المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ كُتِبَ عَلَيۡكُمُ ٱلصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تَتَّقُونَ} (183)

183- وكما شرع الله لكم القصاص والوصية لصلاح مجتمعكم ، والحفاظ على أسركم ، شرع الله كذلك فريضة الصيام تهذيباً لنفوسكم ، وتقويماً لشهواتكم ، وتفضيلا لكم على الحيوان الأعجم الذي ينقاد لغرائزه وشهواته ، وكان فرض الصيام{[12]} عليكم مثل ما فرض على من سبقكم من الأمم ، فلا يشق عليكم أمره . لأنه فرض على الناس جميعاً ، وكان وجوب الصيام والقيام به ، لتتربى فيكم روح التقوى ، ويقوى وجدانكم ، وتتهذب نفوسكم .


[12]:علاوة على فوائد الصيام الروحية والتهذيبية، فقد أثبت الطب الحديث أن للصيام فوائد طبية عدة فهو يفيد في علاج كثير من الأمراض كضغط الدم المرتفع وتصلب الشرايين والبول السكري، يصلح الجهاز الهضمي وهبوط القلب والتهاب المفاصل، ويعطي الجسم والأنسجة فرصة للراحة والتخلص من كثير من الفضلات الضارة بالجسم، كما أنه وقاية من كثير من الأمراض المختلفة.
 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ كُتِبَ عَلَيۡكُمُ ٱلصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تَتَّقُونَ} (183)

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ }

يخبر تعالى بما منَّ به على عباده ، بأنه فرض عليهم الصيام ، كما فرضه على الأمم السابقة ، لأنه من الشرائع والأوامر التي هي مصلحة للخلق في كل زمان .

وفيه تنشيط لهذه الأمة ، بأنه ينبغي لكم أن تنافسوا غيركم في تكميل الأعمال ، والمسارعة إلى صالح الخصال ، وأنه ليس من الأمور الثقيلة ، التي اختصيتم بها .

ثم ذكر تعالى حكمته في مشروعية الصيام فقال : { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } فإن الصيام من أكبر أسباب التقوى ، لأن فيه امتثال أمر الله واجتناب نهيه .

فمما اشتمل عليه من التقوى : أن الصائم يترك ما حرم الله عليه من الأكل والشرب والجماع ونحوها ، التي تميل إليها نفسه ، متقربا بذلك إلى الله ، راجيا بتركها ، ثوابه ، فهذا من التقوى .

ومنها : أن الصائم يدرب نفسه على مراقبة الله تعالى ، فيترك ما تهوى نفسه ، مع قدرته عليه ، لعلمه باطلاع الله عليه ، ومنها : أن الصيام يضيق مجاري الشيطان ، فإنه يجري من ابن آدم مجرى الدم ، فبالصيام ، يضعف نفوذه ، وتقل منه المعاصي ، ومنها : أن الصائم في الغالب ، تكثر طاعته ، والطاعات من خصال التقوى ، ومنها : أن الغني إذا ذاق ألم الجوع ، أوجب له ذلك ، مواساة الفقراء المعدمين ، وهذا من خصال التقوى .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ كُتِبَ عَلَيۡكُمُ ٱلصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تَتَّقُونَ} (183)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ( 183 )

و { كتب } : معناه فرض . والصيام في اللغة الإمساك وترك التنقل من حالٍ إلى حال ، ومنه قول النابغة : [ البسيط ]

خَيْلٌ صِيَامٌ وَخَيْلٌ غَيْرُ صَائِمَةٍ . . . تَحْتَ العَجَاجٍ وَخَيْلٌ تَعْلِكُ اللُّجُمَا

أي خيل ثابتة ممسكة( {[1655]} ) ، ومنه قول الله تعالى : { إني نذرت للرحمن صوماً }( {[1656]} ) [ مريم : 26 ] أي إمساكاً عن الكلام ، ومنه قول امرىء القيس : [ الطويل ]

