27- الذين ينقضون عهد الله - وهم الذين لم يلتزموا عهد الله القوي الذي أنشأه في نفوسهم بمقتضى الفطرة موثقاً بالعقل المدرك ومؤيداً بالرسالة - ويقطعون ما أمر الله به أن يكون موصولاً كوصل ذوي الأرحام ، والتواد والتعارف والتراحم بين بني الإنسان ، ويفسدون في الأرض بسوء المعاملات وبإثارة الفتن وإيقاد الحروب وإفساد العمران ، أولئك هم الذين يخسرون بإفسادهم فطرتهم وقطعهم ما بينهم وبين الناس ما يجب أن يكون من تواد وتعاطف وتراحم ، ويكون مع ذلك لهم الخزي في الدنيا والعذاب في الآخرة .
ثم وصف الفاسقين فقال : { الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ } وهذا يعم العهد الذي بينهم وبينه{[79]} والذي بينهم وبين عباده{[80]} الذي أكده عليهم بالمواثيق الثقيلة والإلزامات ، فلا يبالون بتلك المواثيق ، بل ينقضونها ويتركون أوامره ويرتكبون نواهيه ، وينقضون العهود التي بينهم وبين الخلق .
{ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ } وهذا يدخل فيه أشياء كثيرة ، فإن الله أمرنا أن نصل ما بيننا وبينه بالإيمان به والقيام بعبوديته ، وما بيننا وبين رسوله بالإيمان به ومحبته وتعزيره والقيام بحقوقه ، وما بيننا وبين الوالدين والأقارب والأصحاب ، وسائر الخلق بالقيام بتلك الحقوق{[81]} التي أمر الله أن نصلها .
فأما المؤمنون فوصلوا ما أمر الله به أن يوصل من هذه الحقوق ، وقاموا بها أتم القيام ، وأما الفاسقون ، فقطعوها ، ونبذوها وراء ظهورهم ، معتاضين عنها بالفسق والقطيعة ، والعمل بالمعاصي ، وهو : الإفساد في الأرض .
ف { فَأُولَئِكَ } أي : من هذه صفته { هُمُ الْخَاسِرُونَ } في الدنيا والآخرة ، فحصر الخسارة فيهم ، لأن خسرانهم عام في كل أحوالهم ، ليس لهم نوع من الربح ، لأن كل عمل صالح شرطه الإيمان ، فمن لا إيمان له لا عمل له ، وهذا الخسار هو خسار الكفر ، وأما الخسار الذي قد يكون كفرا ، وقد يكون معصية ، وقد يكون تفريطا في ترك مستحب ، المذكور في قوله تعالى : { إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ } فهذا عام لكل مخلوق ، إلا من اتصف بالإيمان والعمل الصالح ، والتواصي بالحق ، والتواصي بالصبر ، وحقيقة فوات الخير ، الذي [ كان ] العبد بصدد تحصيله وهو تحت إمكانه .
{ الذين ينقضون عهد الله } صفة للفاسقين للذم وتقرير الفسق . والنقض : فسخ التركيب ، وأصله في طاقات الحبل ، واستعماله في إبطال العهد من حيث إن العهد يستعار له الحبل لما فيه من ربط أحد المتعاهدين بالآخر ، فإن أطلق مع لفظ الحبل كان ترشيحا . للمجاز ، وإن ذكر مع العهد كان رمزا إلى ما هو من روادفه وهو أن العهد حبل في شجاعته بحر بالنظر إلى إفادته . والعهد : الموثق ووضعه لما من شأنه أن يراعي ويتعهد كالوصية واليمين ، ويقال للدار ، من حيث إنها تراعي بالرجوع إليها . والتاريخ لأنه يحفظ ، وهذا العهد : إما العهد المأخوذ بالعقل ، وهو الحجة القائمة على عبادة الدالة على توحيده ووجوب وجوده وصدق رسوله ، وعليه أول قوله تعالى : { وأشهدهم على أنفسهم } أو : المأخوذ بالرسل على الأمم ، بأنهم إذا بعث إليهم رسول مصدق بالمعجزات صدقوه واتبعوه ، ولم يكتموا أمره ولم يخالفوا حكمه ، وإليه أشار بقوله : { وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب } ونظائره . وقيل : عهود الله تعالى ثلاثة : عهد أخذه على جميع ذرية آدم بأن يقروا بربوبيته ، وعهد أخذه على النبيين بأن يقيموا الدين ولا يتفرقوا فيه ، وعهد أخذه على العلماء بأن يبينوا الحق ولا يكتموه .
