9- ألم يصل إليكم خبر الذين مَضوْا من قبلكم ، قوم نوح وعاد وثمود ، والأمم الذين جاءوا من بعدهم ، وهم لا يعلمهم إلا الله لكثرتهم ، وقد جاءتهم رسلهم بالحُجج الواضحة على صدقهم ، فوضعوا أيديهم على أفواههم استغراباً واستنكاراً ، وقالوا للرسل : إنا كفرنا بما جئتم به من المعجزات والأدلة ، وإنا لفي شك مما تدعوننا إليه من الإيمان والتوحيد ، لأننا لا نطمئن إليه ونشك فيه .
{ 9 - 12 } { أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ * قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ *قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ * وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ }
يقول تعالى مخوفا عباده ما أحله بالأمم المكذبة حين جاءتهم الرسل ، فكذبوهم ، فعاقبهم بالعقاب العاجل الذي رآه الناس وسمعوه فقال : { أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ } وقد ذكر الله قصصهم في كتابه وبسطها ، { وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ } من كثرتهم وكون أخبارهم اندرست .
فهؤلاء كلهم { جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ } أي : بالأدلة الدالة على صدق ما جاءوا به ، فلم يرسل الله رسولا إلا آتاه من الآيات ما يؤمن على مثله البشر ، فحين أتتهم رسلهم بالبينات لم ينقادوا لها بل استكبروا عنها ، { فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ } أي : لم يؤمنوا بما جاءوا به ولم يتفوهوا بشيء مما يدل على الإيمان كقوله { يجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ }
{ وَقَالُوا } صريحا لرسلهم : { إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ } أي : موقع في الريبة ، وقد كذبوا في ذلك وظلموا . ولهذا { قَالَتِ } لهم { رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ }
وقوله : { ألم يأتكم } الآية ، هذا من التذكير بأيام الله في النقم من الأمم الكافرة . وقوله : { لا يعلمهم إلا الله } من نحو قوله : { وقروناً بين ذلك كثيراً }{[7012]} [ الفرقان : 38 ] ، وفي مثل هذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «كذب النسابون من فوق عدنان »{[7013]} ، وروي عن ابن عباس أنه قال : «كان بين زمن موسى وبين زمن نوح قرون ثلاثون لا يعلمهم إلا الله » .
وحكى عنه المهدوي أنه قال : «كان بين عدنان وإسماعيل ثلاثون أباً لا يعرفون » .
قال القاضي أبو محمد : وهذا الوقوف على عدتهم بعيد ، ونفي العلم بها جملة أصح ، وهو ظاهر القرآن .
واختلف المفسرون في معنى قوله : { فردوا أيديهم في أفواههم } بحسب احتمال اللفظ .
قال القاضي أبو محمد : و «الأيدي » في هذه الآية قد تتأول بمعنى الجوارح ، وقد تتأول بمعنى أيدي النعم ، فمما ذكر على أن «الأيدي » الجوارح أن يكون المعنى : ردوا أيدي أنفسهم في أفواه أنفسهم عضاً عليها من الغيظ على الرسل ، ومبالغة في التكذيب - هذا قول ابن مسعود وابن زيد ، وقال ابن عباس : عجبوا وفعلوا ذلك ، والعض من الغيظ مشهور{[7014]} من البشر ، وفي كتاب الله تعالى : { عضوا عليكم الأنامل من الغيظ }{[7015]} [ آل عمران : 119 ] وقال الشاعر :
قد أفنى أنامله أزمه . . . فأضحى يعضُّ عليَّ الوظيفا{[7016]}
لو أن سملى أبصرت تخددي . . . ودقة في عظم ساقي ويدي
وبعد أهلي وجفاء عوَّدي . . . عضت من الوجد بأطراف اليد{[7017]}
ومما ذكر أن يكون المعنى أنهم ردوا أيدي أنفسهم في أفواه أنفسهم إشارة على الأنبياء بالسكوت ، واستبشاعاً لما قالوا من دعوى النبوءة ومما ذكر أن يكون المعنى ردوا أيدي أنفسهم في أفواه الرسل تسكيتاً لهم ودفعاً في صدر قولهم - قاله الحسن - وهذا أشنع في الرد وأذهب في الاستطالة على الرسل والنيل منهم .