كأَنَّ الثُّريَّا عُلِّقَتْ في مَصَامها( {[1657]} ) . . . أي في موضع ثبوتها وامتساكها ، ومنه قوله( {[1658]} ) : [ الطويل ]

فَدَعْ ذَا وَسَلِّ الْهَمِّ عَنْكَ بِجَسْرَةٍ . . . ذَمُولٍ إِذَا صَامَ النَّهَارُ وَهَجَّرَا

أي وقفت الشمس عن الانتقال وثبتت ، والصيام في الشرع إمساك عن الطعام( {[1659]} ) والشراب مقترنة به قرائن من مراعاة أوقات وغير ذلك ، فهو من مجمل القرآن في قول الحذاق ، والكاف من قوله { كما } في موضع نصب على النعت ، تقديره كتباً كما ، أو صوماً كما( {[1660]} ) ، أو على الحال كأن الكلام : كتب علكيم الصيام مشبهاً ما كتب على الذين من قبلكم .

وقال بعض النحاة : الكاف في موضع رفع على النعت للصيام ، إذ ليس تعريفه بمحض لمكان الإجمال الذي فيه مما فسرته الشريعة ، فلذلك جاز نعته ب { كما } إذ لا تنعت بها إلا النكرات ، فهو بمنزلة كتب عليكم صيام ، وقد ضعف هذا القول( {[1661]} ) .

واختلف المتأولون في موضع التشبيه( {[1662]} ) ، فقال الشعبي وغيره : المعنى كتب عليكم رمضان كما كتب على النصارى ، قال : «فإنه كتب عليهم رمضان فبدلوه لأنهم احتاطوا له بزيادة يوم في أوله ويوم في آخره ، قرناً بعد قرن حتى بلغوه خمسين يوماً ، فصعب عليهم في الحر فنقلوه إلى الفصل الشمسي » .

قال النقاش : «وفي ذلك حديث عن دغفل بن حنظلة والحسن البصري والسدي »( {[1663]} ) ، وقيل : بل مرض ملك من ملوكهم فنذر إن برىء أن يزيد فيه عشرة أيام ، ثم آخر سبعة ، ثم آخر ثلاثة ، ورأوا أن الزايادة فيه حسنة بإزاء الخطأ في نقله( {[1664]} ) .

وقال السدي والربيع : التشبيه هو أن من الإفطار إلى مثله لا يأكل ولا يشرب ولا يطأ ، فإذا حان الإفطار فلا يفعل هذه الأشياء من نام ، وكذلك كان في النصارى أولاً ، وكان في أول الإسلام ، ثم نسخه الله بسبب عمر وقيس بن صرمة بما يأتي من الآيات في ذلك( {[1665]} ) .

وقال عطاء : «التشبيه كتب عليكم الصيام ثلاثة أيام من كل شهر - قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : وفي بعض الطرق : ويوم عاشوراء - كما كتب على الذين من قبلكم ثلاثة أيام من كل شهر ويوم عاشوراء ، ثم نسخ هذا في هذه الأمة بشهر رمضان » .

وقالت فرقة : التشبيه كتب عليكم كصيام بالإطلاق ، أي قد تقدم في شرع غيركم ، ف { الذين } عام في النصارى وغيرهم ، و { لعلكم } ترجّ في حقهم ، و { تتقون } قال السدي : معناه تتقون الأكل والشرب والوطء بعد النوم على قول من تأول ذلك( {[1666]} ) ، وقيل : تتقون على العموم ، لأن الصيام كما قال عليه السلام : «جنة » ووجاء( {[1667]} ) وسبب تقوى ، لأنه يميت الشهوات .


