71- قل لأولاء الكفار توبيخاً لهم ، هل يصح أن يعبد غير الله مما لا يملك جلب نفع ، ولا دفع ضر ، وننتكس في الشرك بعد أن وفقنا الله إلى الإيمان ، ونكون كالذي غررت به الشياطين وأضلته في الأرض ، فصار في حيرة لا يهتدي معها إلى الطريق المستقيم ، وله رفقة مهتدون يحاولون تخليصه من الضلال ، قائلين له : ارجع إلى طريقنا السوي ، فلا يستجيب لهم . قل - أيها النبي - : إن الإسلام هو الهدى والرشاد ، وما عداه ضلال ، وقد أمرنا الله بالانقياد له ، فهو خالق العالمين ورازقهم ومدبر أمورهم .
{ 71 - 73 } { قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ * وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ * وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ }
{ قُلْ } يا أيها الرسول للمشركين بالله ، الداعين معه غيره ، الذين يدعونكم إلى دينهم ، مبينا وشارحا لوصف آلهتهم ، التي يكتفي العاقل بذكر وصفها ، عن النهي عنها ، فإن كل عاقل إذا تصور مذهب المشركين جزم ببطلانه ، قبل أن تقام البراهين على ذلك ، فقال : { أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا } وهذا وصف ، يدخل فيه كل مَن عُبِد مِنْ دون الله ، فإنه لا ينفع ولا يضر ، وليس له من الأمر شيء ، إن الأمر إلا لله .
{ وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ } أي : وننقلب بعد هداية الله لنا إلى الضلال ، ومن الرشد إلى الغي ، ومن الصراط الموصل إلى جنات النعيم ، إلى الطرق التي تفضي بسالكها إلى العذاب الأليم . فهذه حال لا يرتضيها ذو رشد ، وصاحبها { كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ } أي : أضلته وتيهته عن طريقه ومنهجه له الموصل إلى مقصده . فبقي { حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى } والشياطين يدعونه إلى الردى ، فبقي بين الداعيين حائرا وهذه حال الناس كلهم ، إلا من عصمه الله تعالى ، فإنهم يجدون فيهم جواذب ودواعي{[293]} متعارضة ، دواعي{[294]} الرسالة والعقل الصحيح ، والفطرة المستقيمة { يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى } والصعود إلى أعلى عليين .
ودواعي{[295]} الشيطان ، ومن سلك مسلكه ، والنفس الأمارة بالسوء ، يدعونه إلى الضلال ، والنزول إلى أسفل سافلين ، فمن الناس من يكون مع داعي الهدى ، في أموره كلها أو أغلبها ، ومنهم من بالعكس من ذلك . ومنهم من يتساوى لديه الداعيان ، ويتعارض عنده الجاذبان ، وفي هذا الموضع ، تعرف أهل السعادة من أهل الشقاوة .
وقوله : { قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى } أي : ليس الهدى إلا الطريق التي شرعها الله على لسان رسوله ، وما عداه ، فهو ضلال وردى وهلاك . { وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ } بأن ننقاد لتوحيده ، ونستسلم لأوامره ونواهيه ، وندخل تحت عبوديته ، فإن هذا أفضل نعمة أنعم الله بها على العباد ، وأكمل تربية أوصلها إليهم .
{ قل أندعو } أنعبد . { من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا } ما لا يقدر على نفعنا وضرنا . { ونرد على أعقابنا } ونرجع إلى الشرك . { بعد إذ هدانا الله } فأنقذنا منه ورزقنا الإسلام . { كالذي استهوته الشياطين } كالذي ذهبت به مردة الجن في المهامة ، استفعال من هوى يهوي هويا إذا ذهب . وقرأ حمزة " استهواه " بألف ممالة ومحل الكاف النصب على الحال من فاعل { نرد } أي : مشبهين الذين استهوته ، أو على المصدر أي ردا مثل رد الذي استهوته . { في الأرض حيران } متحيرا ضالا عن الطريق . { له أصحاب } لهذا المستهوى رفقه . { يدعونه إلى الهدى } إلى أن يهدوه الطريق المستقيم ، أو إلى الطريق المستقيم وسماه هدى تسمية للمفعول بالمصدر . { ائتنا } يقولون له ائتنا . { قل إن هدى الله } الذي هو الإسلام . { هو الهدى } وحده وما عداه ضلال . { وأمرنا لنسلم لرب العالمين } من جملة المقول عطف على أن هدى الله ، واللام التعليل الأمر أي أمرنا بذلك لنسلم . وقيل هي بمعنى الباء وقيل هي زائدة .
