12- يا أيها الذين آمنوا : ابتعدوا عن كثير من ظن السوء بأهل الخير . إن بعض الظن إثم يستوجب العقوبة ، ولا تتبعوا عورات المسلمين ، ولا يذكر بعضكم بعضاً بما يكره في غيبته . أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً ، فقد كرهتموه ؟ ! فاكرهوا الغيبة فإنها مماثلة له ، وقوا أنفسكم عذاب الله بامتثال ما أمر ، واجتناب ما نهى . إن الله عظيم في قبول توبة التائبين ذو رحمة واسعة بالعالمين .
{ 12 } { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ }
نهى الله تعالى عن كثير من الظن السوء{[804]} بالمؤمنين ، ف { إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ } وذلك ، كالظن الخالي من الحقيقة والقرينة ، وكظن السوء ، الذي يقترن به كثير من الأقوال ، والأفعال المحرمة ، فإن بقاء ظن السوء بالقلب ، لا يقتصر صاحبه على مجرد ذلك ، بل لا يزال به ، حتى يقول ما لا ينبغي ، ويفعل ما لا ينبغي ، وفي ذلك أيضًا ، إساءة الظن بالمسلم ، وبغضه ، وعداوته المأمور بخلاف ذلك منه .
{ وَلَا تَجَسَّسُوا } أي : لا تفتشوا عن عورات المسلمين ، ولا تتبعوها ، واتركوا{[805]} المسلم على حاله ، واستعملوا التغافل عن أحواله{[806]} التي إذا فتشت ، ظهر منها ما لا ينبغي .
{ وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا } والغيبة ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : { ذكرك أخاك بما يكره ولو كان فيه }
ثم ذكر مثلاً منفرًا عن الغيبة ، فقال : { أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ } شبه أكل لحمه ميتًا ، المكروه للنفوس [ غاية الكراهة ] ، باغتيابه ، فكما أنكم تكرهون أكل لحمه ، وخصوصًا إذا كان ميتًا ، فاقد الروح ، فكذلك ، [ فلتكرهوا ] غيبته ، وأكل لحمه حيًا .
{ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ } والتواب ، الذي يأذن بتوبة عبده ، فيوفقه لها ، ثم يتوب عليه ، بقبول توبته ، رحيم بعباده ، حيث دعاهم إلى ما ينفعهم ، وقبل منهم التوبة ، وفي هذه الآية ، دليل على التحذير الشديد من الغيبة ، وأن الغيبة من الكبائر ، لأن الله شبهها بأكل لحم الميت ، وذلك من الكبائر .
ثم أمر تعالى المؤمنين باجتناب كثير من الظن . وأن لا يعملوا ولا يتكلموا بحسبه ، لما في ذلك وفي التجسس من التقاطع والتدابر . وحكم على بعضه بأنه { إثم } إذ بعضه ليس بإثم . ولا يلزم اجتنابه وهو ظن الخير بالناس وحسنه بالله تعالى . والمظنون من شهادات الشهود والمظنون به من أهل الشر . فإن ذلك سقوط عدالته وغير ذلك هي من حكم الظن به . وظن الخير بالمؤمن محمود والظن المنهي عنه : هو أن تظن سوءاً برجل ظاهره الصلاح . بل الواجب تنزيل الظن وحكمه وتتأول الخير . وقال بعض الناس : { إثم } معناه : كذب . ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم : «إياكم والظن ، فإن الظن أكذب الحديث »{[10475]} . وقال بعض الناس . معنى : { إن بعض الظن إثم } أي إذا تكلم الظان أثم . وما لم يتكلم فهو في فسحة . لأنه لا يقدر على دفع الخواطر التي يبيحها قول النبي صلى الله عليه وسلم : «الحزم سوء الظن »{[10476]} . وذكر النقاش عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى اله عليه وسلم أنه قال :( احترسوا من الناس بسوء الظن ){[10477]} .