قال القاضي أبو محمد : وتحتمل الألفاظ معنى رابعاً وهو أن يتجوز في لفظ «الأيدي » ، أي إنهم ردوا قوتهم ومدافعتهم ومكافحتهم فيما قالوه بأفواههم من التكذيب ، فكأن المعنى : ردوا جميع مدافعتهم في أفواههم أي في أقوالهم ، وعبر عن جميع المدافعة ب «الأيدي » ، إذ الأيدي موضع لشد المدافعة والمرادة .
وحكى المهدوي قولاً ضعيفاً وهو أن المعنى : أخذوا أيدي الرسل فجعلوها في أفواه الرسل .
قال القاضي أبو محمد : وهذا عندي لا وجه له .
ومما ذكر على أن «الأيدي » أيدي النعم ما ذكره الزجاج وذلك أنهم ردوا آلاء الرسل في الإنذار والتبليغ بأفواههم ، أي بأقوالهم - فوصل الفعل ب { في } عوض وصوله بالباء{[7018]} - وروي نحوه عن مجاهد وقتادة .
قال القاضي أبو محمد : والمشهور : جمع يد النعمة : أياد ، ولا يجمع على أيد ، إلا أن جمعه على أبد ، لا يكسر باباً ولا ينقض أصلاً ، وبحسبنا أن الزجاج قدره وتأول عليه .
قال القاضي أبو محمد : ويحتمل اللفظ - على هذا - معنى ثانياً ، أن يكون المقصد : ردوا أنعام الرسل في أفواه الرسل ، أي لم يقبلوه ، كما تقول لمن لا يعجبك قوله : أمسك يا فلان كلامك في فمك . ومن حيث كانت أيدي الرسل أقوالاً ساغ هذا فيها ، كما تقول : كسرت كلام فلان في فمه ، أي رددته عليه وقطعته بقلة القبول والرد ، وحكى المهدوي عن مجاهد أنه قال : معناه : ردوا نعم الرسل في أفواه أنفسهم بالتكذيب والنجه{[7019]} .
وقوله : { لفي شك مما تدعوننا إليه مريب } يقتضي أنهم شكوا في صدق نبوتهم وأقوالهم أو كذبها ، وتوقفوا في إمضاء أحد المعتقدين ، ثم ارتابوا بالمعتقد الواحد في صدق نبوتهم فجاءهم شك مؤكد بارتياب .
وقرأ طلحة بن مصرف : «مما تدعونّا » بنون واحدة مشددة{[7020]} .
هذا الكلام استئناف ابتدائيّ رجع به الخطاب إلى المشركين من العرب على طريقة الالتفات في قوله : { ألم يأتكم } ، لأن الموجّه إليه الخطاب هنا هم الكافرون المعنيون بقوله : { وويل للكافرين من عذاب شديد } [ سورة إبراهيم : 2 ] ، وهم معظم المعنيّ من الناس في قوله : { لتخرج الناس من الظلمات إلى النور } [ سورة إبراهيم : 1 ] ، فإنهم بعد أن أُجمل لهم الكلام في قوله تعالى : { وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم } [ سورة إبراهيم : 4 ] الآية ، ثم فُصّل بأن ضُرب المثل للإِرسال إليهم لغرض الإخراج من الظلمات إلى النور بإرسال موسى عليه السلام لإخراج قومه ، وقُضي حق ذلك عقبه بكلام جامع لأحوال الأمم ورسلهم ، فكان بمنزلة الحوصلة والتذييل مع تمثيل حالهم بحال الأمم السالفة وتشابه عقلياتهم في حججهم الباطلة وردّ الرسل عليهم بمثل ما رَدّ به القرآن على المشركين في مواضع ، ثم ختم بالوعيد .
والاستفام إنكاري لأنهم قد بلغتهم أخبارهم ، فأما قوم نوح فقد تواتر خبرهم بين الأمم بسبب خبر الطوفان ، وأما عاد وثمود فهم من العرب ومساكنهم في بلادهم وهم يمرون عليها ويخبر بعضهم بعضاً بها ، قال تعالى : { وسكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم وتبين لكم كيف فعلنا بهم } [ سورة إبراهيم : 45 ] وقال : { وإنكم لتمرون عليهم مصبحين وبالليل أفلا تعقلون } [ سورة الصافات : 137 ] .
