذا المعنى على ما ذكرنا من الرواية عن ابن عباس ، فيكون لذلك وجه مفهوم في وصفهم بالبخل وأمرهم به .

القول في تأويل قوله تعالى : { وأعْتَدنْا للكافِرِينَ عَذَابا مُهِينا } .

يعني بذلك جلّ ثناؤه { وأعْتَدنْا } : وجعلنا للجاحدين نعمة الله التي أنعم بها عليهم من المعرفة بنبوّة محمد صلى الله عليه وسلم ، المكذّبين به بعد علمهم به ، الكاتمين نعته وصفته مَنْ أَمَرَهم الله ببيانه له من الناس ، { عَذَابا مُهِينا } يعني : العقاب المذلّ من عذّب بخلوده فيه عتادا له في آخرته ، إذا قدم على ربه وجده بما سلف منه من جحوده فَرْضَ الله الذي فرض عليه .