قال القاضي أبو محمد : وما زال أولو العلم يحترسون من سوء الظن ويسدون ذرائعه .
قال سلمان الفارسي : إني لأعد عراق قِدْري{[10478]} مخافة الظن . وذكر النقاش عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : «احترسوا من الناس بسوء الظن . » وكان أبو العالية يختم على بقية طعامه مخافة سوء الظن بخادمه .
وقال ابن مسعود : الأمانة خير من الخاتم . والخاتم خير من ظن السوء .
وقوله : { ولا تجسسوا } أي لا تبحثوا على مخبآت أمور الناس وادفعوا بالتي هي أحسن . واجتزوا بالظواهر الحسنة .
وقرأ الحسن وأبو رجاء وابن سيرين والهذليون : «لا تحسسوا » بالحاء غير منقوطة . وقال بعض الناس : التجسس بالجيم في الشر . والتحسس بالحاء في الخير . وهكذا ورد القرآن ، ولكن قد يتداخلان في الاستعمال . وقال أبو عمرو بن العلاء : التجسس : ما كان من وراء وراء . والتحسس بالحاء : الدخول والاستعلام . وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : «ولا تجسسوا ولا تحسسوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخواناً »{[10479]} . وذكر الثعلبي حديث حراسة عمرو بن عوف ووجودهما الشرب في بيت ربيعة بن أمية بن خلف . وذكر أيضاً حديثه في ذلك مع أبي محجن الثقفي{[10480]} . وقال زيد بن وهب . قيل لابن مسعود : هل لك في الوليد بن عقبة تقطر لحيته خمراً ؟ فقال : إنا نهينا عن التحسس . فإن يظهر لنا شيء أخذنا به{[10481]} .
{ ولا يغتب } معناه : ولا يذكر أحدكم من أخيه شيئاً هو فيه يكره سماعه . وروي أن عائشة قالت عن امرأة : ما رأيت أجمل منها إلا أنها قصيرة ، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم : «اغتبتها ، نظرت إلى أسوأ ما فيها فذكرته »{[10482]} وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : «إذا ذكرت ما في أخيك فقد اغتبته . وإذا ذكرت ما ليس فيه فقد بهته »{[10483]} . وفي حديث آخر : «الغيبة أن تذكر المؤمن بما يكره » . قيل : وإن كان حقاً . قال : «إذا قلت باطلاً فذلك هو البهتان »{[10484]} . وقال معاوية بن قرة وأبو إسحاق السبيعي{[10485]} : إذا مر بك رجل اقطع . فقلت : ذلك الأقطع ، كان ذلك غيب . وحكى الزهراوي عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : «الغيبة أشد من الزنا ، لأن الزاني يتوب فيتوب الله عليه . والذي يغتاب يتوب فلا يتاب عليه حتى يستحل »{[10486]} .
قال القاضي أبو محمد : وقد يموت من اغتيب ، أو يأبى .
وروي أن رجلاً قال لابن سيرين : إني قد اغتبتك فحللني . فقال له ابن سيرين إني لا أحل ما حرم الله . والغيبة مشتقة من غاب يغيب . وهي القول في الغائب واستعملت في المكروه . ولم يبح في هذا المعنى إلا ما تدعو الضرورة إليه من تجريح في الشهود وفي التعريف لمن استنصح في الخطاب ونحوهم لقول النبي صلى الله عليه وسلم :
«أما معاوية فصعلوك لا مال له »{[10487]} . وما يقال في الفسقة أيضاً وفي ولاة الجور ويقصد به التحذير منه . ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم : «أعن الفاجر ترعون ؟ اذكروا الفاجر بما فيه حتى يعرفه الناس إذا لم تذكروه »{[10488]} ومنه قوله صلى الله عليه وسلم : «بئس ابن العشيرة »{[10489]} . ثم مثل تعالى الغيبة بأكل لحم ابن آدم الميت ، والعرب تشبه الغيبة بأكل اللحم . فمنه قول الشاعر [ سويد بن أبي كاهل اليشكري ] : [ الرمل ]
فإذا لاقيته عظّمني . . . وإذا يخلو له لحمي رتع{[10490]}
ومنه قول الآخر : [ المقنع الكندي ] .