[1655]:- أي: عن الجري والحركة.
[1656]:- من الآية (26) من سورة مريم.
[1657]:- تمامه: ............................... بِأمْرَاسِ كَتَّـانٍ عَلَى صُمِّ جَنْــدَلِ مصامها: موضعها ومكانها – وفي رواية (مصابها) والمعنى واحد، وأمراس كتان هي: حبال محكمة الفتل مصنوعة من الكتان وهو النبات المعروف. وصم جندل: أي حجارة صمّاء.
[1658]:- أي امرئ القيس، والبيت من معلقته المشهورة التي قالها عند ذهابه إلى قيصر ملك الروم يستجير به، وأولها: سَمَا لَكَ شَوْقٌ بعْدَ ما كانَ أَقْصَــرَا وحَلَّت سُلَيْمَـى بَطْنَ ظَبْيٍ فَعَرْعَراً وقد روي البيت: "فدعها وسلّ الهمَّ إلخ" – والجسرة: الناقة العظيمة، والذمول: التي تسير سيرا لينا.
[1659]:- أي: وعن غير ذلك من كل ما يخل بالصيام من أنواع الشهوات والمحرمات.
[1660]:- في هذا بُعْد، من حيث تشبيه الصوم بالكتابة، لأن تشبيه الصوم بالكتابة لا يصح إن كانت مصدرية، وإن كانت موصولة ففيه تشبيه الصوم بالمصوم، وهو لا يصح إلا على تأويل بعيد – البحر المحيط 2-29.
[1661]:- نحو هذا ما قيل في قوله تعالى: [وآية لهم الليل نسلخ منه النهار] وهو خلاف ما تقرر في النحو من وجوب التوافق بين النعت والمنعوت، ولذا حكم ابن عطية رحمه الله بضعف هذا القول.
[1662]:- يعني في عدده ووقته، أو في فرضه ووجوبه، أو في صفته وكيفيته. أو في مطلق الصوم وعمومه.
[1663]:- رواه البخاري في التاريخ والطبراني.
[1664]:- يعني أنهم اعتبروا الزيادة فيه شافعة لهم في نقله عن وقته بسبب الحرارة.
[1665]:- عند قوله تعالى: [أحل لكم ليلة الصيام الرّفث إلى نسائكم] الآية، وقيس هذا موضع خلاف في اسمه: قيل: اسمه قيس بن صرمة – وقيل: أبو قيس بن صرمة – وقيل: صرمة بن قيس. راجع (الإصابة وأسد الغابة).
[1666]:- كانوا في أول الإسلام إذا حان الإفطار يأكلون ويشربون ويأتون النساء ما لم يناموا، فإذا ناموا امتنع عليهم الأكل والشرب، ثم إن رجلا من الأنصار كان يعمل صائما حتى أمسى فجاء إلى أهله فصلى العشاء ثم نام فلم يأكل ولم يشرب حتى أصبح فأصبح صائما فرآه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد جهد جهدا شديدا: فقال: (مالي آراك قد جهدت جهدا شديدا) قال: يا رسول الله، إني عملت أمس فجئت حين جئت فألقيت نفسي فنمت فأصبحت حين أصبحت صائما – وكان عمر رضي الله عنه قد أصاب من النساء بعد ما نام فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر له ذلك فأنزل الله قوله: [أُحلّ لكم ليلة الصيام الرّفث إلى نسائكم] الآية.
[1667]:- كلاهما في الصحيح في حديث أبي هريرة: (الصيام جنة)، وفي حديث ابن مسعود: (ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء).
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ كُتِبَ عَلَيۡكُمُ ٱلصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تَتَّقُونَ} (183)

حكم الصيام حكم عظيم من الأحكام التي شرعها الله تعالى للأمة ، وهو من العبادات الرامية إلى تزكية النفس ورياضتها ، وفي ذلك صلاح حال الأفراد فرداً فرداً ؛ إذ منها يتكون المجتمع . وفصلت الجملة عن سابقتها للانتقال إلى غرض آخر ، وافتتحت بيأيها الذين آمنوا لما في النداء من إظهار العناية بما سيقال بعده .

والقول في معنى كتب عليكم ودلالته على الوجوب تقدم آنفاً عند قوله تعالى : { كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيراً الوصية } [ البقرة : 180 ] الآية .