المعنى : قل في احتجاجك : أنطيع رأيكم في أن ندعو من دون الله ، والدعاء يعم العبادة وغيرها لأن من جعل شيئاً موضع دعائه فإياه يعبد وعليه يتكل { ما لا ينفعنا ولا يضرنا } يعني الأصنام ، إذ هي جمادات : حجارة وخشب ونحوه ، وضرر الأصنام في الدين لا يفهمه الكفار فلذلك قال : { ولا يضرنا } إنما الضرر الذي يفهمونه من نزول المكاره الدنياوية . { ونرد على أعقابنا } تشبيه ، وذلك أن المردود على العقب هو أن يكون الإنسان يمشي قدماً— وهي المشية الجيدة— فيرد يمشي القهقرى—وهي المشية الدنية— فاستعمل المثل بها فيمن رجع من خير إلى شر ، ووقعت في هذه الآية في تمثيل الراجع من الهدي إلى عبادة الأصنام ، و { هدانا } بمعنى أرشدنا ، قال الطبري وغيره الرد على العقب يستعمل فيمن أمل أمراً فخاب أمله .
قال القاضي أبو محمد : وهذا قول قلق وقوله تعالى : { كالذي استهوته الشياطين } الآية الكاف في موضع نصب نعت لمصدر محذوف تقديره رداً كرد الذي ، و { استهوته } استفعلته بمعنى استدعت هواه وأمالته ، قال أبو عبيدة : ويحتمل ُهِوَّيه وهو جده وركوب رأسه في النزوع إليهم ، والهوى من هوى يهوى يستعمل في السقوط من علو إلى أسفل ، ومنه قول الشاعر :
هوى ابْنِي مِنْ دَار أشرف . . . فَزَلَّتْ رِجُلُهُ ويَدُه
وهذا المعنى لا مدخل له في هذه الآية إلا أن تتأول اللفظة بمعنى ألقته الشياطين في هوة ، وقد ذهب إليه أبو علي وقال : هو بمعنى أهوى كما أن استزل بمعنى أزل .
قال القاضي أبو محمد : والتحرير : أن العرب تقول : هوى وأهواه غيره واستهواه بمعنى طلب منه أن يهوي هو أو طلب منه أن يهوي شيئاً ، ويستعمل الهوى أيضاً في ركوب الرأس في النزوع إلى الشيء ومنه قوله تعالى : { فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم }{[4968]} ، ومنه قول شاعر الجن : [ السريع ]
تهوي إلى مَكّةَ تَبْغي الهُدَى . . . ما مؤمنُ الجِنّ كأنجاسِها{[4969]}
وهذا المعنى هو الذي يليق بالآية ، وقرأ الجمهور من الناس «استهوته الشياطين » وقرأ الحسن «استهوته الشياطون » . وقال بعض الناس : هو لحن ، وليس كذلك بل هو شاذ قبيح وإنما هو محمول على قولهم ، سنون وأرضون إلا أن هذه في جمع مسلم وشياطون في جمع مكسر فهذا موضع الشذوذ ، وقرأ حمزة «استهواه الشياطين » وأمال استهواه ، وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي والأعمش وطلحة «استهويه الشيطان » بالياء وإفراد الشيطان ، وذكر الكسائي أنها كذلك في مصحف ابن مسعود ، وقوله : { في الأرض } يحكم بأن { استهوته } إنما هو بمعنى استدعت هويه الذي هو الجد في النزوع و { حيران } في موضع الحال ، ومؤنثه حيرى فهو لا ينصرف في معرفة ولا نكرة ، ومعناه ضالاً متحيراً وهو حال من الضمير في { استهوته } والعامل فيه { استهوته } ، ويجوز أن يكون من الذي والعامل فيه المقدر بعد الكاف ، وقوله { استهوته } يقتضي أنه كان على طريق فاستدعته .