وإن أكلوا لحمي وفرت لحومهم . . . وإن هدموا مجدي بنيت لهم مجدا{[10491]}
فوقفهم الله تعالى على جهة التوبيخ بقوله : { أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً } فالجواب عن هذا : لا . وهم في حكم من يقولها . فخوطبوا على أنهم قالوا لا . فقيل لهم : { فكرهتموه } وبعد هذا مقدر تقديره : فكذلك فاكرهوا الغيبة التي هي نظير ذلك . وعلى هذا المقدر يعطف قوله : { واتقوا الله } قاله أبو علي الفارسي . وقال الرماني : كراهية هذا اللحم يدعو إليها الطبع . وكراهية الغيبة يدعو إليها العقل . وهو أحق أن يجاب . لأنه بصير عالم . والطبع أعمى جاهل .
وقرأ الجمهور : «ميْتاً » بسكون الياء . وقرأ نافع وابن القعقاع وشيبة ومجاهد : «ميِّتاً » بكسرها والشد . وقرأ أبو حيوة : «فكُرّهتموه » بضم الكاف وشد الراء .
ورواها أبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم . ثم أعلم بأنه { تواب رحيم } إبقاء منه تعالى وإمهالاً وتمكيناً من التوبة .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: يا أيها الذين صدّقوا الله ورسوله، لا تقربوا كثيرا من الظنّ بالمؤمنين، وذلك أن تظنوا سوءا، فإن الظانّ غير محقّ، وقال جلّ ثناؤه:"اجْتَنِبُوا كَثِيرا مِنَ الظّنّ "ولم يقل: الظنّ كله، إذ كان قد أذِن للمؤمنين أن يظنّ بعضهم ببعض الخير، فقال: "لَوْلا إذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنّ المُؤْمنُونَ وَالمُؤْمِناتَ بُأنْفُسِهِمْ خَيْرا وَقالُوا هَذَا إفْكٌ مُبِينٌ" فأذن الله جلّ ثناؤه للمؤمنين أن يظنّ بعضهم ببعض الخير وأن يقولوه، وإن لم يكونوا من قيله فيهم على يقين... وقوله: "إنّ بَعْضَ الظّنّ إثْمٌ" يقول: إن ظنّ المؤمن بالمؤمن الشرّ لا الخير إثم، لأن الله قد نهاه عنه، ففعل ما نهى الله عنه إثم.
وقوله: "وَلا تَجَسّسُوا" يقول: ولا يتتبع بعضكم عورة بعض، ولا يبحث عن سرائره، يبتغي بذلك الظهور على عيوبه، ولكن اقنعوا بما ظهر لكم من أمره، وبه فاحمدوا أو ذموا، لا على ما لا تعلمونه من سرائره...
وقوله: "ولا يغتب بعضكم بعضا" يقول: ولا يقل بعضكم في بعض بظهر الغيب ما يكره المقول فيه ذلك أن يقال له في وجهه... حدثني يزيد بن مخلد الواسطيّ، قال: حدثنا خالد بن عبد الله الطحان، عن عبد الرحمن بن إسحاق، عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة، قال: سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الغيبة، فقال: «هُوَ أنْ تَقُولَ لأخِيكَ ما فِيهِ، فإنْ كُنْتَ صَادِقا فَقَدِ اغْتَبْتَه، وَإنْ كُنْتَ كاذِبا فَقَدْ بَهَتّهُ»...