{ من بعد ميثاقه } الضمير للعهد والميثاق : اسم لما يقع به الوثاقة وهي الاستحكام ، والمراد به ما وثق الله به عهده من الآيات والكتب ، أو ما وثقوه به من الالتزام والقبول ، ويحتمل أن يكون بمعنى المصدر ، و{ من } للابتداء فإن ابتداء النقض بعد الميثاق .
{ ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل } يحتمل كل قطيعة لا يرضاها الله تعالى ، كقطع الرحم ، والإعراض عن موالاة المؤمنين والتفرقة بين الأنبياء عليهم السلام ، والكتب في التصديق ، وترك الجماعات المفروضة ، وسائر ما فيه رفض خير . أو تعاطي شر فإنه يقطع الوصلة بين الله وبين العبد المقصودة بالذات من كل وصل وفصل ، والأمر هو للقول الطالب للفعل ، وقيل : مع العلو ، وقيل : مع الاستعلاء ، وبه سمي الأمر الذي هو واحد الأمور تسمية للمفعول به بالمصدر ، فإنه مما يؤمر به كما قيل له شأن وهو الطلب . والقصد يقال : شأنت شأنه ، إذا قصدت قصده . و{ أن يوصل } يحتمل النصب والخفض على أنه بدل من ما ، أو ضميره . والثاني أحسن لفظا ومعنى .
{ ويفسدون في الأرض } بالمنع عن الإيمان والاستهزاء بالحق ، وقطع الوصل التي بها نظام العالم وصلاحه .
{ أولئك هم الخاسرون } الذين خسروا بإهمال العقل عن النظر واقتناص ما يفيدهم الحياة الأبدية ، واستبدال الإنكار والطعن في الآيات بالإيمان بها ، والنظر في حقائقها والاقتباس من أنوارها ، واشتراء النقض بالوفاء ، والفساد بالصلاح ، والعقاب بالثواب .
الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ( 27 )
النقض رد ما أبرم على أوله غير مبرم ، والعهد في هذه الآية التقدم في الشيء والوصاة به .
واختلف في تفسير هذا العهد : فقال بعض المتأولين : هو الذي أخذه الله على بني آدم حين استخرجهم من ظهر أبيهم آدم كالذر .
وقال آخرون : بل نصب الأدلة على وحدانية الله بالسماوات والأرض وسائر الصنعة هو بمنزلة العهد . ( {[382]} )
وقال آخرون : بل هذا العهد هو الذي أخذه الله على عباده بواسطة رسله أن يوحدوه وان لا يعبدوا غيره .
وقال آخرون : بل هذا العهد هو الذي أخذه الله تعالى على أتباع الرسل والكتب المنزلة أن يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم ، وأن لا يكتموا أمره .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : فالآية على هذا( {[383]} ) في أهل الكتاب ، وظاهر ما قبل وبعد أنه في جميع الكفار . ( {[384]} )
وقال قتادة : «هذه الآية هي فيمن كان آمن بالنبي عليه السلام ثم كفر به فنقض العهد » .
قال القاضي أبو محمد رحمه الله : لم ينسب الطبري شيئاً من هذه الأقوال ، وكل عهد جائز بين المسلمين فنقضه لا يحل بهذه الآية ، والضمير في { ميثاقه } يحتمل العودة على العهد أو على اسم الله تعالى ، وميثاق مفعال من الوثاقة ، وهي الشد في العقد والربط ونحوه ، وهو في هذه الآية اسم في موضع المصدر( {[385]} ) كما قال عمرو بن شييم : [ الوافر ] .
أكفراً بعد ردِّ الموتِ عنّي . . . وبَعْدَ عَطَائك المائَةَ الرّتاعا( {[386]} ) ؟
وقوله تعالى : { ما أمر الله به أن يوصل } ، { ما } في موضع نصب ب { يقطعون } واختلف ما الشيء الذي أمره بوصله ؟
فقال قتادة : «الأرحام عامة في الناس » وقال غيره : «خاصة فيمن آمن بمحمد ، كان الكفار يقطعون أرحامهم » . وقال جمهور أهل العلم : الإشارة في هذه الآية إلى دين الله وعبادته في الأرض ، وإقامة شرائعه ، وحفظ حدوده .
قال القاضي أبو محمد : وهذا هو الحق ، والرحم جزء من هذا( {[387]} ) ، و { أن } في موضع نصب بدل من { ما } ، أو مفعول من أجله . وقيل { أن } في موضع خفض بدل من الضمير في { به }( {[388]} ) ، وهذا متجه .
{ ويفسدون في الأرض } يعبدون غير الله ويجورون في الأفعال ، إذ هي بحسب شهواتهم ، والخاسر الذي نقص نفسه حظها من الفلاح والفوز ، والخسران النقص كان في ميزان أو غيره .