169- فجاء من بعد الذين ذكرناهم وقسمناهم إلى القسمين ، خلف سُوءٍ ورثوا التوراة عن أسلافهم ولكنهم لم يعملوا بها ، لأنهم يأخذون متاع الدنيا عوضا عن قول الحق ، ويقولون في أنفسهم : سيغفر اللَّه لنا ما فعلناه . يرجون المغفرة . والحال أنهم إن يأتهم شيء مثل ما أخذوه يأخذوه . فهم مصرون على الذنب مع طلب المغفرة ، ثم وبخهم الله على طلبهم المغفرة مع إصرارهم على ما هم عليه ، فقال : إنا أخذنا عليهم العهد في التوراة ، وقد درسوا ما فيها ، أن يقولوا الحق ، فقالوا الباطل ، وإن نعيم الدار الآخرة للذين يتقون المعاصي خير من متاع الدنيا . أتستمرون على عصيانكم فلا تعقلون أن ذلك النعيم خير لكم ، وتؤثرون عليه متاع الدنيا ؟
فلم يزالوا بين صالح وطالح ومقتصد ، حتى خلف من بعدهم خلف . زاد شرهم وَرِثُوا بعدهم الْكِتَابُ وصار المرجع فيه إليهم ، وصاروا يتصرفون فيه بأهوائهم ، وتبذل لهم الأموال ، ليفتوا ويحكموا ، بغير الحق ، وفشت فيهم الرشوة .
يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأدْنَى وَيَقُولُونَ مقرين بأنه ذنب وأنهم ظلمة : سَيُغْفَرُ لَنَا وهذا قول خال من الحقيقة ، فإنه ليس استغفارا وطلبا للمغفرة على الحقيقة .
فلو كان ذلك لندموا على ما فعلوا ، وعزموا على أن لا يعودوا ، ولكنهم - إذا أتاهم عرض آخر ، ورشوة أخرى - يأخذوه .
فاشتروا بآيات اللّه ثمنا قليلا واستبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير ، قال اللّه [ تعالى ] في الإنكار عليهم ، وبيان جراءتهم : أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلا الْحَقَّ فما بالهم يقولون عليه غير الحق اتباعا لأهوائهم ، وميلا مع مطامعهم .
و الحال أنهم قد دَرَسُوا مَا فِيهِ فليس عليهم فيه إشكال ، بل قد أَتَوْا أمرهم متعمدين ، وكانوا في أمرهم مستبصرين ، وهذا أعظم للذنب ، وأشد للوم ، وأشنع للعقوبة ، وهذا من نقص عقولهم ، وسفاهة رأيهم ، بإيثار الحياة الدنيا على الآخرة ، ولهذا قال : وَالدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ ما حرم اللّه عليهم ، من المآكل التي تصاب ، وتؤكل رشوة على الحكم بغير ما أنزل اللّه ، وغير ذلك من أنواع المحرمات .
أَفَلا تَعْقِلُونَ أي : أفلا يكون لكم عقول توازن بين ما ينبغي إيثاره ، وما ينبغي الإيثار عليه ، وما هو أولى بالسعي إليه ، والتقديم له على غيره . فخاصية العقل النظر للعواقب .
وأما من نظر إلى عاجل طفيف منقطع ، يفوت نعيما عظيما باقيا فأنى له العقل والرأي ؟
ثم قال تعالى : { فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ } يقول تعالى : فخلف من بعد ذلك الجيل الذين فيهم الصالح والطالح ، خلف آخر لا خير فيهم ، وقد ورثوا دراسة [ هذا ]{[12288]} الكتاب وهو التوراة - وقال مجاهد : هم النصارى - وقد يكون أعم من ذلك ، { يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأدْنَى } أي : يعتاضون عن بذل الحق ونشره بعَرَض الحياة الدنيا ، ويسرفون أنفسهم ويعدونها بالتوبة ، وكلما لاح لهم مثل الأول وقعوا فيه ؛ ولهذا قال : { وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ } كما قال سعيد بن جبير : يعملون الذنب ، ثم يستغفرون الله منه ، فإن عرض ذلك الذنب أخذوه .
وقول مجاهد في قوله : { يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأدْنَى } قال : لا يشرف لهم شيء من الدنيا إلا أخذوه ، حلالا كان أو حرامًا ، ويتمنون المغفرة ، ويقولون : { سَيُغْفَرُ لَنَا } وإن يجدوا عَرَضًا مثله يأخذوه .
وقال قتادة في : { فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ } أي : والله ، لخلف سوء ، ورثوا الكتاب بعد أنبيائهم ورسلهم ، ورثهم الله وعهد إليهم ، وقال الله في آية أخرى : { فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ } [ مريم : 59 ] ، قال { يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا } تمنوا على الله أماني ، وغرَّة يغترون بها ، { وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ } لا يشغلهم شيء عن شيء ، ولا ينهاهم شيء عن ذلك ، كلما هف لهم شيء من [ أمر ]{[12289]} الدنيا أكلوه ، ولا يبالون حلالا كان أو حرامًا .