وقوله "أَيُحِبّ أحَدُكُمْ أنْ يأْكُلَ لَحْمَ أخِيهِ مَيْتا فَكَرِهْتُمُوهُ" يقول تعالى ذكره للمؤمنين أيحبّ أحدكم أيها القوم أن يأكل لحم أخيه بعد مماته ميتا، فإن لم تحبوا ذلك وكرهتموه، لأن الله حرّم ذلك عليكم، فكذلك لا تحبوا أن تغتابوه في حياته، فاكرهوا غيبته حيا، كما كرهتم لحمه ميتا، فإن الله حرّم غيبته حيا، كما حرّم أكل لحمه ميتا...
وقوله: "وَاتّقُوا اللّهَ إنّ اللّهَ تَوّابٌ رَحِيمٌ" يقول تعالى ذكره: فاتقوا الله أيها الناس، فخافوا عقوبته بانتهائكم عما نهاكم عنه من ظنّ أحدكم بأخيه المؤمن ظنّ السوء، وتتبع عوراته، والتجسس عما ستر عنه من أمره، واغتيابه بما يكرهه، تريدون به شينه وعيبه، وغير ذلك من الأمور التي نهاكم عنها ربكم، "إنّ اللّهَ تَوّابٌ رَحِيمٌ" يقول: إن الله راجع لعبده إلى ما يحبه إذا رجع العبد لربه إلى ما يحبه منه، رحيم به بأن يعاقبه على ذنب أذنبه بعد توبته منه.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{اجتنبوا كثيرا من الظن} كأنه نهى أن يحقَّق القول أو العمل في صاحبه بسوء على ظاهر الأسباب التي هي على شرف الزوال وطرف الانتقال، يجوز أن تكون غير محقّقة في الأصل أو زائلة، والله أعلم. ثم في الآية دليل على أنه ليس كل ظن يُجتنب عنه، ولا كل الظن يكون إثما لأنه استثنى منه بعضه بقوله: {إن بعض الظن} فجائز أن يكون ما استثنى من الظن، ولا يُؤمَن بالاجتناب عنه، هو ما تغلب عليه الأسباب، وغالب الأسباب ربما يعمل عمل العلم واليقين بحق المُكره على شيء يرخّص له، ويباح العمل إذا رأى من ظاهر حال المكروه أنه فاعل به ما أوعده، وإن كان يجوز ألا يفعل به، أو لا يقدر على ما أوعده. وعلى ذلك موضوع عامة الأحكام والشرائع بين الخلق أنها على غالب الظن وُضعت، ليس على التحقيق، والله أعلم. ويحتمل أن يرجع ما استثنى من الظن القليل الذي لا إثم فيه إلى الظن الحسن؛ إذ يجوز أن يظن الإنسان الظن الحسن، ولا إثم فيه. إنما الأمر بالاجتناب إلى الظن بالسوء على غير تحقُّق أسباب أو غير تحقّق غير ذاك، والله أعلم. وقوله تعالى: {ولا تجسّسوا} التّجسُّس، هو تكلف طلب المساوئ في الناس من غير أن يظهر منهم من أسبابها شيء. فنهى عن تكلّف طلب ذلك أو عن الإظهار، وأمر بالسّتر...
أحكام القرآن لإلكيا الهراسي 504 هـ :
{اجْتَنِبُوا كثيراً منَ الظَّنِ إنَّ بَعْضَ الظّنِّ إثْمٌ}: يدل على أنه لم ينه عن جميعه. ففي الظنون ما هو محظور، مثل سوء الظن بالله تعالى، وسوء الظن بالمسلمين الذين ظاهرهم العدالة. وكل ظن استند العلم به إلى دليل يقيني، فالعمل به واجب...
جهود الإمام الغزالي في التفسير 505 هـ :
{ولا تجسسوا} فالغيبة وسوء الظن والتجسس منهي عنه في آية واحدة. ومعنى التجسس: أن لا يترك عباد الله تحت ستر الله، فيتوصل إلى الاطلاع وهتك الستر حتى ينكشف له ما لو كان مستورا عنه كان أسلم لقلبه ودينه. (الإحياء: 3/161) يكفيك زجرا عن الغيبة قوله تعالى: {ولا يغتب بعضكم بعضا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه} فقد شبهك الله بآكل لحم الميتة، فما أجدرك أن تحترز منها. (بداية الهداية ضمن المجموعة رقم 6 ص: 63).
