المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{قُلۡ مَن كَانَ فِي ٱلضَّلَٰلَةِ فَلۡيَمۡدُدۡ لَهُ ٱلرَّحۡمَٰنُ مَدًّاۚ حَتَّىٰٓ إِذَا رَأَوۡاْ مَا يُوعَدُونَ إِمَّا ٱلۡعَذَابَ وَإِمَّا ٱلسَّاعَةَ فَسَيَعۡلَمُونَ مَنۡ هُوَ شَرّٞ مَّكَانٗا وَأَضۡعَفُ جُندٗا} (75)

75- قل - أيها الرسول - لهؤلاء : من كان في الضلالة والكفر أمهله الرحمن ، وأملي له في العمر ليزداد طغياناً وضلالا ، وسيردد الكفار قولهم للمؤمنين : أي الفريقين خير مقاماً وأحسن نديا ؟ إلي أن يشاهدوا ما يوعدون : إما تعذيب المسلمين إياهم في الدنيا بالقتل والأسر ، وإما خزي القيامة لهم ، فحينئذ يعلمون أنهم شر منزلا وأضعف أنصارا .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{قُلۡ مَن كَانَ فِي ٱلضَّلَٰلَةِ فَلۡيَمۡدُدۡ لَهُ ٱلرَّحۡمَٰنُ مَدًّاۚ حَتَّىٰٓ إِذَا رَأَوۡاْ مَا يُوعَدُونَ إِمَّا ٱلۡعَذَابَ وَإِمَّا ٱلسَّاعَةَ فَسَيَعۡلَمُونَ مَنۡ هُوَ شَرّٞ مَّكَانٗا وَأَضۡعَفُ جُندٗا} (75)

{ 75 } { قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضْعَفُ جُنْدًا }

لما ذكر دليلهم الباطل ، الدال على شدة عنادهم ، وقوة ضلالهم ، أخبر هنا ، أن من كان في الضلالة ، بأن رضيها لنفسه ، وسعى فيها ، فإن الله يمده منها ، ويزيده فيها حبا ، عقوبة له على اختيارها على الهدى ، قال تعالى : { فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ } { وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ }

{ حَتَّى إِذَا رَأَوْا } أي : القائلون : { أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا } { مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ } بقتل أو غيره { وَإِمَّا السَّاعَةَ } التي هي باب الجزاء على الأعمال { فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضْعَفُ جُنْدًا } أي : فحينئذ يتبين لهم بطلان دعواهم ، وأنها دعوى مضمحلة ، ويتيقنون أنهم أهل الشر ، { وَأَضْعَفُ جُنْدًا } ولكن لا يفيدهم هذا العلم شيئا ، لأنه لا يمكنهم الرجوع إلى الدنيا ، فيعملون غير عملهم الأول .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{قُلۡ مَن كَانَ فِي ٱلضَّلَٰلَةِ فَلۡيَمۡدُدۡ لَهُ ٱلرَّحۡمَٰنُ مَدًّاۚ حَتَّىٰٓ إِذَا رَأَوۡاْ مَا يُوعَدُونَ إِمَّا ٱلۡعَذَابَ وَإِمَّا ٱلسَّاعَةَ فَسَيَعۡلَمُونَ مَنۡ هُوَ شَرّٞ مَّكَانٗا وَأَضۡعَفُ جُندٗا} (75)

يقول تعالى : { قُلْ } يا محمد ، لهؤلاء المشركين بربهم المدعين ، أنهم على الحق وأنكم على الباطل : { مَنْ كَانَ فِي الضَّلالَةِ } أي : منا ومنكم ، { فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا } أي : فأمهله الرحمن{[19095]} فيما هو فيه ، حتى يلقى ربه وينقضي{[19096]} أجله ، { إِمَّا الْعَذَابَ } يصيبه ، { وَإِمَّا السَّاعَةَ } بغتة تأتيه ، { فَسَيَعْلَمُونَ } حينئذ { مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضْعَفُ جُنْدًا } [ أي ]{[19097]} : في مقابلة ما احتجوا به من خيرية المقام وحسن الندي .

قال مجاهد في قوله : { فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا } فليدعه الله في طغيانه . هكذا قرر ذلك أبو جعفر بن جرير ، رحمه الله .