قال القاضي أبو محمد : فسياق هذا المثل كأنه قال أيصلح أن يكون بعد الهدي نعبد الأصنام فيكون ذلك منا ارتداداً على العقب فيكون كرجل على طريق واضح فاستهوته عنه الشياطين فخرج عنه إلى دعوتهم فبقي حائراً وقوله : { وله أصحاب } يحتمل أن يريد له أصحاب على الطريق الذي خرج منه فيشبه بالأصحاب على هذا المؤمنون الذين يدعون من ارتد إلى الرجوع إلى الهدى ، وهذا تأويل مجاهد وابن عباس ويحتمل أن يريد له أصحاب أي من الشياطين الدعاة أولاً يدعونه إلى الهدى بزعمهم وإنما يوهمونه فيشبه بالأصحاب على هذا الكفرة الذين يثبتون من ارتد عن الإسلام على ارتداده ، وروي هذا التأويل عن ابن عباس أيضاً ، و { ائتنا } من الإتيان بمعنى المجيء ، وفي مصحف عبد الله «إلى الهدى بيناً »{[4970]} وهذه تؤيد تأويل من تأول الهدى حقيقة إخبار من الله ، حكى مكي وغيره أن المراد ب «الذي » في هذه الآية عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق و ب «الأصحاب » أبوه وأمه .
قال القاضي أبو محمد : وهذا ضعيف لأن في الصحيح أن عائشة رضي الله عنها لما سمعت قول قائل : إن قوله تعالى : { والذي قال لوالديه أف لكما }{[4971]} نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر قالت : كذبوا والله ما نزل فينا من القرآن شيء إلا براءتي .
قال القاضي أبو محمد : حدثني أبي رضي الله عنه قال : سمعت الفقيه الإمام أبا عبد الله المعروف بالنحوي المجاور بمكة يقول : من نازع أحداً من الملحدة فإنما ينبغي أن يرد عليه وينازعه بالقرآن والحديث فيكون كمن يدعو إلى الهدى بقوله : { ائتنا } ، ومن ينازعهم بالجدل ويحلق عليهم به فكأنه بعد عن الطريق الواضح أكثر ليرد هذا الزائغ فهو يخاف عليه أن يضل .
قال القاضي أبو محمد : وهذا انتزاع حسن جداً ، وقوله تعالى : { قل إن هدى الله } الآية ، من قال إن «الأصحاب » هم من الشياطين المستهزئين وتأول إلى الهدى بزعمهم قال : إن قوله : { قل إن هدى الله هو الهدى } رد عليهم في زعمهم فليس ما زعموه صحيحاً وليس بهدي بل هو نفسه كفر وضلال ، وإنما الهدى هدى الله وهو الإيمان ، ومن قال : إن «الأصحاب » هم على الطريق المدعو إليها وإن المؤمنين الداعين للمرتدين شبهوا بهم وإن الهدى هو هدى على حقيقته يجيء على قوله : { قل إن هدى الله } بمعنى أن دعاء الأصحاب وإن كان إلى هدى فليس بنفس دعائهم تقع الهداية وإنما يهتدي بذلك الدعاء من هداه الله تعالى بهداه ، { وأمرنا لنسلم } اللام لام كي{[4972]} ومعها أن مقدرة ، ويقدر مفعول ل { أمرنا } مضمر تقديره وأمرنا بالإخلاص أو بالإيمان ونحو هذا ، فتقدير الجملة كلها وأمرنا بالإخلاص لأن نسلم ، ومذهب سيبويه في هذه أن { لنسلم } هو موضع المفعول وأن قولك : أمرت لأقوم وأمرت أن أقوم يجريان سواء ومثله قول الشاعر : [ الطويل ]
أردت لأنسى ذكرها . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . {[4973]}
{ قل أندعو من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا ونرد على أعقابنا بعد إذ هانا الله }
استئناف ابتدائي لتأييس المشركين من ارتداد بعض المسلمين عن الدين ، فقد كان المشركون يحاولون ارتداد بعض قرابتهم أو من لهم به صلة . كما ورد في خبر سعيد بن زيد وما لَقي من عُمر بن الخطاب . وقد روي أنّ عبد الرحمان بن أبي بكر الصديق دعا أباه إلى عبادة الأصنام ، وأنّ الآية نزلت في ذلك ، ومعنى ذلك أنّ الآية نزلت مشيرة إلى ذلك وغيره وإلاّ فإنّ سورة الأنعام نزلت جملة واحدة . وحاول المشركون صرف النبي صلى الله عليه وسلم عن الدعوة إلى الإسلام وهم يُرْضُونه بما أحبّ كما ورد في خبر أبي طالب .