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{إِنَّ بَعْضَ الظن إِثْمٌ}؟ فإن قلت: بَيِّن الفصل بيْنَ {كَثِيراً}، حيث جاء نكرة وبينه لو جاء معرفة. قلت: مجيئه نكرة يفيد معنى البعضية، وإنّ في الظنون ما يجب أن يجتنب من غير تبيين لذلك ولا تعيين. لئلا يجترئ أحد على ظنّ إلا بعد نظر وتأمّل، وتمييز بين حقه وباطله بأمارة بينة، مع استشعار للتقوى والحذر؛ ولو عرف لكان الأمر باجتناب الظنّ منوطاً بما يكثر من دون ما يقل، ووجب أن يكون كل ظنّ متصف بالكثرة مجتنباً، وما اتصف منه بالقلة مرخصاً في تظننه. والذي يميز الظنون التي يجب اجتنابها عما سواها: أنّ كل ما لم تعرف له أمارة صحيحة وسبب ظاهر كان حراماً واجب الاجتناب؛ وذلك إذا كان المظنون به ممن شوهد منه الستر والصلاح، وأونست منه الأمانة في الظاهر، فظنّ الفساد والخيانة به محرّم، بخلاف من اشتهره الناس بتعاطي الريب والمجاهرة بالخبائث...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{ولا تجسسوا} أي لا تبحثوا على مخبآت أمور الناس وادفعوا بالتي هي أحسن، واجتزوا بالظواهر الحسنة...
{إن بعض الظن إثم} إشارة إلى الأخذ بالأحوط كما أن الطريق المخوفة لا يتفق كل مرة فيه قاطع طريق، لكنك لا تسلك لاتفاق ذلك فيه مرة ومرتين، إلا إذا تعين فتسلكه مع رفقة كذلك الظن ينبغي بعد اجتهاد تام ووثوق بالغ. قوله تعالى: {ولا تجسسوا} إتماما لما سبق لأنه تعالى لما قال: {اجتنبوا كثيرا من الظن} فهم منه أن المعتبر اليقين...
{ولا يغتب بعضكم بعضا} إشارة إلى وجوب حفظ عرض المؤمن في غيبته وفيه معان؛
(أحدها) في قوله تعالى: {بعضكم بعضا} فإنه للعموم في الحقيقة...
{بعضكم بعضا} وأما الكافر فيعلن ويذكر بما فيه وكيف لا والفاسق يجوز أن يذكر بما فيه عند الحاجة...
{أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا} دليل على أن الاغتياب الممنوع اغتياب المؤمن لا ذكر الكافر، وذلك لأنه شبهه بأكل لحم الأخ، وقال من قبل {إنما المؤمنون إخوة} فلا أخوة إلا بين المؤمنين، ولا منع إلا من شيء يشبه أكل لحم الأخ ففي هذه الآية نهى عن اغتياب المؤمن دون الكافر.
(رابعها) ما الحكمة في هذا التشبيه؟ نقول هو إشارة إلى أن عرض الإنسان كدمه ولحمه، وهذا من باب القياس الظاهر، وذلك لأن عرض المرء أشرف من لحمه، فإذا لم يحسن من العاقل أكل لحوم الناس لم يحسن منه قرض عرضهم بالطريق الأولى لأن ذلك آلم، وقوله {لحم أخيه} آكد في المنع لأن العدو يحمله الغضب على مضغ لحم العدو...
