بدئت هذه السورة بتنزيه من خلق الأشياء فجعلها سواء في الإتقان ، قدر لكل شيء ما يصلحه ، فهداه إليه ، وأنبت المرعى فجعله غثاء أحوى ، ثم أخبرت الآيات أن الله سيقرئ رسوله القرآن ، فيحفظه ولا ينسى منه شيئا إلا ما شاء الله ، ويسره لليسرى ، ثم أمرت الرسول إن يذكر بالقرآن ليذكر من يخشى ، ويتجنب الذكرى الأشقى الذي يصلى النار الكبرى . وأكدت الآيات أن الفلاح لمن تزكى وذكر اسم ربه فصلى . وختمت السورة ببيان أن ما جاء فيها ثابت في الصحف الأولى صحف إبراهيم وموسى .
{ 1 - 19 } { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى * الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى * وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى * فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى * سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى * إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى * وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى * فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى * سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى * وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى * الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى * ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى *بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى * إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى * صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى }
يأمر تعالى بتسبيحه المتضمن لذكره وعبادته ، والخضوع لجلاله ، والاستكانة لعظمته ، وأن يكون تسبيحا ، يليق بعظمة الله تعالى ، بأن تذكر أسماؤه الحسنى العالية على كل اسم بمعناها الحسن العظيم{[1406]} الجليل .
هذه السورة وردت تسميتها في السنة سورة { سبح اسم ربك الأعلى } ففي الصحيحين عن جابر بن عبد الله قال قام معاذ فصلى العشاء الآخرة فطول فشكاه بعض من صلى خلفه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي : أفتان أنت يا معاذ أين كنت عن سبح اسم ربك الأعلى والضحى اه .
وفي صحيح البخاري عن البراء بن عازب قال : ما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة حتى قرأت سبح اسم ربك الأعلى في سور مثلها .
وروى الترمذي عن النعمان بن بشير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في العيد ويوم الجمعة سبح اسم ربك الأعلى وهل أتاك حديث الغاشية .
وسمتها عائشة { سبح } . روى أبو داود والترمذي عنها كان النبي يقرأ في الوتر في الركعة الأولى سبح الحديث . فهذا ظاهر في أنها أرادت التسمية لأنها لم تأتي بالجملة القرآنية كاملة ، وكذلك سماها البيضاوي وابن كثير . لأنها اختصت بالافتتاح بكلمة { سبح } بصيغة الأمر .
وسماها أكثر المفسرين وكتاب المصاحف { سورة الأعلى } لوقوع صفة الأعلى فيها دون غيرها .
وهي مكية في قول الجمهور وحديث البراء بن عازب الذي ذكرناه آنفا يدل عليه ، وعن ابن عمر وابن عباس أن قوله تعالى { قد أفلح من تزكى وذكر اسم ربه فصلى } نزل في صلاة العيد وصدقة الفطر ، أي فهما مدنيتان فتكون السورة بعضها مكي وبعضها مدني .
وعن الضحاك أن السورة كلها مدنية .
وما اشتملت عليه من المعاني يشهد لكونها مكية وحسبك بقوله تعالى { سنقرئك فلا تنسى } .
وهي معدودة ثامنة في ترتيب نزول السور عند جابر بن زيد نزلت بعد سورة التكوير وقبل سورة الليل . وروي عن ابن عباس وعكرمة والحسن أنها سابعة قالوا : أول ما نزل من القرآن : اقرأ باسم ربك ، ثم ن~ ، ثم المزمل ، ثم تبت ، ثم إذا الشمس كورت ، ثم سبح اسم ربك . وأما جابر بن زيد فعد الفاتحة بعد المدثر ثم عد البقية فهي عنده الثامنة ، فهي من أوائل السور وقوله تعالى { سنقرئك فلا تنسى } ينادي على ذلك .
وعدد آيها تسع عشرة آية باتفاق أهل العدد .
اشتملت على تنزيه الله تعالى والإشارة إلى وحدانيته لانفراده بخلق الإنسان وخلق ما في الأرض مما فيه بقاؤه .
وعلى تأييد النبي صلى الله عليه وسلم وتثبيته على تلقي الوحي .
وأن الله معطيه شريعة سمحة وكتابا يتذكر به أهل النفوس الزكية الذين يخشون ربهم ، ويعرض عنهم أهل الشقاوة الذين يؤثرون الحياة الدنيا ولا يعبأون بالحياة الأبدية .
وأن ما أوحي إليه يصدقه ما في كتب الرسل من قبله وذلك كله تهوين لما يلقاه من إعراض المشركين .
الافتتاح بأمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يسبح اسمَ ربه بالقول ، يؤذن بأنه سيُلقي إليه عقبه بشارة وخيراً له وذلك قوله : { سنقرئك فلا تنسى } [ الأعلى : 6 ] الآيات كما سيأتي ففيه براعة استهلال .