و{ الذين من بعدهم } يشمل أهل مدين وأصحابَ الرس وقومَ تُبّع وغيرَهم من أمم انقرضوا وذهبت أخبارهم فلا يعلمهم إلا الله . وهذا كقوله تعالى : { وعادا وثمودا وأصحاب الرس وقرونا بين ذلك كثيرا } [ سورة الفرقان : 38 ] .
وجملة لا يعلمهم إلا الله } معترضة بين { والذين من بعدهم } وبين جملة { جاءتهم رسلهم بالبينات } الواقعة حالاً من { والذين من بعدهم } ، وهو كناية عن الكثرة التي يستلزمها انتفاء علم الناس بهم .
ومعنى { جاءتهم رسلهم } جاءَ كلّ أمة رسولُها .
وضمائر { ردّوا } و { أيديهم } و { أفواههم } عائدٌ جميعها إلى قوم نوح والمعطوفات عليه .
وهذا التركيب لا أعهد سبق مثله في كلام العرب فلعله من مبتكرات القرآن .
ومعنى { فردوا أيديهم في أفواههم } يحتمل عدة وجوه أنهاهَا في « الكشاف » إلى سبعة وفي بعضها بُعدٌ ، وأولاها بالاستخلاص أن يكون المعنى : أنهم وضعوا أيديهم على أفواههم إخفاء لشدة الضحك من كلام الرسل كراهية أن تظهر دواخل أفواههم . وذلك تمثيل لحالة الاستهزاء بالرسل .
والردّ : مستعمل في معنى تكرير جعل الأيدي في الأفواه كما أشار إليه « الراغب » . أي وضعوا أيديهم على الأفواه ثم أزالوها ثم أعادوا وضعها فتلك الإعادة رَدّ .
وحرف { في } للظرفية المجازية المراد بها التمكين ، فهي بمعنى { على } كقوله : { أولئك في ضلال مبين } [ سورة الزمر : 22 ] . فمعنى ردّوا أيديهم في أفواههم } جعلوا أيديهم على أفواههم .
وعطفه بفاء التعقيب مشير إلى أنهم بادروا بردّ أيديهم في أفواههم بفور تلقيهم دعوة رسلهم ، فيقتضي أن يكون ردّ الأيدي في الأفواه تمثيلاً لحال المتعجب المستهزىء ، فالكلام تمثيل للحالة المعتادة وليس المراد حقيقته ، لأن وقوعه خبراً عن الأمم مع اختلاف عوائدهم وإشاراتهم واختلاف الأفراد في حركاتهم عند التعجب قرينة على أنه ما أريد به إلاّ بيان عَربي .
ونظير هذا قوله تعالى حكاية عن أهل الجنة : { وقالوا الحمد لله الذي صَدَقنا وعده وأورثنا الأرض } [ سورة الزمر : 74 ] ، فميراث الأرض كناية عن حسن العاقبة جرياً على بيان العرب عند تنافس قبائلهم أن حسن العاقبة يكون لمن أخذ أرض عدوّه .
وأكّدوا كفرهم بما جاءت به الرسل بما دلّت عليه { إنّ } وفعل المضيّ في قوله : { إنا كفرنا } . وسموا ما كفروا به مُرسلاً به تهكماً بالرسل ، كقوله تعالى : { وقالوا يا أيها الذي نُزّل عليه الذكر إنك لمجنون } [ سورة الحجر : 6 ] ، فمعنى ذلك : أنهم كفروا بأن ما جاءوا به مرسل به من الله ، أي كفروا بأن الله أرسلهم . فهذا مما أيقنوا بتكذيبهم فيه .
وأما قولهم : { وإنا لفي شك مما تدعوننا إليه } فذلك شك في صحة ما يدعونهم إليه وسداده ، فهو عندهم معرض للنظر وتمييز صحيحه من سقيمه ، فمورد الشك مَا يدعونهم إليه ، ومورد التكذيب نسبة دعوتهم إلى الله . فمرادهم : أنهم وإن كانوا كاذبين في دعوى الرسالة فقد يكون في بعض ما يدعون إليه ما هو صدق وحقّ فإن الكاذب قد يقول حقّاً .