وهذه مباهلة للمشركين الذين يزعمون أنهم على هدى فيما هم فيه{[19098]} ، كما ذكر تعالى مباهلة اليهود في قوله : { قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } [ الجمعة : 6 ] أي : ادعوا على المبطل منا ومنكم بالموت{[19099]} إن كنتم تدعون أنكم على الحق ، فإنه لا يضركم الدعاء ، فنكلوا عن ذلك ، وقد تقدم تقرير ذلك في سورة " البقرة " مبسوطا ، ولله الحمد . وكما ذكر تعالى المباهلة مع النصارى في سورة " آل عمران " حين{[19100]} صمموا على الكفر ، واستمروا على الطغيان والغلو في دعواهم أن عيسى ولد الله ، وقد ذكر الله حُجَجه وبراهينه على عبودية عيسى ، وأنه مخلوق كآدم ، قال{[19101]} بعد ذلك : { فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ } [ آل عمران : 61 ] فنكلوا أيضًا عن ذلك .


[19095]:في ت، ف، أ: "الله".
[19096]:في أ: "ويقضي".
[19097]:زيادة من أ.
[19098]:في أ: "وهذه مباهلة للمشركين الذين يزعمون على هدى قيامهم".
[19099]:في ف: "أي ادعوا بالموت على المبطل منا ومنكم"، وفي أ: "أي ادعوا بالموت على المبطل منا أو منكم".
[19100]:في أ: "حتى".
[19101]:في ت: "وقال".
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{قُلۡ مَن كَانَ فِي ٱلضَّلَٰلَةِ فَلۡيَمۡدُدۡ لَهُ ٱلرَّحۡمَٰنُ مَدًّاۚ حَتَّىٰٓ إِذَا رَأَوۡاْ مَا يُوعَدُونَ إِمَّا ٱلۡعَذَابَ وَإِمَّا ٱلسَّاعَةَ فَسَيَعۡلَمُونَ مَنۡ هُوَ شَرّٞ مَّكَانٗا وَأَضۡعَفُ جُندٗا} (75)

هذا جواب قولهم { أي الفريقين خير مقاماً وأحسن نَدِيّاً } [ مريم : 73 ] . لقن الله رسوله صلى الله عليه وسلم كشف مغالطتهم أو شبهتهم ؛ فأعلمهم بأن ما هم فيه من نعمة الدنيا إنما هو إمهال من الله إيّاهم ، لأنّ ملاذ الكافر استدراج . فمعيار التفرقة بين النّعمة الناشئة عن رضى الله تعالى على عبده وبين النعمة التي هي استدراج لمن كفر به هو النظر إلى حال من هو في نعمة بين حال هدى وحال ضلال . قال تعالى في شأن الأولين : { من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون } [ النحل : 97 ] . وقال في شأن الآخرين { أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون } [ المؤمنون : 55 ، 56 ] .

والمعنى : أن من كان منغمساً في الضلالة اغترّ بإمهال الله له فركبه الغرور كما ركبهم إذ قالوا { أي الفريقين خير مقاماً وأحسن ندياً } .

واللاّم في قوله { فليمدد له الرحمان مداً } لام الأمر أو الدعاء ، استعملت مجازاً في لازم معنى الأمر ، أي التحقيق ، أي فسيمد له الرحمان مداً ، أي إن ذلك واقع لا محالة على سنّة الله في إمهال الضُّلال ، إعذاراً لهم ، كما قال تعالى : { أو لم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر } [ فاطر : 37 ] ، وتنبيهاً للمسلمين أن لا يغتروا بإنعام الله على الضُّلال حتى أنّ المؤمنين يَدْعُون الله به لعدم اكتراثهم بطول مدة نعيم الكفّار .

فإن كان المقصود من { قُل } أن يقول النبي ذلك للكفّار فلام الأمر مجرد مجاز في التحقيق ، وإن كان المقصود أن يبلّغ النبيءُ ذلك عَن الله أنه قال ذلك فلامُ الأمر مجاز أيضاً وتجريد بحيث إنّ الله تعالى يأمر نفسه بأن يمد لهم .

والمدّ : حقيقته إرخاء الحبل وإطالته ، ويستعمل مجازاً في الإمهال كما هنا ، وفي الإطالة كما في قولهم : مدّ الله في عمرك .

و { مَدّاً } مفعول مطلق مؤكد لعامله ، أي فليمدد له المدّ الشديد ، فيسينتهي ذلك .

و { حتى } لغاية المد ، وهي ابتدائية ، أي يمدّ له الرحمان إني أن يَروا ما يوعدون ، أي لا محيص لهم عن رؤية ما أوعدوا من العذاب ولا يدفعه عنه طول مدّتهم في النّعمة . فتكون الغاية مضمون الجملة التي بعدها { حتى } لا لفظاً مفرداً . والتقدير : يمدّ لهم الرحمان حتى يروا العذاب فيعلموا من هو أسعد ومن هو أشقى .