والاستفهام إنكار وتأييس ، وجيء بنون المتكلّم ومعه غيره لأنّ الكلام من الرسول صلى الله عليه وسلم عن نفسه وعن المسلمين كلّهم . و { من دون الله } متعلّق ب { ندعوا } . والمراد بما لا ينفع ولا يضرّ الأصنامُ ، فإنَّها حجارة مشاهد عدمُ نفعها وعجزُها عن الضرّ ، ولو كانت تستطيع الضرّ لأضرّت بالمسلمين لأنَّهم خلعوا عبادتها وسفَّهوا أتباعها وأعلنوا حقارتها ، فلمَّا جعلوا عدَم النفع ولا الضرّ علَّة لنفي عبادة الأصنام فقد كنّوا بذلك عن عبادتهم النافع الضارّ وهو الله سبحانه .
وقوله : { ونُردّ على أعقابنا } عطف على { ندعوا } فهو داخل في حيّز الإنكار . والردّ : الإرجاع إلى المكان الذي يؤتى منه ، كقوله تعالى : { رُدّوها عليّ } [ ص : 33 ] .
والأعقاب جمع عَقِب وهي مؤخّر القدم . وعقب كلّ شيء طَرفه وآخره ويقال : رجع على عَقِبه وعلى عَقِبَيْه ونكص على عقبيه بمعنى رجع إلى المكان الذي جاء منه لأنَّه كان جاعلاً إيَّاه وراءه فرَجَع .
وحرف ( على ) فيه للاستعلاء ، أي رجع على طريق جهة عقبه ، كما يقال : رجع وراءه ، ثم استعمل تمثيلاً شائعاً في التَّلبّس بحالة ذميمة كان فارقها صاحبُها ثم عاد إليها وتلبّس بها ، وذلك أنّ الخارج إلى سفر أو حاجة فإنَّما يمشي إلى غرض يريده فهو يمشي القُدُمية فإذا رجع قبل الوصول إلى غرضه فقد أضاع مشيَه ؛ فيمثّل حاله بحال من رجع على عقبيه . وفي الحديث : « اللهمّ أمْض لأصحابي هِجْرتهم ولا تَرُدّهم على أعقابهم » فكذلك في الآية هو تمثيل لحال المرتدّ إلى الشرك بعد أن أسلَم بحال من خرج في مهمّ فرجع على عقبيه ولم يقض ما خرج له . وهذا أبلغ في تمثيل سوء الحالة من أن يُقال : ونرجعُ إلى الكفر بعد الإيمان .
وقد أضيف ( بعد ) إلى { إذْ هدانا } وكلاهما اسم زمان ، فإنّ ( بعد ) يدلّ على الزمان المتأخِّر عن شيء كقوله : { ومن بعد صلاة العشاء } [ النور : 58 ] و ( إذا ) يدلّ على زمان معرّف بشيء ، ف ( إذا ) اسم زمن متصرّف مراد به الزمان وليس مفعولاً فيه . والمعنى بعدَ الزمن الذي هدانا الله فيه ، ونظيره { ربّنا لا تُزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا } في سورة [ آل عمران : 8 ] .
{ كالذي استهوته الشياطين في الأرض حيران له أصحاب يدعونه إلى الهدى ائتنا }
ارتقى في تمثيل حالهم لو فُرض رجوعهم على أعقابهم بتمثيل آخر أدقّ ، بقوله : { كالذي استهوته الشياطين في الأرض } ، وهو تمثيل بهيئة متخيّلة مبنيّة على اعتقاد المخاطبين في أحوال الممسُوسينَ . فالكاف في موضع الحال من الضمير في { نُردّ على أعقابنا } ، أي حال كوننا مشْبهينَ للذي استهوته الشياطين فهذه الحال مؤكّدة لما في { نردّ على أعقابنا } من معنى التَمثيل بالمرتدّ على أعقابه .
والاستهواء استفعال ، أي طلب هَوى المرء ومحبّتِه ، أي استجلاب هَوى المرء إلى شيء يحاوله المستجلِب . وقرّبه أبو علي الفارسي بمعنى همزة التعدية . فقال : استهواه بمعنى أهواه مثل استزلّ بمعنى أزلّ . ووقع في « الكشَّاف » أنَّه استفعال من هَوَى في الأرض إذا ذهب فيها ، ولا يعرف هذا المعنى من كلام أئمَّة اللغة ولِم يذكره هو في « الأساس » مع كونه ذكر { كالذي استهوته الشياطين } ولم ينبِّه على هذا مَن جاء بعده .