وجعلوا الشك قوياً فلذلك عبر عنه بأنهم مَظروفون فيه ، أي هو محيط بهم ومتمكن كمال التمكن .
و { مريب } تأكيد لمعنى { في شك } ، والمريب : المُتوقع في الريب ، وهو مرادف الشك ، فوصف الشك بالمريب من تأكيد ماهيته ، كقولهم : لَيل ألْيَل ، وشِعر شَاعر .
وحذفت إحدى النونين من قوله : { إنا } تخفيفاً تجنباً للثقل الناشىء من وقوع نونين آخرين بعد في قوله : { تدعوننا } اللازم ذكرهما ، بخلاف آية سورة هود ( 62 ) { وإننا لفي شك مما تدعونا } إذ لم يكن موجب للتخفيف لأن المخاطب فيها بقوله : تدعونا } واحد .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم خوف كفار مكة بمثل عذاب الأمم الخالية لئلا يكذبوا بمحمد صلى الله عليه وسلم فقال سبحانه: {ألم يأتكم نبؤا}، يعني حديث، {الذين من قبلكم} من الأمم؛ حديث {قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم} من الأمم التي عذبت، عاد، وثمود، وقوم إبراهيم، وقوم لوط، وغيرهم، {لا يعلمهم}، يعني لا يعلم عدتهم أحد، {إلا الله} عز وجل، {جاءتهم رسلهم بالبينات}... {فردوا أيديهم في أفواههم}، يقول: وضع الكفار أيديهم في أفواههم، ثم قالوا للرسل: اسكتوا، فإنكم كذبة، يعنون الرسل، وأن العذاب ليس بنازل بنا في الدنيا، {وقالوا} للرسل: {إنا كفرنا بما أرسلتم به}، يعني بالتوحيد، {وإنا لفي شك مما تدعوننا إليه مريب} يعني بالريبة أنهم لا يعرفون شكهم...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيل موسى لقومه: يا قوم "ألَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ "يقول: خبر الذين من قبلكم من الأمم التي مضت قبلكم؛ "قَوْمِ نُوحِ وعادٍ وَثُمودَ"... "وَالّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ" يعني: من بعد قوم نوح وعاد وثمود. "لا يَعْلَمُهُمْ إلاّ اللّهُ" يقول: لا يحصي عددهم ولا يعلم مبلغهم إلا الله...
وقوله: "جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بالبَيّناتِ" يقول: جاءت هؤلاء الأمم رسلهم الذين أرسلهم الله إليهم بدعائهم إلى إخلاص العبادة له "بالبينات"، يعني بالحجج الواضحات والدلالات البينات الظاهرات على حقيقة ما دعوهم إليه من معجزات.
وقوله: "فَرَدّوا أيْدِيَهُمْ فِي أفْوَاهِهِمْ": اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك؛ فقال بعضهم: معنى ذلك: فعضوا على أصابعهم تغيظا عليهم في دعائهم إياهم ما دعوهم إليه... وقال آخرون: بل معنى ذلك: أنهم لما سمعوا كتاب الله عجبوا منه، ووضعوا أيديهم على أفواههم...
وقال آخرون: بل معنى ذلك أنهم كذّبوهم بأفواههم... عن مجاهد، في قول الله: "فَرَدّوا أيْدِيِهُمْ فِي أفْوَاهِهِمْ" قال: ردّوا عليهم قولهم وكذبوهم... وكأنّ مجاهدًا وجَّه قوله: (فردُّوا أيديهم في أفواههم)، إلى معنى: ردُّوا أيادي الله التي لو قبلوها كانت أياديَ ونعمًا عندهم، فلم يقبلوها، ووجَّه قوله: (في أفواههم)، إلى معنى: بأفواههم، يعني: بألسنتهم التي في أفواههم... وقال آخرون: بل معنى ذلك أنهم كانوا يَضَعُون أيديهم على أفواه الرّسل ردًّا عليهم قولَهم، وتكذيبًا لهم...