والصيام ويقال الصوم هو في اصطلاح الشرع : اسم لترك جميع الأكل وجميع الشرب وقربان النساء مدة مقدرة بالشرع بنية الامتثال لأمر الله أو لقصد التقرب بنذر للتقرب إلى الله .

والصيام اسم منقول من مصدر فعال وعينه واو قلبت ياء لأجل كسرة فاء الكلمة ، وقياس المصدر الصوم ، وقد ورد المصدران في القرآن ، فلا يطلق الصيام حقيقة في اللغة إلاّ على ترك كل طعام وشراب ، وألحق به في الإسلام ترك قربان كل النساء ، فلو ترك أحد بعض أصناف المأكول أو بعض النساء لم يكن صياماً كما قال العرجي :

فإنْ شِئتِ حَرَّمْتُ النساءَ سِوَاكُمُ *** وإِنْ شِئْتِ لَمْ أَطْعَمْ نُقَاخاً ولاَ بَرْدَا

وللصيام إطلاقات أخرى مجازية كإطلاقه على إمساك الخيل عن الجري في قول النابغة :

خَيْلٌ صِيامٌ وخيلٌ غيرُ صائمة *** تحْتَ العَجَاج وأُخْرى تَعْلكُ اللُّجُمَا

وأطلق على ترك شرب حمار الوحش الماء ، وقال لبيد يصف حمار الوحش وأتانه في إثر فصل الشتاء حيث لا تشرب الحمر ماء لاجتزائها بالمرعى الرطب :

حتى إِذا سَلَخَا جُمَادى سِتَّة *** جَزْءًا فطَال صيامُه وصِيامُها

والظاهر أن اسم الصوم في اللغة حقيقة في ترك الأكل والشرب بقصد القربة فقد عرف العرب الصوم في الجاهلية من اليهود في صومهم يوم عاشوراء كما سنذكره . وقول الفقهاء : إن الصوم في اللغة مطلق الإمساك ، وإن إطلاقه على الإمساك عن الشهوتين اصطلاح شرعي ، لا يصح ، لأنه مخالف لأقوال أهل اللغة كما في « الأساس » وغيره ، وأما إطلاق الصوم على ترك الكلام في قوله تعالى حكاية عن قول عيسى : { فقولي إني نذرت للرحمن صوماً فلن أكلم اليوم إنسياً } [ مريم : 26 ] فليس إطلاقاً للصوم على ترك الكلام ولكن المراد أن الصوم كان يتبعه ترك الكلام على وجه الكمال والفضل .

فالتعريف في الصيام في الآية تعريف العهد الذهني ، أي كتب عليكم جنس الصيام المعروف . وقد كان العرب يعرفون الصوم ، فقد جاء في « الصحيحين » عن عائشة قالت : « كان يومُ عاشُوراءَ يوماً تصومه قريش في الجاهلية » وفي بعض الروايات قولها : « وكان رسول الله يصومه » وعن ابن عباس

« لما هاجر رسول الله إلى المدينة وَجد اليهود يصومون يوم عاشوراء ، فقال ما هذا ، فقالوا : هذا يومٌ نجَّى الله فيه موسى ، فنحن نصومه فقال رسول الله : نحن أحق بموسى منكم فصام وأمر بصومه » فمعنى سؤاله هو السؤال عن مقصد اليهود من صومه لا تعرف أصل صومه ، وفي حديث عائشة « فلما نزل رمضان كان رمضان الفريضة وقال رسول الله من شاء صام يوم عاشوراء ومن شاء لم يصمه » فوجب صوم يوم عاشوراء بالسنة ثم نسخ ذلك بالقرآن فالمأمور به صوم معروف زيدت في كيفيته المعتبرة شرعاً قيودُ تحديد أحواله وأوقاته بقوله تعالى : { فالآن باشروهن } إلى قوله { حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر } [ البقرة : 187 ] وقوله { شهر رمضان } [ البقرة : 185 ] الآية ، { ومن كان مريضاً أو على سفر فعدةٌ من أيام أُخر } [ البقرة : 185 ] وبهذا يتبين أن في قوله : { كتب عليكم الصيام } إجمالاً وقع تفصيله في الآيات بعده .