وفيه معنى: وهو أن الاغتياب كأكل لحم الآدمي ميتا، ولا يحل أكله إلا للمضطر بقدر الحاجة، والمضطر إذا وجد لحم الشاة الميتة ولحم الآدمي الميت فلا يأكل لحم الآدمي، فكذلك المغتاب أن وجد لحاجته مدفعا غير الغيبة فلا يباح له الاغتياب...
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :
ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث ولا تحسسوا ولا تجسسوا ولا تناجشوا ولا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخوانا) لفظ البخاري. قال علماؤنا: فالظن هنا وفي الآية هو التهمة. ومحل التحذير والنهي إنما هو تهمة لا سبب لها يوجبها، كمن يتهم بالفاحشة أو بشرب الخمر مثلا ولم يظهر عليه ما يقتضي ذلك. ودليل كون الظن هنا بمعنى التهمة قوله تعالى: "ولا تجسسوا " وذلك أنه قد يقع له خاطر التهمة ابتداء ويريد أن يتجسس خبر ذلك ويبحث عنه، ويتبصر ويستمع لتحقيق ما وقع له من تلك التهمة. فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك...
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
يقول تعالى ناهيا عباده المؤمنين عن كثير من الظن، وهو التهمة والتخون للأهل والأقارب والناس في غير محله؛ لأن بعض ذلك يكون إثما محضا، فليجتنب كثير منه احتياطا...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{اجتنبوا} أي كلفوا أنفسكم أن تتركوا وتبعدوا وتجعلوا في جانب بعيد عنكم {كثيراً من الظن} أي في الناس وغيرهم فاحتاطوا في كل ظن ولا تمادوا معه حتى تجزموا به فتقدموا بسببه على ما يقتضيه من الشر إلا بعد التبين لحقه من باطله بأن يظهر عليه أمارة صحيحة وسبب ظاهر...
{إن بعض الظن إثم} أي ذنب يوصل صاحبه لاستحقاق العقوبة كالظن في أصول الدين، وحيث يخالفه قاطع،... ولما نهى عن اتباع الظن، أتبعه ما يتفرع عنه فقال: {ولا تجسسوا} أي تمعنوا في البحث عن العورات ولا يكون ذلك إلا في المستورين. ولما كانت الغيبة أعم من التجسس.
قال: {ولا يغتب} أي يتعمد أن يذكر {بعضكم بعضاً} في غيبته بما يكره...
{أيحب} وعم بقوله: {أحدكم} وعبر بأن والفعل تصويراً للفعل فقال: {أن يأكل} وزاد في التنفير بجعله في إنسان هو أخ فقال: {لحم أخيه} وأنهى الأمر بقوله: {ميتاً}. ولما كان الجواب قطعاً: لا يحب أحد ذلك، أشار إليه بما سبب من قوله: {فكرهتموه} أي بسب ما ذكر طبعاً فأولى أن تكرهوا الغيبة المحرمة عقلاً، لأن داعي العقل بصير عالم، وداعي الطبع أعمى جاهل، وقد رتب سبحانه هذه الحكم أبدع ترتيب، فأمر سبحانه بالتثبت...
{واتقوا الله} أي اجعلوا بينكم وبين الملك الأعظم وقاية بترك ذلك وإصلاح ذات البين... {إن الله} أي الملك الأعظم {تواب} أي مكرر للتوبة، وهي الرجوع عن المعصية إلى ما- كان قبلها من معاملة التائب وإن كرر الذنب، فلا ييأس أحد وإن كثرت ذنوبه وعظمت {رحيم} يزيده على ذلك أن يكرمه غاية الإكرام...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
{إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} وذلك، كالظن الخالي من الحقيقة والقرينة، وكظن السوء، الذي يقترن به كثير من الأقوال، والأفعال المحرمة، فإن بقاء ظن السوء بالقلب، لا يقتصر صاحبه على مجرد ذلك، بل لا يزال به، حتى يقول ما لا ينبغي، ويفعل ما لا ينبغي، وفي ذلك أيضًا، إساءة الظن بالمسلم، وبغضه، وعداوته المأمور بخلاف ذلك منه.