وقال آخرون: هذا مَثَلٌ، وإنما أُرِيد أنهم كفُّوا عَمَّا أُمروا بقَوْله من الحق، ولم يؤمنوا به ولم يسلموا. وقال: يقال لِلرَّجل إذا أمسَك عن الجواب فلم يجبْ: ردّ يده في فمه. وذكر بعضهم أن العرب تقول: كلمت فلانًا في حاجة فرَدّ يدَه في فيه، إذا سكت عنه فلم يجب.
وهذا أيضًا قول لا وَجْه له، لأن الله عزَّ ذكره، قد أخبر عنهم أنهم قالوا: "إنا كفرنا بما أرسلتم به"، فقد أجابوا بالتكذيب...
وأشبه هذه الأقوال عندي بالصواب في تأويل هذه الآية... أنهم ردُّوا أيديهم في أفواههم، فعضُّوا عليها، غيظاً على الرسل، كما وصف الله جل وعز به إخوانهم من المنافقين، فقال: (وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الأنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ) [سورة آل عمران: 119]. فهذا هو الكلام المعروف والمعنى المفهوم من ردِّ اليدِ إلى الفم.
وقوله: (وقالوا إنّا كفرنا بمَا أرسلتم به)، يقول عز وجل: وقالوا لرسلهم: إنا كفرنا بما أرسلكم به مَنْ أرسلكم، من الدعاء إلى ترك عبادة الأوثان والأصنام (وإنا لفي شك) من حقيقة ما تدعوننا إليه من توحيد الله (مُريب)، يقول: يريبنا ذلك الشك، أي يوجب لنا الريبَة والتُّهمَةَ فيه...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
يشبه أن يكون الخطاب لأهل الإيمان منهم والرسل؛ خاطبهم عز وجل تصبيرا وتنبيها على تكذيب الكفرة إياهم واستهزائهم بهم، فقال: {ألم يأتكم نبأ الذين من قبلكم} أي قد أتاكم خبر الذين من قبلكم، ما فيه مَزْجَرُ لكم عن مثل معاملتهم الرسول.. ويحتمل أن يكون الخطاب لأهل الكفر منهم؛ يقول: {ألم يأتكم نبأ الذين من قبلكم} أي قد أتاكم خبر الذين من قبلكم [أن ما] نزل بهم بتكذيبهم الرسل واستهزائهم بأتباعهم، فينزل بكم ما نزل بهم، لأن الذي أنزل ذلك عليهم حي قادر على إنزال مثله. فيخرج ذلك مخرج التوبيخ والتعيير والوعيد ليحذروا من صنيعهم، والله أعلم.
{لا يعلمهم إلا الله} فيه دلالة أن تكلف معرفة الأنساب وحفظها شغل وتكلف، لأنه أخبر أن فيهم من لا [يعلم ذلك] {لا يعلمهم إلا الله}...
ويحتمل قوله: {إنا كفرنا بما أرسلتم به} من إثبات الرسالة وإقامة الحجة عليها {وإنا لفي شك مما تدعونا إليه مريب} من التصديق بالرسالة والنبوة. [وقوله] هذا يدل أنهم كانوا على شك مما يعبدون من الأوثان والأصنام، لأنه لو كان لهم بيان في ذلك وحجة ودعاء إليه لكانوا لا يقولون: {وإنا لفي شك مما تدعوننا إليه مريب} ولكن كانوا يقطعون فيه القول، فدل أنهم كانوا على شك وريب في عبادتهم الأصنام والأوثان التي عبدوها...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
...النبأ: الخبر عما يعظم شأنه...