والخطاب للنبيء صلى الله عليه وسلم
والتسبيح : التنزيه عن النقائص وهو من الأسماء التي لا تضاف لغير اسم الله تعالى وكذلك الأفعال المشتقة منه لا ترفع ولا تنصب على المفعولية إلا ما هو اسم لله ، وكذلك أسماء المصدر منه نحو : سبحان الله ، وهو من المعاني الدينية ، فالأشبه أنه منقول إلى العربية من العبرانية وقد تقدم عند قوله تعالى : { ونحن نسبح بحمدك } في سورة البقرة ( 30 ) .
وإذْ عُدِّي فعلُ الأمر بالتسبيح هنا إلى اسْم فقد تعين أن المأمور به قول دال على تنزيه الله بطريقة إجراء الأخبار الطيبة أو التوصيف بالأوصاف المقدسة لإِثباتها إلى ما يدل على ذاته تعالى من الأسماء والمعاني ، ولما كان أقوالاً كانت متعلقة باسم الله باعتبار دلالته على الذات ، فالمأمور به إجراء الأخبار الشريفة والصفات الرفيعة على الأسماء الدالة على الله تعالى من أعلام وصفات ونحوها ، وذلك آيل إلى تنزيه المسمَّى بتلك الأسماء . ولهذا يكثر في القرآن إناطة التسبيح بلفظ اسم الله نحو قوله : { فسبح باسم ربك العظيم } [ الواقعة : 74 ] وقد تقدم ذلك في مبحث الكلام على البسملة في أول هذا التفسير .
فتسبيح اسم الله النطقُ بتنزيهه في الخُوَيصَّة وبينَ الناس بذكر يليق بجلاله من العقائد والأعمال كالسجود والحمد . ويشمل ذلك استحضارَ الناطق بألفاظ التسبيح معانيَ تلك الألفاظ إذ المقصود من الكلام معناه . وبتظاهُرِ النطق مع استحضار المعنى يتكرر المعنى على ذهن المتكلم ويتجدد ما في نفسه من تعظيم لله تعالى .
وأما تفكر العبد في عظمة الله تعالى وترديد تنزيهه في ذهنه فهو تسبيح لذات الله ومسمَّى اسمه ولا يسمى تسبيح اسممِ الله ، لأن ذلك لا يجري على لفظ من أسماء الله تعالى ، فهذا تسبيح ذات الله وليس تسبيحاً لاسمه .
وهذا ملاك التفرقة بين تعلق لفظ التسبيح بلفظ اسم الله نحو { سبح اسم ربك } ، وبين تعلقه بدون اسم نحو { ومن الليل فاسجُد له وسبحه } [ الإنسان : 26 ] ونحو { ويسبحونه وله يسجدون } [ الأعراف : 206 ] فإذا قلنا : { اللَّه أحد } [ الإخلاص : 1 ] أو قلنا : { هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام } [ الحشر : 23 ] إلى آخر السورة كان ذلك تسبيحاً لاسمه تعالى ، وإذا نفينا الإِلاهية عن الأصنام لأنها لا تخلق كما في قوله تعالى : { إن الذين تدعون من دون اللَّه لن يخلقوا ذباباً ولو اجتمعوا له } [ الحج : 73 ] كان ذلك تسبيحاً لذات الله لا لاسمه لأن اسمه لم يجر عليه في هذا الكلام إخبار ولا توصيف .
فهذا مناط الفرق بين استعمال { سبح اسم ربك } واستعمال { وسبحه } ومَآل الإطلاقين في المعنى واحد لأن كلا الإِطلاقين مراد به الإِرشاد إلى معرفة أن الله منزه عن النقائص .
واعلم أن مما يدل على إرادة التسبيح بالقول وجودَ قرينة في الكلام تقتضيه مثللِ التوقيت بالوقت في قوله تعالى : { وسبحوه بكرة وأصيلاً } [ الأحزاب : 42 ] فإن الذي يكلف بتوقيته هو الأقوال والأفعال دون العقائد ، ومثل تعدية الفعل بالباء مثل قوله تعالى : { وسبحوا بحمد ربهم } [ السجدة : 15 ] فإن الحمد قول فلا يصاحب إلا قولاً مثله .
وتعريف : { اسم } بطريق الإضافة إلى { ربك } دون تعريفه بالإضافة إلى عَلَم الجلالة نحو : سبح اسمَ الله ، لما يُشعر به وصف رب من أنه الخالق المدبر . وأما إضافة ( رب ) إلى ضمير الرسول صلى الله عليه وسلم فلتشريفه بهذه الإضافة وأن يكون له حظ زائد على التكليف بالتسبيح .
