{ قَالَ } الله مجيبا لدعوة موسى : { فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ } أي : إن من عقوبتهم أن نحرم عليهم دخول هذه القرية التي كتبها الله لهم ، مدة أربعين سنة ، وتلك المدة أيضا يتيهون في الأرض ، لا يهتدون إلى طريق ولا يبقون مطمئنين ، وهذه عقوبة دنيوية ، لعل الله تعالى كفر بها عنهم ، ودفع عنهم عقوبة أعظم منها ، وفي هذا دليل على أن العقوبة على الذنب قد تكون بزوال نعمة موجودة ، أو دفع نقمة قد انعقد سبب وجودها أو تأخرها إلى وقت آخر .
ولعل الحكمة في هذه المدة أن يموت أكثر هؤلاء الذين قالوا هذه المقالة ، الصادرة عن قلوب لا صبر فيها ولا ثبات ، بل قد ألفت الاستعباد لعدوها ، ولم تكن لها همم ترقيها إلى ما فيه ارتقاؤها وعلوها ، ولتظهر ناشئة جديدة تتربى عقولهم على طلب قهر الأعداء ، وعدم الاستعباد ، والذل المانع من السعادة .
ولما علم الله تعالى أن عبده موسى في غاية الرحمة على الخلق ، خصوصا قومه ، وأنه ربما رق لهم ، واحتملته الشفقة على الحزن عليهم في هذه العقوبة ، أو الدعاء لهم بزوالها ، مع أن الله قد حتمها ، قال : { فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ } أي : لا تأسف عليهم ولا تحزن ، فإنهم قد فسقوا ، وفسقهم اقتضى وقوع ما نزل بهم لا ظلما منا .
{ قال فإنها } فإن الأرض المقدسة . { محرمة عليهم } لا يدخلونها ولا يملكونها بسبب عصيانهم . { أربعين سنة يتيهون في الأرض } عامل الظرف إما محرمة فيكون التحريم مؤقتا غير مؤبد فلا يخالف ظاهر قوله { التي كتب الله لكم } ، ويؤيد ذلك ما روي : أن موسى عليه الصلاة والسلام سار بعده بمن بقي من بني إسرائيل ففتح أريحاء ، وأقام بها ما شاء الله ثم قبض وقيل : إنه قبض في التيه ولما احتضر أخبرهم بأن يوشع بعده نبي وأن الله سبحانه وتعالى أمره بقتال الجبابرة ، فسار بهم يوشع وقتل الجبابرة وصار الشام كله لبني إسرائيل ، وإما يتيهون أي يسيرون فيها متحيرين لا يرون طريقا فيكون التحريم مطلقا ، وقد قيل لم يدخل الأرض المقدسة أحد ممن قال إنا لن ندخلها بل هلكوا في التيه ، وإنما قاتل الجبابرة أولادهم . روي : أنهم لبثوا أربعين سنة في ستة فراسخ يسيرون من الصباح إلى المساء ، فإذا هم بحيث ارتحلوا عنه ، وكان الغمام يظلهم من الشمس وعمود من نور يطلع بالليل فيضيء لهم ، وكان طعامهم المن والسلوى وماؤهم من الحجر الذي يحملونه ، والأكثر على أن موسى وهارون كانا معهم في التيه إلا أنه كان ذلك روحا لهما وزيادة في درجتهما ، وعقوبة لهم ، وأنهما ماتا فيه مات هارون ، وموسى بعده بسنة . ثم دخل يوشع أريحاء بعد ثلاثة أشهر ومات النقباء فيه بغتة غير كالب ويوشع . { فلا تأس على القوم الفاسقين } خاطب به موسى عليه الصلاة والسلام لما ندم على الدعاء عليهم وبين أنهم أحقاء بذلك لفسقهم .
قوله الله تعالى له : { فإنّها محرّمة عليهم أربعين سنة } الخ جواب عن قول موسى { فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين } ، وهو جواب جامع لجميع ما تضمّنه كلام موسى ، لأنّ الله أعلم موسى بالعقاب الذي يصيب به الّذين عصوا أمره ، فسكن هاجس خوفه أن يصيبهم عذاب يعمّ الجميع ، وحصل العقاب لهم على العصيان انتصاراً لموسى . فإن قلت : هذا العقاب قد نال موسى منه ما نال قومَه ، فإنّه بقي معهم في التِيه حتّى توفّي . قلت : كان ذلك هَيِّناً على موسى لأنّ بقاءه معهم لإرشادهم وصلاحهم وهو خصّيصة رسالته ، فالتعب في ذلك يزيده رفع درجة ، أمَّا هم فكانوا في مشقّة .
{ يتيهون } يضلّون ، ومصدره التَّيْه بفتح التّاء وسكون الياء والتيه بكسر التّاء وسكون التحتية . وسمّيت المفازة تيهاء وسمّيت تِيهاً . وقد بقي بنو إسرائيل مقيمين في جهات ضيّقة ويسيرون الهوينا على طريق غير منتظم حتّى بلغوا جبل ( نيبُو ) على مقربَة من نهر ( الأردن ) ، فهنالك توفّي موسى عليه السلام وهنالك دُفن . ولا يُعرف موضع قبره كما في نصّ كتاب اليهود . وما دَخلوا الأرض المقدسة حتّى عَبَروا الأرْدُن بقيادة يوشع بن نون خليفة موسى . وقد استثناه الله تعالى هو وكالب بن يفنَّة ، لأنّهما لم يقولا : لن ندخلها . وأمّا بَقية الرّوّاد الذين أرسلهم موسى لاختبار الأرض فوافقوا قومهم في الامتناع من دخولها .
وقوله : { فلا تأس على القوم الفاسقين } تفريع على الإخبار بهذا العقاب ، لأنّه علم أنّ موسى يحزنه ذلك ، فنهاه عن الحزن لأنّهم لا يستأهلون الحزن لأجلهم لفسقهم . والأسى : الحزن ، يقال أسِي كفرح إذا حَزن .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.