"وإنا لفي شك مما تدعوننا إليه مريب" والريب: أخبث الشك المتهم، وهو الذي يأتي بما فيه التهمة، ولذلك وصفوا به الشك أي أنه يوجب تهمة ما أتيتم به...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
... {فَرَدُّواْ أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ} فعضوها غيظاً وضجراً مما جاءت به الرسل، كقوله: {عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الانامل مِنَ الغيظ} [آل عمران: 119] أو ضحكاً واستهزاء كمن غلبه الضحك فوضع يده على فيه. أو وأشاروا بأيديهم إلى ألسنتهم وما نطقت به من قولهم {إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ} أي هذا جوابنا لكم ليس عندنا غيره، إقناطاً لهم من التصديق. ألا ترى إلى قوله: {فَرَدُّواْ أَيْدِيَهُمْ فِى أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُواْ إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ} وهذا قول قوي. أو وضعوها على أفواههم يقولون للأنبياء: أطبقوا أفواهكم واسكتوا. أو ردّوها في أفواه الأنبياء يشيرون لهم إلى السكوت. أو وضعوها على أفواههم يسكتونهم ولا يذرونهم يتكلمون. وقيل: الأيدي، جمع يد وهي النعمة بمعنى الأيادي، أي: ردوا نعم الأنبياء التي هي أجل النعم من مواعظهم ونصائحهم وما أوحي إليهم من الشرائع والآيات في أفواههم، لأنهم إذا كذبوها ولم يقبلوها، فكأنهم ردوها في أفواههم ورجعوها [إلى حيثُ جاءت] منه على طريق المثل {مّمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ} من الإيمان بالله...
لباب التأويل في معاني التنزيل للخازن 741 هـ :
المقصود منه حصول العبرة بأحوال من تقدم وهلاكهم...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما حذرهم انتقام الله إن كفروا، ذكرهم أيامه في الأمم الماضية، وعين منهم الثلاثة الأولى لأنهم كانوا أشدهم أبداناً، وأكثرهم أعواناً، وأقواهم آثاراً، وأطولهم أعماراً، لأن البطش إذا برز إلى الوجود كان أهول، لأن النفس للمحسوس أقبل، فقال دالاً على ما أرشدهم إليه من غناه سبحانه وحمده مخوفاً لهم من سطوات الله سبحانه: {ألم يأتكم} أي يا بني إسرائيل {نبأ الذين} ولما كان المراد قوماً مخصوصين لم يستغرقوا الزمان قال: {من قبلكم} ثم أبدل منهم فقال: {قوم} أي نبأ قوم {نوح} وكانوا ملء الأرض {و} نبأ {عاد} وكانوا أشد الناس أبداناً وأثبتهم جناناً {و} نبأ {ثمود} وكانوا أقوى الناس على نحت الصخور وبناء القصور {و} نبأ {الذين} ولما كان المراد البعض، أدخل الجار فقال: {من بعدهم} أي في الزمن حال كونهم في الكثرة بحيث {لا يعلمهم} أي حق العلم على التفصيل {إلا الله} أي الذي له الإحاطة الكاملة، كفروا فأهلكهم الله ولم يزل غنياً حميداً عند أخذهم وبعده كما كان قبله... ثم فصل سبحانه خبرهم، فقال -جواباً لمن كأنه قال: ما كان نبأهم؟ {جاءتهم رسلهم بالبينات} وترك عطفه لشدة التباسه بالمستفهم عنه {فردوا} أي الأمم عقب مجيء الرسل من غير تأمل جامعين في تكذيبهم بين الفعل والقول {أيديهم في أفواههم} وهو إشارة إلى السكوت عن ذلك والتسكيت، كأنه لا يليق أن يتفوه ولو على سبيل الرد... {و} بعد أن فعلوا ذلك لهذه الأغراض الفاسدة {قالوا} أي الأمم {إنا كفرنا} أي غطينا مرائي عقولنا مستهينين {بما} ولما كان رد الرسالة جامعاً للكفر، وكانوا غير مسلّمين أن المرسل لهم هو الله، بنوا للمفعول قولهم: {أرسلتم به} أي لأنكم لم تأتونا بما يوجب الظن فضلاً عن القطع، فلذا لا يحتاج رده إلى تأمل...
ولما كان ما أتى به الرسل يوجب القطع بما يعلمه كل أحد، فكانوا بما قالوه في مظنة الإنكار، أكدوا: {وإنا لفي شك} أي محيط بنا... {مريب} أي موجب للتهمة وموقع في الشك والاضطراب والفزع...
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
ثم شرَع في الترهيب بتذكير ما جرى على الأمم الخالية فقال: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الذين مِن قَبْلِكُمْ} ليتدبروا ما أصاب كلَّ واحد من حزبي المؤمن والكافر فيُقلعوا عما هم عليه من الشر ويُنيبوا إلى الله تعالى...