{وَلَا تَجَسَّسُوا} أي: لا تفتشوا عن عورات المسلمين، ولا تتبعوها، واتركوا المسلم على حاله، واستعملوا التغافل عن أحواله التي إذا فتشت، ظهر منها ما لا ينبغي.
{وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} والغيبة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: {ذكرك أخاك بما يكره ولو كان فيه} ثم ذكر مثلاً منفرًا عن الغيبة، فقال: {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ} شبه أكل لحمه ميتًا، المكروه للنفوس [غاية الكراهة]، باغتيابه، فكما أنكم تكرهون أكل لحمه، وخصوصًا إذا كان ميتًا، فاقد الروح، فكذلك، [فلتكرهوا] غيبته، وأكل لحمه حيًا.
{وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ} والتواب، الذي يأذن بتوبة عبده، فيوفقه لها، ثم يتوب عليه، بقبول توبته، رحيم بعباده، حيث دعاهم إلى ما ينفعهم، وقبل منهم التوبة، وفي هذه الآية، دليل على التحذير الشديد من الغيبة، وأن الغيبة من الكبائر، لأن الله شبهها بأكل لحم الميت، وذلك من الكبائر.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
فأما هذه الآية فتقيم سياجا آخر في هذا المجتمع الفاضل الكريم، حول حرمات الأشخاص به وكراماتهم وحرياتهم، بينما هي تعلم الناس كيف ينظفون مشاعرهم وضمائرهم، في أسلوب مؤثر عجيب...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
والمراد ب {الظن} هنا: الظن المتعلق بأحوال الناس...وجملة {إن بعض الظن إثم} استئناف بياني لأن قوله: {اجتنبوا كثيراً من الظن} يستوقف السامع ليتطلب البيان...
لأنها أنواع كثيرة فنبه على عاقبتها وتُرك التفصيل لأن في إبهامه بعثاً على مزيد الاحتياط. ومعنى كونه إثماً أنه: إمّا أن ينشأ على ذلك الظن عمل أو مجرد اعتقاد، فإن كان قد ينشأ عليه عمل من قول أو فعل كالاغتياب والتجسس وغير ذلك فليقدِّر الظانّ أن ظنه كاذب ثم لينظر بعدُ في عمله الذي بناه عليه فيجده قد عامل به من لا يستحق تلك المعاملة من اتهامه بالباطل فيأثم مما طوى عليه قلبه لأخيه المسلم...
. وإن لم ينشأ عليه إلا مجرد اعتقاد دون عمل فليقدِّر أن ظنه كان مخطئاً يجد نفسه قد اعتقد في أحد ما ليس به... وقد علم من قوله: {كثيراً من الظن} وتبيينِه بأن بعض الظن إثم أن بعضاً من الظن ليس إثماً وأنا لم نؤمر باجتناب الظن الذي ليس بإثم لأن {كثيراً} وصف، فمفهوم المخالفة منه يدلّ على أن كثيراً من الظنّ لم نؤمر باجتنابه وهو الذي يبينه {إن بعض الظن إثم} أي أن بعض الظن ليس إثماً، فعلى المُسلم أن يكون معيارُه في تمييز أحد الظنين من الآخر أن يعرضه على ما بينته الشريعة في تضاعيف أحكامها من الكتاب والسنة وما أجمعت عليه علماء الأمة وما أفاده الاجتهاد الصحيح وتتبع مقاصد الشريعة...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
وهذه القاعدة تضمن للمجتمع استقراره النفسي، عندما يعيش أفراده الشعور بأنهم لا يواجهون الأحكام أو الانطباعات السلبية البعيدة عن الدقّة من قبل الآخرين، وعندما يتوخى المؤمنون الدقّة في دراسة الحيثيات الموثوقة، في ما يحكمون به على الناس أو ما يحملونه من انطباعاتٍ عنهم...