فحصل في صيام الإسلام ما يخالف صيام اليهود والنصارى في قيود ماهية الصيام وكيفيتها ، ولم يكن صيامنا مماثلاً لصيامهم تمام المماثلة . فقوله : { كما كتب على الذين من قبلكم } تشبيه في أصل فرض ماهية الصوم لا في الكيفيات ، والتشبيهُ يكتفَى فيه ببعض وجوه المشابهة وهو وجه الشبه المراد في القصد ، وليس المقصود من هذا التشبيه الحوالةَ في صفة الصوم على ما كان عليه عند الأمم السابقة ، ولكن فيهم أغراضاً ثلاثة تضمنها التشبيه :

أحدها الاهتمام بهذه العبادة ، والتنويه بها لأنها شرعَها الله قبلَ الإسلام لمن كانوا قبل المسلمين ، وشرعها للمسلمين ، وذلك يقتضي اطِّراد صلاحها ووفرة ثوابها . وإنهاض همم المسلمين لتلقي هذه العبادة كي لا يتميز بها من كان قبلهم . إن المسلمين كانوا يتنافسون في العبادات كما ورد في الحديث « أنَّ نَاساً من أصحاب رسول الله قالوا يا رسول الله ذهب أهلُ الدُّثُور بالأجُور يُصلُّون كما نصلي ويصومون كما نصوم ويتصدقون بفضول أموالهم » الحديث ويحبون التفضيل على أهل الكتاب وقطع تفاخر أهل الكتاب عليهم بأنهم أهل شريعة قال تعالى : { أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا وإن كنا عن دراستهم لغافلين أو تقولوا لو أنا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم فقد جاءكم بينة من ربكم وهدى ورحمة } [ الأنعام : 156 ، 157 ] . فلا شك أنهم يغتبطون أمر الصوم وقد كان صومهم الذي صاموه وهو يوم عاشوراء إنما اقتدَوا فيه باليهود ، فهم في ترقب إلى تخصيصهم من الله بصوم أُنُفٍ ، فهذه فائدة التشبيه لأهل الهمم من المسلمين إذا ألحقهم الله بصالح الأمم في الشرائع العائدة بخير الدنيا والآخرة قال تعالى : { وفي ذلك فليتنافس المتنافسون } [ المطففين : 26 ] .

والغرض الثاني أن في التشبيه بالسابقين تهويناً على المكلفين بهذه العبادة أن يستثقلوا هذا الصوم ؛ فإن في الاقتداء بالغير أسوة في المصاعب ، فهذه فائدة لمن قد يستعظم الصوم من المشركين فيمنعه وجوده في الإسلام من الإيمان ولمن يستثقله من قريبى العهد بالإسلام ، وقد أكَّد هذا المعنى الضّمني قوله بعده : { أياماً معدودات } .

والغرض الثالث إثارة العزائم للقيام بهذه الفريضة حتى لا يكونوا مقصرين في قبول هذا الفرض بل ليأخذوه بقوة تفوق ما أدى به الأمم السابقة .

ووقع لأبي بكر بن العربي في « العارضة » قوله : « كانَ من قول مالِكٍ في كيفية صيامنا أنه كان مثل صيام مَن قبلنا وذلك معنى قوله : { كما كتب على الذين من قبلكم } ، وفيه بحث سنتعرض له عند تفسير قوله تعالى : { علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم } [ البقرة : 187 ] .

فهذه الآية شرعت وجوب صيام رمضان ، لأن فعل { كتب } يدل على الوجوب ، وابتداء نزول سورة البقرة كان في أول الهجرة كما تقدم فيكون صوم عاشوراء تقدم عاماً ثم فُرض رمضان في العام الذي يليه وفي « الصحيح » أن النبي صلى الله عليه وسلم صام تسع رمضانات فلا شك أنه صام أول رمضان في العام الثاني من الهجرة ويكون صوم عاشوراء قد فرض عاماً فقط وهو أول العام الثاني من الهجرة .