{وَقَالُواْ إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ} أي على زعمكم وهي البيناتُ التي أظهروها حجةً على صحة رسالاتِهم كقوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا موسى بآياتنا} [هود، الآية 96]، ومرادُهم بالكفر بها الكفرُ بدِلالتها على صحة رسالاتِهم...
فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني 1250 هـ :
... وقد قيل: كيف صرحوا بالكفر ثم أمرهم على الشك؟ وأجيب بأنهم أرادوا إنا كافرون برسالتكم وإن نزلنا عن هذا المقام فلا أقل من أنا نشك في صحة نبوّتكم. ومع كمال الشك لا مطمع في الاعتراف بنبوتكم...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ويستمر موسى في بيانه وتذكيره لقومه. ولكنه يتوارى عن المشهد لتبرز المعركة الكبرى بين أمة الأنبياء والجاهليات المكذبة بالرسل والرسالات. وذلك من بدائع الأداء في القرآن، لإحياء المشاهد، ونقلها من حكاية تروى إلى مشهد ينظر ويسمع، وتتحرك فيه الشخوص، وتتجلى فيه السمات والانفعالات.. والآن إلى الساحة الكبرى التي يتلاشى فيها الزمان والمكان:... وهنا نشهد الرسل الكرام في موكب الإيمان، يواجهون البشرية متجمعة في جاهليتها. حيث تتوارى الفواصل بين أجيالها وأقوامها. وتبرز الحقائق الكبرى مجردة عن الزمان والمكان. كما هي في حقيقة الوجود خلف حواجز الزمان والمكان: (ألم يأتكم نبأ الذين من قبلكم: قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله؟).. فهم كثير إذن، وهناك غير من جاء ذكرهم في القرآن. ما بين ثمود وقوم موسى. والسياق هنا لا يعني بتفصيل أمرهم، فهناك وحدة في دعوة الرسل ووحدة فيما قوبلت به: (جاءتهم رسلهم بالبينات).. الواضحات التي لا يلتبس أمرها على الإدراك السليم. (فردوا أيديهم في أفواههم، وقالوا: إنا كفرنا بما أرسلتم به؛ وإنا لفي شك مما تدعوننا إليه مريب).. ردوا أيديهم في أفواههم كما يفعل من يريد تمويج الصوت ليسمع عن بعد، بتحريك كفه أمام فمه وهو يرفع صوته ذهابا وإيابا فيتموج الصوت ويسمع. يرسم السياق هذه الحركة التي تدل على جهرهم بالتكذيب والشك، وإفحاشهم في هذا الجهر، وإتيانهم بهذه الحركة الغليظة التي لا أدب فيها ولا ذوق، إمعانا منهم في الجهر بالكفر...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
إنهم بعد أن أُجمل لهم الكلام في قوله تعالى: {وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم} [سورة إبراهيم: 4] الآية، ثم فُصّل بأن ضُرب المثل للإِرسال إليهم لغرض الإخراج من الظلمات إلى النور بإرسال موسى عليه السلام لإخراج قومه، وقُضي حق ذلك عقبه بكلام جامع لأحوال الأمم ورسلهم، فكان بمنزلة الحوصلة والتذييل مع تمثيل حالهم بحال الأمم السالفة وتشابه عقلياتهم في حججهم الباطلة وردّ الرسل عليهم بمثل ما رَدّ به القرآن على المشركين في مواضع، ثم ختم بالوعيد...
ومعنى {فردوا أيديهم في أفواههم} يحتمل عدة وجوه... وأولاها بالاستخلاص أن يكون المعنى: أنهم وضعوا أيديهم على أفواههم إخفاء لشدة الضحك من كلام الرسل كراهية أن تظهر دواخل أفواههم. وذلك تمثيل لحالة الاستهزاء بالرسل. والردّ: مستعمل في معنى تكرير جعل الأيدي في الأفواه كما أشار إليه « الراغب». أي وضعوا أيديهم على الأفواه ثم أزالوها ثم أعادوا وضعها فتلك الإعادة رَدّ...
فمعنى ردّوا أيديهم في أفواههم} جعلوا أيديهم على أفواههم...