ثم أجري على لفظ { ربك } صفة { الأعلى } وما بعدها من الصلات الدالة على تصرفات قدرته ، فهو مستحق للتنزيه لصفات ذاته ولِصفات إنعامه على الناس بخلقهم في أحسن تقويم ، وهدايتهم ، ورزقهم ، ورزق أنعامهم ، للإِيماء إلى موجب الأمر بتسبيح اسمه بأنه حقيق بالتنزيه استحقاقاً لذاته ولوصفه بصفة أنه خالق المخلوقات خلقاً يدل على العلم والحكمة وإتقان الصنع ، وبأنه أنعم بالهدى والرزق الذين بهما استقامة حال البشر في النفس والجسد وأوثرت الصفات الثلاث الأول لما لها من المناسبة لغرض السورة كما سنبينه .
فلفظ { الأعلى } اسم يفيد الزيادة في صفة العلو ، أي الارتفاع . والارتفاع معدود في عرف الناس من الكمال فلا ينْسب العلوّ بدون تقييد إلا إلى شيء غير مذموم في العرف ، ولذلك إذا لم يذكر مع وصف الأعلى مفضل عليه أفاد التفضيل المطلق كما في وصفه تعالى هنا . ولهذا حكَى عن فرعون أنه قال : { أنا ربكم الأعلى } [ النازعات : 24 ] .
والعلوّ المشتقُّ منه وصفه تعالى : { الأعلى } علوّ مجازي ، وهو الكمال التام الدائم .
ولم يعدَّ وصفه تعالى : { الأعلى } في عداد الأسماء الحسنى استغناء عن اسمه { العليُّ } لأن أسماء الله توقيفية فلا يعد من صفات الله تعالى بمنزلة الاسم إلا ما كثر إطلاقه إطلاقَ الأسماء ، وهو أوغل من الصفات ، قال الغزالي : والعلوّ في الرتبة العقلية مثل العلوّ في التدريجات الحسية ، ومثال الدرجة العقلية ، كالتفاوت بين السبب والمسبب والعلة والمعلول والفاعل والقابل والكامل والناقص اه .
وإيثار هذا الوصف في هذه السورة لأنها تضمنت التنويه بالقرآن والتثبيت على تلقيه وما تضمنه من التذكير وذلك لعلو شأنه فهو من متعلقات وصف العلوّ الإلهي إذ هو كلامه .
وهذا الوصف هو ملاك القانون في تفسير صفات الله تعالى ومحاملها على ما يليق بوصف الأعلى فلذلك وجب تأويل المتشابهات من الصفات .
وقد جُعل من قوله تعالى : { سبح اسم ربك الأعلى } دعاء السجود في الصلاة إذ ورد أن يقول الساجد : سبحان ربي الأعلى ، ليقرن أثر التنزيه الفعلي بأثر التنزيه القولي .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
سورة الأعلى وهي مكية في قول الجمهور، وحكى النقاش عن الضحاك أنها مدنية، وذلك ضعيف، وإنما دعا إليه قول من قال : إن ذكر صلاة العيد فيها .
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
وهي مكية، والدليل على ذلك ما رواه البخاري : حدثنا عبدان : أخبرني أبي ، عن شعبة ، عن أبي إسحاق ، عن البراء بن عازب قال : أول من قدم علينا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مصعب بن عمير وابن أم مكتوم ، فجعلا يقرئاننا القرآن . ثم جاء عمار وبلال وسعد . ثم جاء عمر بن الخطاب في عشرين . ثم جاء النبي صلى الله عليه وسلم فما رأيت أهل المدينة فرحوا بشيء فرحهم به ، حتى رأيت الولائد والصبيان يقولون : هذا رسول الله قد جاء ، فما جاء حتى قرأت : " سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأعْلَى " في سور مثلها.
وقال الإمام أحمد : حدثنا وَكِيع ، حدثنا إسرائيل ، عن ثُوَيْر بن أبي فاختَةَ ، عن أبيه ، عن علي قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب هذه السورة : " سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأعْلَى " تفرد به أحمد.
وثبت في الصحيحين : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ : " هلا صَلّيت بسبح اسم ربك الأعلى ، والشمس وضحاها ، والليل إذا يغشى " .
وقال الإمام أحمد : حدثنا سفيان ، عن إبراهيم بن محمد بن المنتشر ، عن أبيه ، عن حبيب بن سالم ، عن أبيه ، عن النعمان بن بشير : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ في العيدين ب " سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأعْلَى " و " هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ " وإن وافق يوم الجمعة قرأهما جميعا.
هكذا وقع في مسند الإمام أحمد إسناد هذا الحديث . وقد رواه مسلم - في صحيحه - وأبو داود والترمذي والنسائي ، من حديث أبو عَوَانة وجرير وشعبة ، ثلاثتهم عن إبراهيم بن محمد بن المنتشر ، عن أبيه ، عن حبيب بن سالم ، عن النعمان بن بشير ، به قال الترمذي : " وكذا رواه الثوري ومسعر ، عن إبراهيم - قال : ورواه سفيان بن عيينة عن إبراهيم - عن أبيه ، عن حبيب بن سالم ، عن أبيه ، عن النعمان . ولا يعرف لحبيب رواية عن أبيه " .