وحرف الاستقبال لتوكيد حصول العلم لهم حينئذ وليس للدّلالة على الاستقبال لأنّ الاستقبال استفيد من الغاية .

و { إمّا } حرف تفصيل ل { ما يوعدون } ، أي ما أوعدوا من العذاب إما عذاب الدنيا وإما عذاب الآخرة ، فإن كلّ واحد منهم لا يعدو أن يرى أحد العذابين أو كليهما .

وانتصب لفظ { العذاب } على المفعولية ل { يَروْا . وحرف إما } غير عاطف ، وهو معترض بين العامل ومعموله ، كما في قول تأبّط شراً :

هما خطتّا إمّا إسارٍ ومِنّةٍ *** وإما دمٍ والموت بالحر أجدر

بجرّ ( إسار ، ومنّة ، ودم ) .

وقوله { شرّ مكاناً وأضعف جنداً } مقابل قولهم { خيرٌ مقاماً وأحسن نديّاً } [ مريم : 73 ] فالمكان يرادف المقام ، والجند الأعوان ، لأنّ الندي أريد به أهله كما تقدم ، فقوبل { خيرٌ نديّاً } ب { أضعفُ جنداً } .

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{قُلۡ مَن كَانَ فِي ٱلضَّلَٰلَةِ فَلۡيَمۡدُدۡ لَهُ ٱلرَّحۡمَٰنُ مَدًّاۚ حَتَّىٰٓ إِذَا رَأَوۡاْ مَا يُوعَدُونَ إِمَّا ٱلۡعَذَابَ وَإِمَّا ٱلسَّاعَةَ فَسَيَعۡلَمُونَ مَنۡ هُوَ شَرّٞ مَّكَانٗا وَأَضۡعَفُ جُندٗا} (75)

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل يا محمد لهؤلاء المشركين بربهم، القائلين: إذا تتلى عليهم آياتنا، أيّ الفريقين منا ومنكم خير مقاما وأحسن نديا، من كان منا ومنكم في الضلالة جائرا عن طريق الحقّ. سالكا غير سبيل الهدى، "فليمدد له الرحمن مدّا "يقول: فليطوّل له الله في ضلالته، وليمله فيها إملاء...

"حتى إذَا رَأوْا ما يُوعَدُونَ إمّا العَذَابَ وإمّا السّاعَةَ" يقول تعالى ذكره: قل لهم: من كان منا ومنكم في الضلالة، فليمدد له الرحمن في ضلالته إلى أن يأتيهم أمر الله، إما عذاب عاجل، أو يلقوا ربهم عند قيام الساعة التي وعد الله خلقه أن يجمعهم لها، فإنهم إذا أتاهم وعد الله بأحد هذين الأمرين "فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرّ مَكانا" ومسكنا منكم ومنهم "وأضْعَفُ جُنْدا" أهم أم أنتم؟ ويتبينون حينئذٍ أيّ الفريقين خير مقاما، وأحسن نديا...

التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :

"قل" يا محمد "من كان في الضلالة" عن الحق والعدول عن اتباعه "فليمدد له الرحمن مدا" أي يمدهم ويحلم عنهم فلا يعاجلهم بالعقوبة، كما قال "ويمدهم في طغيانهم يعمهون" وإنما ذكر بلفظ الأمر ليكون آكد كأنه ألزم نفسه إلزاما كما يقول القائل: آمر نفسي، ويقول من زارني فلأكرمه، فيكون الزم من قوله أكرمه...

وقوله "حتى إذا رأوا ما يوعدون" أي شاهدوا ما وعدهم الله به "إما العذاب" والعقوبة على المعاصي "وإما" القيامة والمجازاة لكل أحد على ما يستحقه "فسيعلمون" حينئذ ويتحققون "من هو شر مكانا وأضعف جندا" آلكفار أم المؤمنين. وفى ذلك غاية التهديد في كونهم على ما هم عليه.

لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :

إن الله تعالى يُمْهِلُ الكفارَ ليركنوا إلى أباطيل ظنونهم، ويَغْترُّوا بسلامةِ أحوالهم، فينسونه في غفلة الإمهال والاغترار بسلامة أحوالهم، ثم يغشاهم التقدير بما يستوجب حسبانهم.

قوله: {حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ...} أي يحل بهم موعودُ العقوبة عاجلاً أو قيام الساعة آجلاً، فعند ذلك يتضح لهم ما تعامَوْا عنه من شدة الانتقام، وسيعلمون عند ذلك ما فاتهم وما أصابهم...