وأكّدوا كفرهم بما جاءت به الرسل بما دلّت عليه {إنّ} وفعل المضيّ في قوله: {إنا كفرنا}. وسموا ما كفروا به مُرسلاً به تهكماً بالرسل...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
معنى {ألم يأتكم نبأ الذين من قبلكم قوم نوح...} إلخ، قد جاءكم نبأ الذين من قبلكم قوم.. {والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله} ومن هم الذين من بعد هؤلاء، ولم يعلم مآلهم إلا الله تعالى. أحسب أن المراد بهم أمة محمد صلى الله عليه وسلم الذين كفروا برسالته، ويعاندون فيها، ويؤذون المؤمنين، ويسفهون قول الرسول صلى الله عليه وسلم، ويصرون على عبادة الأوثان. ويكون قوله تعالى: {والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله} تهديد لهم، وحمل لهم على المقايسة بينهم وبين غيرهم، فإذا كان نبأ الغابرين هلاكهم، فليقيسوا حالهم على حال أولئك الغابرين...
التفسير الحديث لدروزة 1404 هـ :
يلفت النظر إلى التماثل بين ما تحكيه الآيات من موقف كفار الأمم السابقة وأقوالهم، وما حكته آيات عديدة مرت أمثلة منها من موقف كفار العرب وأقوالهم ومجادلتهم وتهديدهم للنبي والمؤمنين بالإخراج وأذيتهم لمن يقدرون على أذيته منهم. وكذلك التماثل بين ما تحكيه من أقوال الأنبياء وردودهم وبين ما حكته آيات عديدة مرت أمثلة منها من موقف النبي وردوده على الكفار بلسان القرآن. وواضح أن هذا التماثل يزيد في قوة تأثير الآيات في السامعين من جهة وفي تطمين النبي والمؤمنين وتسليتهم من جهة أخرى، وهو ما استهدفته الآيات كما هو المتبادر...
والبينات إما أن تكون المعجزات الدالة على صدقهم؛ أو: هي الآيات المشتملة على الأحكام الواضحة التي تُنظّم حركة حياتهم لتُسعدهم...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
الآية تستخدم أسلوب التذكير بالتاريخ للبرهان على النتائج السلبية للكفر والانحراف، من خلال ما عاشه الكافرون من عذاب الله في الدنيا قبل الآخرة، بغرض ردع الكافرين المتأخرين، عندما يقفون أمام المعادلة الإلهية التي لا تفرق بين الماضي والحاضر في أساس الثواب والعقاب، فإذا كان كفر أولئك سبباً في نزول العذاب، فإن كفر هؤلاء لن يكون بعيداً عن استحقاقهم لما استحقه أولئك الذين {جَآءتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} التي تفتح عقولهم بالحجة الواضحة والبرهان القاطع على الحقيقة من أقرب طريق، ودعوهم للإيمان على هذا الأساس ليفكروا ويتأملوا ويقتنعوا،
{فَرَدُّواْ أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ} تعبيراً عن الغيظ، فقد ذُكِر أن رد اليد إلى الفم يمثل مظهراً حيّاً للإعراض ولشدّة الغيظ، {وَقَالُواْ إِنَّا كَفَرْنَا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ}، لأننا لم نقتنع به بديلاً عن عقيدة الشرك لدى الاباء والأجداد،
{وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَنَآ إِلَيْهِ مُرِيبٍ}، بل إننا في شك يتزايد في مضمون الدعوة وشكلها وصاحبها، كلما امتدت الدعوة فينا... وقد نلاحظ أن هؤلاء يحاولون التهرُّب من خط الالتزام بمثل هذه الادّعاءات، لأن القضية لو كانت قضية الشك الجدّي في مضمون الدعوة، لكان من المفروض أن يقفوا ليدخلوا في تفاصيل العقيدة ومسائل الدعوة، ليثيروا علامات الاستفهام حول النقاط المثيرة للريب، الباعثة على الشك، ولكنهم تركوا القضية في دائرة الإبهام والغموض، ليثيروا الضباب، وليهربوا من حركة المسؤولية في خط الحوار. وهذا هو ديدن كثير ممن لا يريدون مواجهة الدعوة بمسؤولية فكراً وممارسة، فيلجؤون إلى الإيحاء بالشك من زاويةٍ فكرية يبحثون من خلالها عن اليقين، في حين أنهم ينطلقون من مواقع العناد الذي لا يريدون التعبير عنه بصراحة...