وقد رواه ابن ماجة عن محمد بن الصباح ، عن سفيان بن عيينة ، عن إبراهيم بن المنتشر ، عن أبيه عن حبيب بن سالم ، عن النعمان به كما رواه الجماعة ، والله أعلم .
ولفظ مسلم وأهل السنن : كان يقرأ في العيدين ويوم الجمعة ب " سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأعْلَى " و " هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ " وربما اجتمعا في يوم واحد فقرأهما .
وقد روى الإمام أحمد في مسنده من حديث أبي بن كعب ، وعبد الله بن عباس ، وعبد الرحمن بن أبْزَى ، وعائشة أم المؤمنين : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الوتر ب " سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأعْلَى " و " قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ " و " قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ " - زادت عائشة : والمعوذتين.
وهكذا رُوي هذا الحديث - من طريق - جابر وأبي أمامة صُدَيّ بن عجلان ، وعبد الله بن مسعود ، وعمران بن حصين ، وعلي بن أبي طالب ، رضي الله عنهم ولولا خشية الإطالة لأوردنا ما تيسر من أسانيد ذلك ومتونه ولكن في الإرشاد بهذا الاختصار كفاية ، والله أعلم .
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
في رواية للإمام أحمد عن الإمام علي - كرم الله وجهه - أن رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] كان يحب هذه السورة : ( سبح اسم ربك الأعلى ) . . وفي صحيح مسلم أنه كان يقرأ في العيدين ويوم الجمعة بسبح اسم ربك الأعلى ، و( هل أتاك حديث الغاشية ) . وربما اجتمعا في يوم واحد فقرأهما . .
وحق لرسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] أن يحب هذه السورة وهي تحيل له الكون كله معبدا تتجاوب أرجاؤه بتسبيح ربه الأعلى وتمجيده ، ومعرضا يحفل بموحيات التسبيح والتحميد : ( سبح اسم ربك الأعلى . الذي خلق فسوى . والذي قدر فهدى . والذي أخرج المرعى . فجعله غثاء أحوى ) . . وإيقاع السورة الرخي المديد يلقي ظلال التسبيح ذي الصدى البعيد . .
وحق له [ صلى الله عليه وسلم ] أن يحبها ، وهي تحمل له من البشريات أمرا عظيما . وربه يقول له ، وهو يكلفه التبليغ والتذكير : ( سنقرئك فلا تنسى - إلا ما شاء الله إنه يعلم الجهر وما يخفى - ونيسرك لليسرى . فذكر إن نفعت الذكرى ) . . وفيها يتكفل له ربه بحفظ قلبه لهذا القرآن ، ورفع هذه الكلفة عن عاتقه . ويعده أن ييسره لليسرى في كل أموره وأمور هذه الدعوة . وهو أمر عظيم جدا .
وحق له [ صلى الله عليه وسلم ] أن يحبها ، وهي تتضمن الثابت من قواعد التصور الإيماني : من توحيد الرب الخالق وإثبات الوحي الإلهي ، وتقرير الجزاء في الآخرة . وهي مقومات العقيدة الأولى . ثم تصل هذه العقيدة بأصولها البعيدة ، وجذورها الضاربة في شعاب الزمان : ( إن هذا لفي الصحف الأولى . صحف إبراهيم وموسى ) . . فوق ما تصوره من طبيعة هذه العقيدة ، وطبيعة الرسول الذي يبلغها والأمة التي تحملها . . طبيعة اليسر والسماحة . .
وكل واحدة من هذه تحتها موحيات شتى ؛ ووراءها مجالات بعيدة المدى . .
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
هذه السورة وردت تسميتها في السنة سورة سبح اسم ربك الأعلى، ففي الصحيحين عن جابر بن عبد الله قال قام معاذ فصلى العشاء الآخرة فطول فشكاه بعض من صلى خلفه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي : أفتان أنت يا معاذ أين كنت عن سبح اسم ربك الأعلى والضحى اه .
وفي صحيح البخاري عن البراء بن عازب قال : ما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة حتى قرأت سبح اسم ربك الأعلى في سور مثلها .
وروى الترمذي عن النعمان بن بشير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في العيد ويوم الجمعة سبح اسم ربك الأعلى وهل أتاك حديث الغاشية .
وسمتها عائشة سبح . روى أبو داود والترمذي عنها كان النبي يقرأ في الوتر في الركعة الأولى سبح الحديث . فهذا ظاهر في أنها أرادت التسمية لأنها لم تأتي بالجملة القرآنية كاملة ، وكذلك سماها البيضاوي وابن كثير . لأنها اختصت بالافتتاح بكلمة سبح بصيغة الأمر .
وسماها أكثر المفسرين وكتاب المصاحف سورة الأعلى لوقوع صفة الأعلى فيها دون غيرها .