والعرب يقولون : استهوته الشياطين ، إذا اختطفت الجنّ عقله فسيَّرتْه كما تريد . وذلك قريب من قولهم : سَحَرتْه ، وهم يعتقدون أنّ الغيلان هي سحرة الجنْ ، وتسمَّى السعالي أيضاً ، واحدتُها سَعْلاة ، ويقولون أيضاً : استهامته الجنّ إذا طلبت هُيامه بطاعتها .
وقوله : { في الأرض } متعلّق ب { استهوته } ، لأنَّه يتضمَّن معنى ذهبت به وضلّ في الأرض . g وذلك لأنّ الحالة التي تتوهَّمها العرب استهواء الجنّ يصاحبها التوحّش وذهاب المجنون على وجهه في الأرض راكباً رأسه لا ينتصح لأحد ، كما وقع لكثير من مجانينهم ومَن يزعمون أنّ الجنّ اختطفتهم . ومن أشهرهم عَمْرو بن عَدي الأيادي اللخمي ابن أخت جُذيمة بن مالك ملك الحيرة . وجوّز بعضهم أن يكون { في الأرض } متعلِّقاً ب { حَيْران } ، وهو بعيد لعدم وجود مقتض لتقديم المعمول .
و { حَيْرانَ } حال من { الذي استهوتْه } ، وهو وصف من الحَيْرة ، وهي عدم الاهتداء إلى السبيل . يقال : حارَ يحَار إذ تاهَ في الأرض فلم يعلم الطريق . وتطلق مجازاً على التردّد في الأمر بحيث لا يعلم مخرجه ، وانتصب { حيران } على الحال من { الذي } .
وجملة : { له أصحاب } حال ثانية ، أي له رفقة معه حين أصابه استهواء الجنّ . فجملة { يدعونه } صفة ل { أصحاب } .
والدعاء : القول الدالّ على طلب عمل من المخاطب . والهدى : ضدّ الضلال . أي يدعونه إلى ما فيه هدَاه . وإيثارُ لفظ { الهُدى } هنا لما فيه من المناسبة للحالة المشبَّهة . ففي هذا اللفظ تجريد للتمثيلية كقوله تعالى : { فلمّا أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم } في سورة [ البقرة : 17 ] . ولذلك كان لتعقيبه بقوله : قل إنّ هدى الله هو الهدى } وقع بديع . وجوّز في « الكشاف » أن يكون الهدى مستعاراً للطريق المستقيم .
وجملة : { ائتنا } بيان ل { يدعونه إلى الهدى } لأنّ الدعاء فيه معنى القول . فصحّ أن يبيّن بما يقولونه إذا دعَوه ، ولكونها بياناً فُصلت عن التي قبلها ، وإنَّما احتاج إلى بيان الدعاء إلى الهدى لتمكِين التمثيل من ذهن السامع ، لأنّ المجنون لا يخاطب بصريح المقصد فلا يدعى إلى الهدى بما يَفهم منه أنَّه ضالّ لأنّ من خُلق المجانين العناد والمكابرة ، فلذلك يدعونه بما يفهم منه رغبتُهم في صحبته ومحبتُهم إيَّاه ، فيقولون : ايتنا ، حتَّى إذا تمكَّنوا منه أوثقوه وعادوا به إلى بيته .
وقد شبّهت بهذا التمثيل العجيب حالة من فُرض ارتدادُه إلى ضلالة الشرك بعد هدى الإسلام لدعوة المشركين إيَّاه وتركه أصحابه المسلمين الذين يصدّونه عنه ، بحَال الذي فسد عقله باستهواء من الشياطين والجنّ ، فتاه في الأرض بعد أن كان عاقلاً عارفاً بمسالكها ، وترك رفقته العقلاء يدعونه إلى موافقتهم ، وهذا التركيب البديع صالح للتفكيك بأن يشبّه كل جزء من أجزاء الهيئة المشبّهة بجزء من أجزاء الهيئة المشبّهة بها ، بأن يشبه الارتداد بعد الإيمان بذهاب عقل المجنون ، ويشبّه الكفر بالهُيام في الأرض ، ويشبّه المشركون الذين دعَوْهم إلى الارتداد بالشياطين وتُشَبّه دعوة الله الناس للإيمان ونزولُ الملائكة بوحيه بالأصحاب الذين يدعون إلى الهدى . وعلى هذا التفسير يكون { الذي } صادقاً على غير معيّن ، فهو بمنزلة المعرّف بلام الجنس . وروي عن ابن عباس أنّ الآية نزلت في عبد الرحمان بن أبي بكر الصدّيق حين كان كافراً وكان أبوه وأمّه يدعوانه إلى الإسلام فيأبى ، وقد أسلم في صلح الحديبية وحسن إسلامه .