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

أي مدّ له الرحمن، يعني: أمهله وأملى له في العمر، فأخرج على لفظ الأمر إيذاناً بوجوب ذلك، وأنه مفعول لا محالة، كالمأمور به الممتثل، لتقطع معاذير الضالّ، ويقال له يوم القيامة {أَوَ لَمْ نُعَمّرْكُمْ مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ} [فاطر: 37] أو كقوله تعالى: {إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمَاً} [آل عمران: 178]. أو {مَن كَانَ فِي الضلالة فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرحمن مَدّاً} في معنى الدعاء بأن يمهله الله وينفس في مدّة حياته.

في هذه الآية وجهان؛

أحدهما: أن تكون متصلة بالآية التي هي رابعتها، والآيتان اعتراض بينهما، أي قالوا: أيّ الفريقين خير مقاماً وأحسن ندياً {حتى إِذَا رَأَوْاْ مَا يُوعَدُونَ} أي لا يبرحون يقولون هذا القول ويتولعون به لا يتكافون عنه إلى أن يشاهدوا الموعود رأي عين {إِمَّا العذاب} في الدنيا وهو غلبة المسلمين عليهم وتعذيبهم إياهم قتلاً وأسراً، وإظهار الله دينه على الدين كله على أيديهم. وإما يوم القيامة وما ينالهم من الخزي والنكال، فحينئذ يعلمون عند المعاينة أن الأمر على عكس ما قدروه، وأنهم شر مكاناً وأضعف جنداً، لا خير مقاماً وأحسن ندياً. وأن المؤمنين على خلاف صفتهم.

والثاني: أن تتصل بما يليها. والمعنى: أن الذين في الضلالة ممدود لهم في ضلالتهم، والخذلان لاصق بهم لعلم الله بهم، وبأن الألطاف لا تنفع فيهم وليسوا من أهلها.

والمراد بالضلالة: ما دعاهم من جهلهم وغلوّهم في كفرهم إلى القول الذي قالوه، ولا ينفكون عن ضلالتهم إلى أن يعاينوا نصرة الله المؤمنين أو يشاهدوا الساعة ومقدّماتها.

تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :

{قُلْ} يا محمد، لهؤلاء المشركين بربهم المدعين، أنهم على الحق وأنكم على الباطل: {مَنْ كَانَ فِي الضَّلالَةِ} أي: منا ومنكم، {فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا} أي: فأمهله الرحمن فيما هو فيه، حتى يلقى ربه وينقضي أجله، {إِمَّا الْعَذَابَ} يصيبه، {وَإِمَّا السَّاعَةَ} بغتة تأتيه، {فَسَيَعْلَمُونَ} حينئذ {مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضْعَفُ جُنْدًا} [أي]: في مقابلة ما احتجوا به من خيرية المقام وحسن الندي...

وهذه مباهلة للمشركين الذين يزعمون أنهم على هدى فيما هم فيه، كما ذكر تعالى مباهلة اليهود في قوله: {قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الجمعة: 6] أي: ادعوا على المبطل منا ومنكم بالموت إن كنتم تدعون أنكم على الحق، فإنه لا يضركم الدعاء، فنكلوا عن ذلك، وقد تقدم تقرير ذلك في سورة "البقرة "مبسوطا، ولله الحمد. وكما ذكر تعالى المباهلة مع النصارى في سورة "آل عمران" حين صمموا على الكفر، واستمروا على الطغيان والغلو في دعواهم أن عيسى ولد الله، وقد ذكر الله حُجَجه وبراهينه على عبودية عيسى، وأنه مخلوق كآدم، قال بعد ذلك: {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} [آل عمران: 61] فنكلوا أيضًا عن ذلك...

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

فكأنه قيل: فما يقال لهم؟ فقال: {قل} أي لهم رداً عليهم وقطعاً لمعاذيرهم وهتكاً لشبههم: هذا الذي افتخرتم به لا يدل على حسن الحال في الآخرة، بل على عكس ذلك، فقد جرت عادته سبحانه أنه {من كان في الضلالة} مثلكم كوناً راسخاً بسط له في الدنيا وطيب عيشه في ظاهر الحال فيها، ونعم بأنواع الملاذ، وعبر عن أن ذلك لا يكاد يتخلف عن غير من حكم بإلزامه المسكنة من اليهود بلام الأمر، إيذاناً بوجوده وجود المأمور به الممتثل في قوله: {فليمدد} وأشار إلى التحلي لهم بصفة الإحسان بقوله: {له الرحمن} أي العام الامتنان {مداً} في العاجلة بالبسط في الآثار، والسعة في الديار، والطول في الأعمار، وإنفاقها فيما يستلذ من الأوزار الكبار، فيزيده العزيز الجبار بذلك ضلالة، فيا له من خسار، وتباب وتبار، لمن له استبصار، ولا نزال نمد هل استدراجاً {حتى} وحقق أخذهم بأداة التحقيق فقال: {إذا رأوا} أي كل من كفر بالله بأعينهم وإن ادعوا أنهم يتعاضدون ويتناصرون، ولذلك جمع باعتبار المعنى {ما يوعدون} من قبل الله {إما العذاب} في الدنيا بأيدي المؤمنين أو غيرهم، أو في البرزخ {وإما الساعة} التي هم بها مكذبون، وعن الاستعداد لها معرضون، ولا شيء يشبه أهوالها، وخزيها ونكالها.