وهي مكية في قول الجمهور وحديث البراء بن عازب الذي ذكرناه آنفا يدل عليه ، وعن ابن عمر وابن عباس أن قوله تعالى { قد أفلح من تزكى وذكر اسم ربه فصلى } نزل في صلاة العيد وصدقة الفطر ، أي فهما مدنيتان فتكون السورة بعضها مكي وبعضها مدني .
وعن الضحاك أن السورة كلها مدنية .
وما اشتملت عليه من المعاني يشهد لكونها مكية وحسبك بقوله تعالى { سنقرئك فلا تنسى } ...
اشتملت على تنزيه الله تعالى والإشارة إلى وحدانيته لانفراده بخلق الإنسان وخلق ما في الأرض مما فيه بقاؤه .
وعلى تأييد النبي صلى الله عليه وسلم وتثبيته على تلقي الوحي .
وأن الله معطيه شريعة سمحة وكتابا يتذكر به أهل النفوس الزكية الذين يخشون ربهم ، ويعرض عنهم أهل الشقاوة الذين يؤثرون الحياة الدنيا ولا يعبأون بالحياة الأبدية .
وأن ما أوحي إليه يصدقه ما في كتب الرسل من قبله وذلك كله تهوين لما يلقاه من إعراض المشركين .
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
هذه السورة المكية تطوف بالنبي( صلى الله عليه وسلم ) في تطلعاته الروحية التي تريد أن توجهه إلى الله سبحانه ليحدّق بالآفاق العليا التي تطلّ على أسرار عظمته ، وليستلهم من ذلك الإيحاءات الإلهية ، في ما تفتح به قلبه على كلِّ الحقائق في الأسماء الحسنى لله ، وعلى الصفات العليا لكماله وجلاله ، ليسبِّحه في موقع ربوبيته ، وليختزن في داخل وعيه الرسالي أنه الأعلى ، فلا شيء معه ولا شيء فوقه ، وليتصوره في خلقه وتدبيره ورزقه ، وليدفعه إلى ساحة الرسالة ليستوعب آيات الله في قلبه وسمعه ولسانه ، فلا ينساها إلا ما شاء الله من ذلك ، في ما يملك من أمور عباده ، فلا يستقلون بشيء منها ، ولا يبتعدون عن خط المشيئة التي تربطهم به ، لأنه المهيمن على كل شيء ، فهو الذي يعلم ظواهر الأشياء وخفاياها .
ويفتح له الطريقة اليسرى التي توصله إلى هدفه في الدعوة بأقرب الوسائل وأيسرها ، لينطلق بالإبلاغ الذي يهزّ الوجدان الإنسانيّ في عملية تذكيرٍ بالحقائق الإلهية في المبدأ والمعاد وفي حركة المسؤولية فيما بينهما . وستتعمّق الذكرى في وعي الإنسان الذي يخشى ربّه ويتحسّس مسؤولية المعرفة في خط الطاعة ، أمّا الأشقى الذي يعيش أجواء العبث واللاّمبالاة في حياته فإنه يتجنبها ، ليبقى سادراً في غيّه ، ولكنّه سوف ينتهي إلى «النار الكبرى » التي لا يحسّ فيها براحة الموت ولذّة الحياة ، وتلك هي الخسارة الخالدة .
ثم تثير السورة الدعوة الإلهية لتطهير النفس وتزكيتها ، باعتبار أنها سبب الفلاح في الدنيا والآخرة ، حيث تنفتح في الجانب العمليّ على ذكر الله ومراقبته في كل الأمور ، والوقوف بين يديه في الصلاة التي يعرج فيها المؤمن بروحه إلى الله ، ولكنّ مشكلة الناس أنهم يؤثرون الحياة الدنيا ويبتعدون عن الآخرة من دون وعيٍ حقيقيٍّ بأن الدنيا متاعٌ ، وأن الآخرة خيرٌ لهم في نتائجها الطيبة الخالدة ، ما يجعل الاستعداد لها بالإيمان والعمل الصالح أخذاً بأسباب الخير ، وهي في الوقت نفسه دار الخلود التي يبقى للإنسان منها كل ما يحصل عليه فيها من النعيم الدائم .
إنها حقائق الكون والرسالة والدعوة وحركة الطاعة في حياة الإنسان التي تطل على مصيره في الآخرة ، وهي رسالة الله التي أودعها في صحف إبراهيم وموسى( عليه السلام ) ، وعرّفها لنبيّه محمد( صلى الله عليه وسلم ) كحقيقةٍ إيمانيةٍ قرآنيةٍ .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
نزه اسم ربك الأعلى ، يقول : نزهه من الشرك بشهادة أن لا إله إلا الله ، فذلك قوله : { الأعلى }...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
اختلف أهل التأويل في تأويل قوله : "سَبّحِ اسْم رَبّكَ الأعْلىَ" ؛
فقال بعضهم : معناه : عظّم ربك الأعلى ، لا ربّ أعلى منه وأعظم . وكان بعضهم إذا قرأ ذلك قال : سبحان ربي الأعلى ...
