13- واذكر حين قالت طائفة من المنافقين وضعاف العزائم : يا أهل المدينة ، لا وجه لبقائكم هنا في معركة خاسرة ، فارجعوا إلى منازلكم . ويستأذن فريق منهم الرسول في الرجوع إلى المدينة ، ويقولون إن بيوتنا غير محصنة ، ولا بد لنا من الرجوع لحراستها ، وما كانت بيوتهم معرضة كما يقولون ، وما يريدون إلا الفرار من المعركة بهذا العذر الكاذب .
{ وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ } من المنافقين ، بعد ما جزعوا وقلَّ صبرهم ، وصاروا أيضًا من المخذولين ، فلا صبروا بأنفسهم ، ولا تركوا الناس من شرهم ، فقالت هذه الطائفة : { يَا أَهْلَ يَثْرِبَ } يريدون { يا أهل المدينة } فنادوهم باسم الوطن المنبئ [ عن التسمية ]{[693]} فيه إشارة إلى أن الدين والأخوة الإيمانية ، ليس له في قلوبهم قدر ، وأن الذي حملهم على ذلك ، مجرد الخور الطبيعي .
{ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ } أي : في موضعكم الذي خرجتم إليه خارج المدينة ، وكانوا عسكروا دون الخندق ، وخارج المدينة ، { فَارْجِعُوا } إلى المدينة ، فهذه الطائفة تخذل عن الجهاد ، وتبين أنهم لا قوة لهم بقتال عدوهم ، ويأمرونهم بترك القتال ، فهذه الطائفة ، شر الطوائف وأضرها ، وطائفة أخرى دونهم ، أصابهم الجبن والجزع ، وأحبوا أن ينخزلوا عن الصفوف ، فجعلوا يعتذرون بالأعذار الباطلة ، وهم الذين قال اللّه فيهم : { وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ } أي : عليها الخطر ، ونخاف عليها أن يهجم عليها الأعداء ، ونحن غُيَّبٌ عنها ، فَأْذَنْ لنا نرجع إليها ، فنحرسها ، وهم كذبة في ذلك .
{ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ } أي : ما قصدهم { إِلَّا فِرَارًا } ولكن جعلوا هذا الكلام ، وسيلة وعذرًا . [ لهم ]{[694]} فهؤلاء قل إيمانهم ، وليس له ثبوت عند اشتداد المحن .
{ وإذ قالت طائفة منهم } يعني أوس بن قيظي وأتباعه . { يا أهل يثرب } أهل المدينة ، وقيل هو اسم ارض وقعت المدينة في ناحية منها . { لا مقام } لا موضع قيام . { لكم } ها هنا ، وقرأ حفص بالضم على انه مكان أو مصدر من أقام . { فارجعوا } إلى منازلكم هاربين ، وقيل المعنى لا مقام لكم على دين محمد فارجعوا إلى الشرك وأسلموه لتسلموا ، أو لا مقام لكم بيثرب فارجعوا كفارا ليمكنكم المقام بها . { ويستأذن فريق منهم النبي } للرجوع . { يقولون أن بيوتنا عورة } غير حصينة وأصلها الخلل ، ويجوز أن يكون تخفيف العورة من عورت الدار إذا اختلت وقد قرئ بها . { وما هي بعورة } بل هي حصينة . { إن يريدون إلا فرارا } أي وما يريدون بذلك إلا الفرار من القتال .
قوله { لا مقام لكم } قرأه الجمهور بفتح الميم وهو اسم لمكان القيام ، أي : الوجود . وقرأه حفص عن عاصم بضم الميم ، أي : محلّ الإقامة . والنفي هنا بمعنى نفي المنفعة فلما رأى هذا الفريق قلة جدوى وجودهم جعلها كالعدم ، أي لا فائدة لكم في ذلك ، وهو يروم تخذيل الناس كما فعل يوم أُحُد .
و { يثرب } : اسم مدينة الرسول ، وقال أبو عبيدة يثرب : اسم أرض والمدينة في ناحية منها ، أي : اسم أرض بما فيها من الحوائط والنخل والمدينة في تلك الأرض . سميت باسم يثرب من العمالقة ، وهو يثرب بن قانية الحفيد الخامس لإرَم بن سام بن نوح . وقد روي عن البراء بن عازب وابن عباس أن النبي نهى عن تسميتها يثرب وسماها طَابة .
وفي قوله { يا أهل يثرب لا مقام لكم } محسِّنٌ بديعيّ ، وهو الاتِزان لأن هذا القول يكون منه مصراع من بحر السريع من عَروضه الثانية المخبُولة المكشوفة إذ صارت مفعولات بمجموع الخبل والكشف إلى فَعَلن فوزنه مستفعلن مستفعلن فَعَلن .
والمراد بقوله { فريق منهم } جماعة من المنافقين والذين في قلوبهم مرض ، وليسوا فريقاً من الطائفة المذكورة آنفاً ، بل هؤلاء هم أوس بن قيظي وجمع من عشيرته بني حارثة وكان بنو حارثة أكثرهم مسلمين وفيهم منافقون ، فجاء منافقوهم يعتذرون بأن منازلهم عورة ، أي : غير حصينة .
وجملة { ويستأذن فريق } عطف على جملة { قالت طائفة } ، وجيء فيها بالفعل المضارع للإشارة إلى أنهم يلِحُّون في الاستئذان ويكررونه ويجددونه .
والعورة : الثغر بين الجبلين الذي يتمكن العدو أن يتسرب منه إلى الحي ، قال لبيد :
وأجَنَّ عوراتِ الثغورِ ظَلامُها
والاستئذان : طلب الإذن وهؤلاء راموا الانخذال واستحيَوا . ولم يذكر المفسرون أن النبي صلى الله عليه وسلم أذن لهم . وذكر أهل السير أن ثمانين منهم رجعوا دون إذنه . وهذا يقتضي أنه لم يأذن لهم وإلا لما ظهر تميزهم عن غيرهم ، وأيضاً فإن في الفعل المضارع من قوله { يستأذن } إيماء إلى أنه لم يأذن لهم وستَعلم ذلك ، ومنازل بني حارثة كانت في أقصى المدينة قرب منازل بني سَلِمة فإنهما كانا حيين متلازمين قال تعالى : { إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا } [ آل عمران : 122 ] هما بنو حارثة وبنو سلمة في غزوة أُحُد . وفي الحديث : أن بني سَلِمة راموا أن ينقلوا منازلهم قرب المسجد فقال النبي صلى الله عليه وسلم « يا بني سلمة ألا تحتسبون آثاركم » أي خُطاكم . فهذا الفريق منهم يعتلُّون بأن منازلهم بعيدة عن المدينة وآطامها .
والتأكيد بحرف { إنَّ } في قولهم { إن بيوتنا عورة } تمويه لإظهار قولهم { بيوتنا عورة } في صورة الصدق . ولما علموا أنهم كاذبون وأن النبي صلى الله عليه وسلم يعلم كذبهم جعلوا تكذيبه إياهم في صورة أنه يشك في صدقهم فأكدوا الخبر .
وجملة { وما هي بعورة إلى قوله مسؤول } [ الأحزاب : 15 ] معترضة بين جملة { يستأذن فريق منهم } الخ وجملة { لنينفعكم الفرار } [ الأحزاب : 16 ] . فقوله : { وما هي بعورة } تكذيب لهم فإن المدينة كانت محصنة يومئذ بخندق وكان جيش المسلمين حارسها . ولم يقرن هذا التكذيب بمؤكد لإظهار أن كذبهم واضح غير محتاج إلى تأكيد .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.