{ قل إن هدى الله هو الهدى وأمرنا لنسلم لرب العالمين }
جملة : { قل إنّ هدى الله هو الهدى } مستأنفة استئنافَ تكرير لِما أمِر أن يقوله للمشركين حين يدعون المسلمين إلى الرجوع إلى ما كانوا عليه في الجاهلية ، وقد روي أنَّهم قالوا للنبيء صلى الله عليه وسلم اعْبُد آلهتنا زمناً ونعبُدُ إلهك زمناً . وكانوا في خلال ذلك يزعمون أنّ دينهم هدى فلذلك خوطبوا بصيغة القصر . وهي { إنّ هدى الله هو الهدى } فجيء بتعريف الجزأيْن ، وضمير الفصل ، وحرف التوكيد ، فاجتمع في الجملة أربعة مؤكّدات ، لأنّ القصر بمنزلة مؤكِّدَيْن إذ ليس القصر إلاّ تأكيداً على تأكيد ، وضمير الفصل تأكيد ، و ( إنّ ) تأكيد ، فكانت مقتضَى حال المشركين المنكرين أنّ الإسلام هدى .
وتعريف المسند إليه بالإضافة للدلالة على الهدى الوارد من عند الله تعالى ، وهو الدين المُوصى به ، وهو هنا الإسلام ، بقرينة قوله { بعد إذْ هدانا الله } . وقد وصف الإسلام بأنَّه { هُدى الله } في قوله تعالى : { ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتَّى تتّبع ملَّتهم قل إنّ هدى الله هو الهدى } في سورة [ البقرة : 120 ] ، أي القرآن هو الهدى لا كُتُبُهم .
وتعريف المسند بلام الجنس للدلالة على قصر جنس الهدى على دين الإسلام ، كما هو الغالب في تعريف المسند بلام الجنس ، وهو قصر إضافي لأنّ السياق لردّ دعوة المشركين إيَّاهم الرجوع إلى دينهم المتضمِّنة اعتقادهم أنَّه هدى ، فالقصر للقلب إذ ليسوا على شيء من الهدى ، فلا يكون قصر الهدى على هدى القرآن بمعنى الهدى الكامل ، بخلاف ما في سورة البقرة .
وجملة : وأمِرْنا لِنُسْلِم } عطف على المقول . وهذا مقابل قوله { قل إنِّي نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله } [ الأنعام : 56 ] ، وقوله { قل أندعو من دون الله } الآية .
واللام في { لِنُسْلِم } أصلها للتعليل وتنوسي منها معنى التعليل فصارت لمجرّد التأكيد . وهي اللام التي يكثر ورودها بعد مادّة الأمر ومادّة الإرادة . وسمَّاها بعضهم لام أنْ بفتح الهمزة وسكون النون قال الزجَّاج : العرب تقول : أمَرْتُك بأنْ تفعل وأمرتُك أن تفعل وأمرتك لِتَفعل . فالباء للإلصاق ، وإذا حذفوها فهي مقدّرة مع ( أنْ ) . وأمَّا أمرتك لتفعل ، فاللام للتعليل ، فقد أخبر بالعلَّة التي لها وقَع الأمر . يعني وأغنت العلَّة عن ذكر المعلّل . وقيل : اللام بمعنى الباء ، وقيل : زائدة ، وعلى كلّ تقدير ف ( أنْ ) مضرة بعدها ، أي لأجل أن نُسْلِمَ . والمعنى : وأمرنا بالإسلام ، أي أمرنا أن أسلموا . وتقدّم الكلام على هذه اللام عند قوله تعالى : { يريد الله ليُبيّن لكم } في سورة [ النساء : 26 ] .
واللام في قوله : { لربّ العالمين } متعلِّقة ب { نسلم } لأنَّه معنى تخلّص له ، قال : { فقل أسلمت وجهي لله } . وقد تقدّم القول في معنى الإسلام عند قوله تعالى : { إذ قال له ربّه أسْلِم قال أسلمت لربّ العالمين } في سورة [ البقرة : 131 ] .
وفي ذكر اسم الله تعالى بوصف الربوبية لجميع الخلق دون اسمه العَلَم إشارة إلى تعليل الأمر وأحقِّيّته .