وقال آخرون : بل معنى ذلك : نزّه يا محمد اسم ربك الأعلى ، أن تسمي به شيئا سواه ، ينهاه بذلك أن يفعل ما فعل من ذلك المشركون ، من تسميتهم آلهتهم بعضَها اللات ، وبعضَها العزّى .
وقال غيرهم : بل معنى ذلك : نزّهِ الله عما يقول فيه المشركون...
وقال آخرون : نزّه تسميتك يا محمد ربك الأعلى وذكرك إياه ، أن تذكره إلاّ وأنت له خاشع متذلل قالوا : وإنما عُنِي بالاسم : التسمية ، ولكن وُضع الاسم مكان المصدر .
وقال آخرون : معنى قوله : سَبّحِ اسْمَ رَبّكَ الأعْلَى : صلّ بذكر ربك يا محمد ، يعني بذلك : صلّ وأنت له ذاكر ، ومنه وَجِل خائف .
وأولى الأقوال في ذلك عندنا بالصواب : قول من قال : معناه : نزّه اسم ربك أن تدعو به الآلهة والأوثان ، لما ذكرت من الأخبار ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعن الصحابة أنهم كانوا إذا قرأوا ذلك قالوا : سبحان ربيَ الأعلى ، فبَيّن بذلك أن معناه كان عندهم معلوما : عظم اسم ربك ، ونزّهه .
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{ سبح اسم ربك الأعلى } قيل فيه من أوجه :
أحدها : أن سبح ربك ، وقيل : سبح اسمه ، وقيل سبح ربك بأسمائه . فمن قال : سبح ربك فمعناه : أن نزهه عن جميع المعاني التي يحتملها غيره من الآفات والحاجات والأضداد والأنداد ، فيكون القول به توحيدا . .... ومن حمل التسبيح على الاسم فقال : نزه اسمه ، فلذلك يرجع إلى الأسماء الذاتية ، وهو ألا يشرك غيره بها فيسميه بها . ... والأسماء الذاتية قوله تعالى : { وإلاهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمان الرحيم } [ البقرة : 163 ] وما أشبهه من الأسماء . والأسماء الصفاتية بأن ننزهها عن المعاني التي استوجب الخلق الوصف بها كقولك : عالم ، حكيم ، رحيم ، مجيد ... { الأعلى } أي هو أعلى من أن تمسه حاجة أو تلحقه آفة ، وكذلك هذا في الأكبر ، ويكون الأكبر والأعلى في النهاية من تنزيه المعاني التي ذكرنا . وهي كقولك : وهو أحسن وأجمل . فإذا قلت : أحسن وأجمل أردت به النهاية في الحسن والجمال ، أو يكون { الأعلى } بمعنى العلي والأكبر بمعنى الكبير ، وذلك جائز في اللغة . ...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
والأعلى معناه القادر الذي لا قادر أقدر منه ...
( الأول ) : أن لا يعامل الكفار معاملة يقدمون بسببها على ذكر الله بما لا ينبغي على ما قال : { ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم }.
( الثاني ) : أنه عبارة عن تنزيه الله تعالى عن كل ما لا يليق به ، في ذاته وفي صفاته وفي أفعاله ، وفي أسمائه وفي أحكامه ....
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{ سبح } أي نزه وبرئ تنزيهاً وتبرئة عظيمتين جداً قويتين شديدتين { اسم ربك } أي المحسن إليك بعد إيجادك على صفة الكمال بتربيتك على أحسن الخلال حتى كنت في غاية الجلال والجمال . ولما كان الإنسان محتاجاً في أن تكون حياته طيبة ليتمكن مما يريد إلى ثلاثة أشياء : كبير ينتمي إليه ليكون له به رفعة ينفعه بها عند مهماته ، ويدفع عنه عند ضروراته ، ومقتدى يربط به نفسه عند ملماته ، وطريقة مثلى ترتكبها كما أشار إليه قوله صلى الله عليه وسلم ... رضيت بالله رباً وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً وبالإسلام ديناً " أرشده صلى الله عليه وسلم إلى أن الانقطاع إليه أعلى الجاه ، فقال واصفاً لمن أمره بتسبيحه بإثبات ما له من الواجبات بعد نفي المستحيلات كما أشار إليه " سبحانك وبحمدك " : { الأعلى } أي- الذي له وصف الأعلوية في المكانة لا المكان على الإطلاق عن كل شائبة نقص وكل سوء من الإلحاد في شيء من أسمائه بالتأويلات الزائغة وإطلاقه على غيره مع زعم أنهما فيه سواء ، وذكره خالياً عن التعظيم وغير ذلك ليكون راسخاً في التنزيه فيكون من أهل العرفان الذين يضيئون على الناس مع كونهم في الرسوخ كالأوتاد الشامخة التي هي مع علوها لا تتزحزح ....