والمراد بالذين من قبلكم من كان قبل المسلمين من أهل الشرائع وهم أهل الكتاب أعني اليهود ؛ لأنهم الذين يعرفهم المخاطبون ويعرفون ظاهر شؤونهم وكانوا على اختلاط بهم في المدينة وكان لليهود صوم فرضه الله عليهم وهو صوم اليوم العاشر من الشهر السابع من سنتهم وهو الشهر المسمى عندهم ( تِسْرِي ) يبتدىء الصوم من غروب اليوم التاسع إلى غروب اليوم العاشر وهو يوم كفارة الخطايا ويسمونه ( كَبُّور ) ثم إن أحبارهم شرعوا صوم أربعة أيام أخرى وهي الأيام الأُوَل من الأَشْهرِ الرابعِ والخامِس والسابعِ والعاشِر من سنتهم تذكاراً لوقائع بيت المقدس وصوم يوم ( بُورِيمْ ) تذكاراً لنجاتهم من غصب ملك الأعاجم ( أحشويروش ) في واقعة ( استيرَ ) ، وعندهم صوم التطوع ، وفي الحديث : « أحب الصيام إلى الله صيامُ داود كان يصوم يوماً ويفطر يوماً » ، أَما النصارى فليس في شريعتهم نص على تشريع صوم زائد على ما في التوراة فكانوا يتبعون صوم اليهود وفي « صحيح مسلم » عن ابن عباس : « قالوا يا رسول الله إن يوم عاشوراء تعظمه اليهود والنصارى » ، ثم إن رهبانهم شرعوا صوم أربعين يوماً اقتداء بالمسيح ؛ إذ صام أربعين يوماً قبل بعثته ، ويُشرع عندهم نذر الصوم عند التوبة وغيرها ، إلاّ أنهم يتوسعون في صفة الصوم ، فهو عندهم ترك الأقوات القوية والمشروبات ، أو هو تناول طعام واحد في اليوم يجوز أن تلحقه أكلة خفيفة .

وقوله : { لعلكم تتقون } بيان لحكمة الصيام وما لأجله شرع ، فهو في قوة المفعول لأجله لكُتب . و ( لَعَل ) إما مستعارة لمعنى كي استعارة تبعية ، وإما تمثيلية بتشبيه شأن الله ؛ في إرادته من تشريع الصوم التقوى بحال المترجي من غيره فعلاً ما ، والتقوى الشرعية هي اتقاء المعاصي ، وإنما كان الصيام موجباً لاتقاء المعاصي ، لأن المعاصي قسمان ، قسم ينجع في تركه التفكر كالخمر والميسر والسرقة والغصْب فتركُه يحصل بالوعد على تركه والوعيد على فعله والموعظة بأحوال الغير ، وقسم ينشأ من دواع طبيعية كالأمور الناشئة عن الغضب وعن الشهوة الطبيعية التي قد يصعب تركها بمجرد التفكر ، فجعل الصيام وسيلة لاتقائها ، لأنه يُعَدِّل القوى الطبيعية التي هي داعية تلك المعاصي ، ليرتقي المسلم به عن حضيض الانغماس في المادة إلى أَوج العالَم الرُّوحاني ، فهو وسيلة للارتياض بالصفات الملكية والانتفاض من غبار الكدرات الحيوانية .

وفي الحديث الصحيح « الصَّوْمُ جُنَّة » أي وقاية ولما تُرك ذكر متعلَّق جُنَّة تعيَّن حمله على ما يصلح له من أصناف الوقاية المرغوبة ، ففي الصوم وقاية من الوقوع في المآثم ووقاية من الوقوع في عذاب الآخرة ، ووقاية من العِلل والأدْواء الناشئة عن الإفراط في تناول اللذات .