وقال السُّدِّي [ في ]{[12290]} قوله : { فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ } إلى قوله : { وَدَرَسُوا مَا فِيهِ } قال : كانت بنو إسرائيل لا يستقضون قاضيا إلا ارتشى في الحكم ، وإن خيارهم اجتمعوا ، فأخذ بعضهم على بعض العهود ألا يفعلوا ولا يرتشى ، فجعل الرجل منهم إذا استقضى ارتشى ، فيقال له : ما شأنك ترتشي في الحكم ، فيقول : " سيغفر لي " ، فتطعن عليه البقية الآخرون من بني إسرائيل فيما صنع ، فإذا مات ، أو نزع ، وجعل مكانه رجل ممن كان يطعن عليه ، فيرتشي . يقول : وإن يأت الآخرين عرض الدنيا يأخذوه .
قال الله تعالى : { أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ } يقول تعالى منكرًا عليهم في صنيعهم هذا ، مع ما أخذ عليهم من الميثاق ليبينن الحق للناس ، ولا يكتمونه كقوله : { وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ } [ آل عمران : 187 ]
وقال ابن جُرَيْج : قال ابن عباس : { أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلا الْحَقَّ } قال : فيما يوجبون على الله من غفران ذنوبهم التي لا يزالون يعودون فيها ، ولا يتوبون منها .
وقوله تعالى : { وَالدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ } يرغبهم تعالى في جزيل ثوابه ، ويحذرهم من وبيل عقابه ، أي : وثوابي وما عندي خير لمن اتقى المحارم ، وترك هوى نفسه ، وأقبل على طاعة ربه .
{ أَفَلا تَعْقِلُونَ } يقول : أفليس لهؤلاء الذين اعتاضوا بعَرَض الدنيا عما عندي عقل يردعهم عما هم فيه من السفه والتبذير ؟
{ خلف } معناه حدث خلفهم و { بعدهم خلْف } بإسكان اللام يستعمل في الأشهر في الذم ومنه قول لبيد : [ الكامل ]
ذهب الذين يعاش في أكنافهم*** وبقيت في خلف كجلد الأجرب
وقد يستعمل في المدح ومنه قول حسان : [ الطويل ]
لنا القدم الأولى إليك وخلفنا*** لأولنا في طاعة الله تابع
والخلَف بفتح اللام يستعمل في الأشهر في المدح ، قال أبو عبيدة والزجاج : وقد يستعمل في الذم أيضاً ومنه قول الشاعر :
وقال مجاهد : المراد ب «الخلف » هاهنا النصارى وضعفه الطبري وقرأ جمهور الناس { ورثوا الكتاب } وقرأ الحسن بن أبي الحسن البصري «وُرّثوا الكتاب » بضم الواو وشد الراء ، وقوله { يأخذون عرض هذا الأدنى } إشارة إلى الرشا والمكاسب الخبيثة و «العرض » ما يعرض ويعن ولا يثبت ، و «الأدنى » إشارة إلى عيش الدنيا ، وقوله : { ويقولون سيغفر لنا } ذم لهم باغترارهم وقولهم : { سيغفر } مع علمهم بما في كتاب الله من الوعيد على المعاصي وإصرارهم عليهم وأنهم إذا أمكنتهم ثانية ارتكبوها فهؤلاء عجزة كما قال صلى الله عليه وسلم : «والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله ، فهؤلاء قطعوا بالمغفرة وهم مصرون وإنما يقول سيغفر لنا من أقلع وندم » .
وقوله تعالى : { ألم يؤخذ عليهم } الآية ، تشديد في لزوم الحق على الله في الشرع والأحكام بين الناس وأن لا تميل الرشا بالحكام إلى الباطل ، و { الكتاب } يريد به التوراة وميثاقها الشدائد التي فيها في هذا المعنى ، وقوله : { أن لا يقولوا على الله إلا الحق } يمكن أن يريد بذلك قولهم الباطل في حكومة مما يقع بين أيديهم ، ويمكن أن يريد قولهم سيغفر لنا وهم قد علموا الحق في نهي الله عن ذلك ، وقرأ جمهور الناس : «يقولوا » بياء من تحت وقرأ الجحدري : «تقولوا » بتاء من فوق وقوله : { ودرسوا } معطوف على قوله : { ألم يؤخذ } الآية بمعنى المضي ، يقدر : أليس قد أخذ عليهم ميثاق الكتاب ودرسوا ما فيه وبهذين الفعلين تقوم الحجة عليهم في قولهم الباطل ، وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي ، «واَّدارسوا » ما فيه وقال الطبري وغيره ، قوله : { ودرسوا } معطوف على قوله : { ورثوا الكتاب } .
قال القاضي أبو محمد : وفي هذا نظر لبعد المعطوف عليه لأنه قوله : { ودرسوا } يزول منه معنى إقامة الحجة بالتقدير الذي في قوله : { ألم } ثم وعظ وذكر تبارك وتعالى بقوله : { والدار الآخرة خير للذين يتقون } وقرأ جمهور الناس : «أفلا تعقلون » بالتاء من فوق وقرأ أبو عمرو وأهل مكة : «يعقلون » بالياء من أسفل .