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
والخطاب هنا لرسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ابتداء . وهذا الأمر صادر إليه من ربه . بهذه الصيغة : ( سبح اسم ربك الأعلى ) . . وفيه من التلطف والإيناس ما يجل عن التعبير . وقد كان رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] يقرأ هذا الأمر ، ثم يعقب عليه بالاستجابة المباشرة ، قبل أن يمضي في آيات السورة ، يقول : " سبحان ربي الأعلى " . . فهو خطاب ورده . وأمر وطاعته . وإيناس ومجاوبته . ..
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
الافتتاح بأمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يسبح اسمَ ربه بالقول ، يؤذن بأنه سيُلقي إليه عقبه بشارة وخيراً له وذلك قوله : { سنقرئك فلا تنسى } [ الأعلى : 6 ] الآيات كما سيأتي ففيه براعة استهلال . والخطاب للنبيء صلى الله عليه وسلم... والتسبيح : التنزيه عن النقائص وهو من الأسماء التي لا تضاف لغير اسم الله تعالى وكذلك الأفعال المشتقة منه لا ترفع ولا تنصب على المفعولية إلا ما هو اسم لله ، وكذلك أسماء المصدر منه نحو : سبحان الله ، وهو من المعاني الدينية ، فالأشبه أنه منقول إلى العربية من العبرانية .....فتسبيح اسم الله النطقُ بتنزيهه في الخُوَيصَّة وبينَ الناس بذكر يليق بجلاله من العقائد والأعمال كالسجود والحمد . ويشمل ذلك استحضارَ الناطق بألفاظ التسبيح معانيَ تلك الألفاظ إذ المقصود من الكلام معناه . وبتظاهُرِ النطق مع استحضار المعنى يتكرر المعنى على ذهن المتكلم ويتجدد ما في نفسه من تعظيم لله تعالى . وأما تفكر العبد في عظمة الله تعالى وترديد تنزيهه في ذهنه فهو تسبيح لذات الله ومسمَّى اسمه ولا يسمى تسبيح اسمِ الله ، لأن ذلك لا يجري على لفظ من أسماء الله تعالى ، فهذا تسبيح ذات الله وليس تسبيحاً لاسمه . وهذا ملاك التفرقة بين تعلق لفظ التسبيح بلفظ اسم الله نحو { سبح اسم ربك } ، وبين تعلقه بدون اسم نحو { ومن الليل فاسجُد له وسبحه } [ الإنسان : 26 ] ونحو { ويسبحونه وله يسجدون } [ الأعراف : 206 ] فإذا قلنا : { اللَّه أحد } [ الإخلاص : 1 ] أو قلنا : { هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام } [ الحشر : 23 ] إلى آخر السورة كان ذلك تسبيحاً لاسمه تعالى ، وإذا نفينا الإِلاهية عن الأصنام لأنها لا تخلق كما في قوله تعالى : { إن الذين تدعون من دون اللَّه لن يخلقوا ذباباً ولو اجتمعوا له } [ الحج : 73 ] كان ذلك تسبيحاً لذات الله لا لاسمه لأن اسمه لم يجر عليه في هذا الكلام إخبار ولا توصيف . فهذا مناط الفرق بين استعمال { سبح اسم ربك } واستعمال { وسبحه } ومَآل الإطلاقين في المعنى واحد لأن كلا الإِطلاقين مراد به الإِرشاد إلى معرفة أن الله منزه عن النقائص . واعلم أن مما يدل على إرادة التسبيح بالقول وجودَ قرينة في الكلام تقتضيه مثلِ التوقيت بالوقت في قوله تعالى : { وسبحوه بكرة وأصيلاً } [ الأحزاب : 42 ] فإن الذي يكلف بتوقيته هو الأقوال والأفعال دون العقائد ، ومثل تعدية الفعل بالباء مثل قوله تعالى : { وسبحوا بحمد ربهم } [ السجدة : 15 ] فإن الحمد قول فلا يصاحب إلا قولاً مثله . وتعريف : { اسم } بطريق الإضافة إلى { ربك } دون تعريفه بالإضافة إلى عَلَم الجلالة نحو : سبح اسمَ الله ، لما يُشعر به وصف رب من أنه الخالق المدبر . وأما إضافة ( رب ) إلى ضمير الرسول صلى الله عليه وسلم فلتشريفه بهذه الإضافة وأن يكون له حظ زائد على التكليف بالتسبيح . ثم أجري على لفظ { ربك } صفة { الأعلى } وما بعدها من الصلات الدالة على تصرفات قدرته ، فهو مستحق للتنزيه لصفات ذاته ولِصفات إنعامه على الناس بخلقهم في أحسن تقويم ، وهدايتهم ، ورزقهم ، ورزق أنعامهم ، للإِيماء إلى موجب الأمر بتسبيح اسمه بأنه حقيق بالتنزيه استحقاقاً لذاته ولوصفه بصفة أنه خالق المخلوقات خلقاً يدل على العلم والحكمة وإتقان الصنع ، وبأنه أنعم بالهدى والرزق الذين بهما استقامة حال البشر في النفس والجسد وأوثرت الصفات الثلاث الأول لما لها من المناسبة لغرض السورة كما سنبينه . فلفظ { الأعلى } اسم يفيد الزيادة في صفة العلو ، أي الارتفاع . والارتفاع معدود في عرف الناس من الكمال فلا ينْسب العلوّ بدون تقييد إلا إلى شيء غير مذموم في العرف ، ولذلك إذا لم يذكر مع وصف الأعلى مفضل عليه أفاد التفضيل المطلق كما في وصفه تعالى هنا . ولهذا حكَى عن فرعون أنه قال : { أنا ربكم الأعلى } [ النازعات : 24 ] . والعلوّ المشتقُّ منه وصفه تعالى : { الأعلى } علوّ مجازي ، وهو الكمال التام الدائم . ... ولم يعدَّ وصفه تعالى : { الأعلى } في عداد الأسماء الحسنى استغناء عن اسمه { العليُّ } لأن أسماء الله توقيفية فلا يعد من صفات الله تعالى بمنزلة الاسم إلا ما كثر إطلاقه إطلاقَ الأسماء ، وهو أوغل من الصفات ....