ولما كان الجواب: علموا أن مكانهم شر الأماكن، وأن جندهم أضعف الجنود، عبر عنه بقوله تهديداً: {فسيعلمون} إذا رأوا ذلك {من هو شر مكاناً} أي من جهة المكان الذي قوبل به المقام {وأضعف جنداً} هم أو المؤمنون، أي أضعف من جهة الجند الذي أشير به إلى النديّ، لأن القصد من فيه، وكأنه عبر بالجند لأن قصدهم المغالبة وما كل من في النديّ يكون مقاتلاً.

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

يعقب السياق بتلك اللفتة ثم يأمر الرسول [ص] أن يدعو عليهم في صورة مباهلة -بأن من كان من الفريقين في الضلالة فليزده الله مما هو فيه؛ حتى يأتي وعده في الدنيا أو في الآخرة:

(قل: من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مدا، حتى إذا رأوا ما يوعدون إما العذاب وإما الساعة فسيعلمون من هو شر مكانا وأضعف جندا، ويزيد الله الذين اهتدوا هدى والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير مردا)..

فهم يزعمون أنهم أهدى من أتباع محمد [ص] لأنهم أغنى وأبهى. فليكن! وليدع محمد ربه أن يزيد الضالين من الفريقين ضلالا، وأن يزيد المهتدين منهما اهتداء.. حتى إذا وقع ما يعدهم؛ وهو لا يعدو أن يكون عذاب الضالين في الدنيا بأيدي المؤمنين، أو عذابهم الأكبر يوم الدين- فعندئذ سيعرفون: أي الفريقين شر مكانا وأضعف جندا.

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

هذا جواب قولهم {أي الفريقين خير مقاماً وأحسن نَدِيّاً} [مريم: 73]. لقن الله رسوله صلى الله عليه وسلم كشف مغالطتهم أو شبهتهم؛ فأعلمهم بأن ما هم فيه من نعمة الدنيا إنما هو إمهال من الله إيّاهم، لأنّ ملاذ الكافر استدراج. فمعيار التفرقة بين النّعمة الناشئة عن رضى الله تعالى على عبده وبين النعمة التي هي استدراج لمن كفر به هو النظر إلى حال من هو في نعمة بين حال هدى وحال ضلال. قال تعالى في شأن الأولين: {من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون} [النحل: 97]. وقال في شأن الآخرين {أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون} [المؤمنون: 55، 56]. والمعنى: أن من كان منغمساً في الضلالة اغترّ بإمهال الله له فركبه الغرور كما ركبهم إذ قالوا {أي الفريقين خير مقاماً وأحسن ندياً}...

والمدّ: حقيقته إرخاء الحبل وإطالته، ويستعمل مجازاً في الإمهال كما هنا، وفي الإطالة كما في قولهم: مدّ الله في عمرك. و {مَدّاً} مفعول مطلق مؤكد لعامله، أي فليمدد له المدّ الشديد، فيسينتهي ذلك. و {حتى} لغاية المد، وهي ابتدائية، أي يمدّ له الرحمان إني أن يَروا ما يوعدون، أي لا محيص لهم عن رؤية ما أوعدوا من العذاب ولا يدفعه عنه طول مدّتهم في النّعمة. فتكون الغاية مضمون الجملة التي بعدها {حتى} لا لفظاً مفرداً. والتقدير: يمدّ لهم الرحمان حتى يروا العذاب فيعلموا من هو أسعد ومن هو أشقى...

وقوله {شرّ مكاناً وأضعف جنداً} مقابل قولهم {خيرٌ مقاماً وأحسن نديّاً} [مريم: 73] فالمكان يرادف المقام، والجند الأعوان، لأنّ الندي أريد به أهله كما تقدم، فقوبل {خيرٌ نديّاً} ب {أضعفُ جنداً}...