التفسير الحديث لدروزة 1404 هـ :
... جرى المسلمون من لدن النبي صلى الله عليه وسلم بدون انقطاع على ذكر هذه الصيغة مرات في كل سجدة يسجدونها مما فيه معنى لطيف متصل بالهدف المذكور فيما يتبادر لنا من حيث تضمنه الاعتراف لله بصفة العلوّ عن كل شيء في حالة السجود التي تمثل أروع حالات الخضوع لله عز وجل . ...
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
وذكر " الربوبية " هنا يوحي برعاية الله لخلقه ، وإحسانه إليهم ، وإنعامه عليهم ، رغم ما هم عليه من جحود وعناد ، وإضافة " الرب " إلى " كاف المخاطب " الموجه للرسول عليه السلام تدل على ما له صلى الله عليه وسلم من ارتباط وثيق بالله ، وما له من مقام كريم عند الله . ...
تفسير القرآن الكريم لابن عثيمين 1421 هـ :
... الصحيح أن معناها : سبح ربك ذاكراً اسمه ، يعني لا تسبحه بالقلب فقط بل سبحه بالقلب واللسان ، وذلك بذكر اسمه تعالى ، ويدل لهذا المعنى قوله تعالى : { فسبح باسم ربك العظيم } [ الواقعة : 96 ] . ... يعني سبح تسبيحاً مقروناً باسم ، ... وذلك لأن تسبيح الله تعالى قد يكون بالقلب ، بالعقيدة ، وقد يكون باللسان ، وقد يكون بهما جميعاً ، والمقصود أن يسبح بهما جميعاً بقلبه لافظاً بلسانه . وقوله { ربك } الرب معناه الخالق المالك المدبر لجميع الأمور ، فالله تعالى هو الخالق ، وهو المالك ، وهو المدبر لجميع الأمور ، والمشركون يقرون بذلك { ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله } [ لقمان : 25 ] . ... وأما علو الذات : فهو أن الله تعالى فوق عباده مستو على عرشه ، والإنسان إذا قال : يا الله أين يتجه ؟ يتجه إلى السماء إلى فوق ، فالله جل وعلا فوق كل شيء مستو على عرشه . إذن { الأعلى } إذا قرأتها فاستشعر بنفسك أن الله عال بصفاته ، وعال بذاته ، ولهذا كان الإنسان إذا سجد يقول : سبحان ربي الأعلى ، يتذكر بسفوله هو ، لأنه هو الان نزل ، فأشرف ما في الإنسان وأعلى ما في الإنسان هو وجهه ومع ذلك يجعله في الأرض التي تداس بالأقدام ، فكان من الحكمة أن تقول : سبحان ربي الأعلى ، يعني أنزه ربي الذي هو فوق كل شيء ، لأني نزلت أنا أسفل كل شيء ، فتسبح الله الأعلى بصفاته ، والأعلى بذاته ، وتشعر عندما تقول : سبحان ربي الأعلى ، أن ربك تعالى فوق كل شيء ، وأنه أكمل كل شيء في الصفات ....
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
تبدأ السّورة بخلاصة دعوة الأنبياء( عليهم السلام ) ، حيث التسبيح والتقديس أبداً للّه الواحد الأحد ... ( الأعلى ) : أي الأعلى من كلّ : أحد ، تصوّر ، تخيّل ، قياس ، ظن ، وهم ، ومن أي شرك بشقيه الجلي والخفي . ( ربّك ) : إشارة إلى أنّه غير ذلك الرّب الذي يعتقد به عبدة الأصنام . ...