4- وإن الأرض ذاتها فيها عجائب ، فيها قطع من الأرض يجاور بعضها بعضا ، وهي مختلفة التربة مع ذلك ، بعضها قاحل ، وبعضها خصب ، وإن اتحدت التربة ، ففيها حدائق مملوءة بكروم العنب ، وفيها زرع يحصد ، ونخيل مثمر ، وهي مجتمعة ومتفرقة ، ومع أنها تسقى بماء واحد يختلف طعمها ، وإن في هذه العجائب لدلائل واضحة علي قدرة الله لمن له عقل يفكر به{[102]} .
ومن الآيات على كمال قدرته وبديع صنعته أن جعل { فِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ } فيها أنواع الأشجار { مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ } وغير ذلك ، والنخيل التي بعضها { صِنْوَانٌ } أي : عدة أشجار في أصل واحد ، { وَغَيْرُ صِنْوَانٍ } بأن كان كل شجرة على حدتها ، والجميع { يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ } وأرضه واحدة { وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ } لونا وطعما ونفعا ولذة ؛ فهذه أرض طيبة تنبت الكلأ والعشب الكثير والأشجار والزروع ، وهذه أرض تلاصقها لا تنبت كلأ ولا تمسك ماء ، وهذه تمسك الماء ولا تنبت الكلأ ، وهذه تنبت الزرع والأشجار ولا تنبت الكلأ ، وهذه الثمرة حلوة وهذه مرة وهذه بين ذلك .
فهل هذا التنوع في ذاتها وطبيعتها ؟ أم ذلك تقدير العزيز الرحيم ؟
{ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } أي : لقوم لهم عقول تهديهم إلى ما ينفعهم ، وتقودهم إلى ما يرشدهم ويعقلون عن الله وصاياه وأوامره ونواهيه ، وأما أهل الإعراض ، وأهل البلادة فهم في ظلماتهم يعمهون ، وفي غيهم يترددون ، لا يهتدون إلى ربهم سبيلا ولا يعون له قيلا .
وقوله : { وَفِي الأرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ } أي : أراضٍ تجاور{[15432]} بعضها بعضا ، مع أن هذه طيبة تنبت ما ينتفع به الناس ، وهذه سَبَخة مالحة لا تنبت شيئا . هكذا روي عن ابن عباس ، ومجاهد ، وسعيد بن جُبَيْر ، والضحاك ، وغيرهم .
وكذا يدخل في هذه الآية اختلاف ألوان بقاع الأرض ، فهذه تربة حمراء ، وهذه بيضاء ، وهذه صفراء ، وهذه سوداء ، وهذه محجرة{[15433]} وهذه سهلة ، وهذه مرملة ، وهذه سميكة ، وهذه رقيقة ، والكل متجاورات . فهذه بصفتها ، وهذه بصفتها الأخرى ، فهذا كله مما يدل على الفاعل المختار ، لا إله إلا هو ، ولا رب سواه .
وقوله : { وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ } {[15434]} يحتمل{[15435]} أن تكون عاطفة على { جنات } فيكون { وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ } {[15436]} مرفوعين . ويحتمل أن يكون معطوفا على أعناب ، فيكون مجرورا ؛ ولهذا قرأ بكل منهما طائفة من الأئمة .
وقوله : { صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ } الصنوان : هي الأصول المجتمعة في منبت واحد ، كالرمان والتين وبعض النخيل ، ونحو ذلك . وغير الصنوان : ما كان على أصل واحد ، كسائر الأشجار ، ومنه سمي عم الرجل صنو أبيه ، كما جاء في الحديث الصحيح : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعمر : " أما شعرت{[15437]} أن عم الرجل صنو أبيه ؟ " {[15438]} .
وقال سفيان الثوري ، وشعبة ، عن أبى إسحاق ، عن البراء ، رضي الله عنه : الصنوان : هي النخلات في أصل واحد ، وغير الصنوان : المتفرقات . وقاله ابن عباس ، ومجاهد ، والضحاك ، وقتادة ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم .
وقوله : { يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأكُلِ } قال الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم : { وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأكُلِ } قال : " الدَّقَل والفارسي ، والحُلْو والحامض " . رواه الترمذي وقال : حسن غريب{[15439]} .
أي : هذا الاختلاف في أجناس الثمرات والزروع ، في أشكالها وألوانها ، وطعومها وروائحها ، وأوراقها وأزهارها .
فهذا في غاية الحلاوة وذا في غاية الحموضة ، وذا{[15440]} في غاية المرارة وذا عَفِص ، وهذا عذب وهذا{[15441]} جمع هذا وهذا ، ثم يستحيل إلى طعم آخر بإذن الله تعالى . وهذا أصفر وهذا أحمر ، وهذا أبيض وهذا أسود وهذا أزرق . وكذلك الزهورات مع أن كلها يستمد{[15442]} من طبيعة واحدة ، وهو الماء ، مع هذا الاختلاف الكبير الذي لا ينحصر ولا ينضبط ، ففي ذلك آيات لمن كان واعيا ، وهذا من أعظم الدلالات على الفاعل المختار ، الذي بقدرته فاوت بين الأشياء وخلقها على ما يريد ؛ ولهذا قال تعالى : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ }
القول في تأويل قوله تعالى : { وَفِي الأرْضِ قِطَعٌ مّتَجَاوِرَاتٌ وَجَنّاتٌ مّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَىَ بِمَآءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضّلُ بَعْضَهَا عَلَىَ بَعْضٍ فِي الاُكُلِ إِنّ فِي ذَلِكَ لاَيَاتٍ لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } .
يقول تعالى ذكره : وفي الأرْض قطَعٌ مُتَجاوِرَاتٌ : وفي الأرض قطع منها متقاربات متدانيات يقرب بعضها من بعض بالجوار ، وتختلف بالتفاضل مع تجاورها وقرب بعضها من بعض ، فمنها قطعة سَبِخة لا تنبت شيئا في جوار قطعة طيبة تنبت وتنفع .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن ليث ، عن مجاهد : وفي الأرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِرَاتٌ قال : السّبِخة والعَذِيَة ، والمالح والطيب .
حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا سفيان ، عن ليث ، عن مجاهد ، قوله : وفِي الأرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِرَاتٌ قال : سباخ وعُذُوبة .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو نعيم ، قال : حدثنا سفيان ، عن ليث ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا الحسن بن محمد ، قال : حدثنا سعيد بن سليمان ، قال : حدثنا إسحاق بن سليمان ، عن أبي سنان ، عن ابن عباس في قوله : وفِي الأرْضِ قِطَعٌ مُتَجاورَاتٌ قال : العَذِية والسّبِخة .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : وفِي الأرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِرَاتٌ يعني : الأرض السّبِخة ، والأرض العَذِية ، يكونان جميعا متجاورات ، نفضل بعضها على بعض في الأُكل .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس : قِطَعٌ مُتَجاوِرَاتٌ العَذِية والسّبِخة متجاورات جميعا ، تنبت هذه ، وهذه إلى جنبها لا تنبت .
حدثنا الحسن بن محمد ، قال : حدثنا شبابة ، قال : حدثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : قِطَعٌ مُتَجاوِرَاتٌ طيبها : عَذِيّهَا ، وخبيثها : السباخ .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، بنحوه .
قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وفِي الأرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِرَاتٌ قرى قربت متجاورات بعضها من بعض .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : وفِي الأرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِرَاتٌ قال : قُرًى متجاورات .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا هشيم ، عن أبي إسحاق الكوفيّ ، عن الضحاك ، في قوله : قِطَعٌ مُتَجاوِرَاتٌ قال : الأرض السّبِخة تليها الأرض العَذِية .
حُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : حدثنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : وفِي الأرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِرَاتٌ يعني الأرض السّبِخة والأرضِ العَذِية ، متجاورات بعضها عند بعض .
حدثنا الحارث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس ، في قوله : وفِي الأرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِرَاتٌ قال : الأرض تنبت حلُوا ، والأرض تنبت حامضا ، وهي متجاورة تُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ .
حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : وفِي الأرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِرَاتٌ قال : يكون هذا حلُوا وهذا حامضا ، وهو يُسْقى بماء واحد ، وهنّ متجاورات .
حدثني عبد الجبار بن يحيى الرمليّ ، قال : حدثنا ضَمْرة بن ربيعة ، عن ابن شوذب في قوله : وفِي الأرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِرَاتٌ قال : عذية ومالحة .
وقوله : وَجَنّاتٌ مِنْ أعْنابِ وَزَرْعٌ ونَخِيلٌ صِنْوَانٌ وغيرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ ونُفَضّلُ بَعْضَها على بَعْضٍ فِي الأُكُلِ يقول تعالى ذكره : وفي الأرض مع القطع المختلفات المعاني منها ، بالملوحة والعذوبة ، والخبيث والطيب ، مع تجاورها وتقارب بعضها من بعض ، بساتينُ من أعناب وزرع ونخيل أيضا ، متقاربة في الخِلقة مختلفة في الطعوم والألوان ، مع اجتماع جميعها على شِرب واحد ، فمِنْ طيّبٍ طعمُه منها حَسَنٍ منظره طيبة رائحته ، ومِن حامض طعمه ولا رائحة له .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، في قوله : وَجَنّاتٌ مِنْ أعْنابٍ وَرَرْعٌ ونَخِيلٌ صِنْوَانٍ وغير صْنَوان قال : مجتمع وغير مجتمع . يُسْقَى بِمَاءٍ واحِد ونُفَصّلُ بَعْضَها على بَعْضٍ فِي الأُكُلِ قال : الأرض الواحدة يكون فيها الخَوْخ والكمثري والعنب الأبيض والأسود ، وبعضها أكثر حملاً من بعض ، وبعضه حلو ، وبعضه حامض ، وبعضه أفضل من بعض .
حدثنا الحسن بن محمد ، قال : حدثنا شبابة ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : وَجَنّاتٌ قال : وما معها .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قال المثنى ، وثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
واختلفت القرّاء في قراءة قوله : وَزَرْعٌ ونَخِيلٌ فقرأ ذلك عامة قرّاء أهل المدينة والكوفة : «وَزَرْعٍ ونَخِيلٍ » بالخفض عطفا بذلك على «الأعناب » ، بمعنى : وفي الأرض قطع متجاورات ، وجنّات من أعناب ومن زرع ونخيل . وقرأ ذلك بعض قرّاء أهل البصرة : وزَرْعٌ ونَخِيلٌ بالرفع عطفا بذلك على «الجنات » ، بمعنى : وفي الأرض قطع متجاورات وجنات من أعناب ، وفيها أيضا زرع ونخيل .
والصواب من القول في ذلك أن يقال : إنهما قراءتان متقاربتا المعنى ، وقرأ بكلّ واحدة منهما قرّاء مشهورون ، فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب وذلك أن الزرع والنخل إذا كانا في البساتين فهما في الأرض ، وإذا كانا في الأرض فالأرض التي هما فيها جنة ، فسواءٌ وصفا بأنهما في بستان أو في أرض .
وأما قوله : ونَخِيلٌ صِنْوَانٌ وغيرُ صِنْوَانٍ فإن الصنوان : جمع صنو ، وهي النخَلات يجمعهن أصل واحد ، لا يفرّق فيه بين جميعه واثْنيه إلاّ بالإعراب في النون ، وذلك أن تكون نونه في اثنيه مكسورة بكل حال ، وفي جميعه متصرّفة في وجوه الإعراب ، ونظيره القِنْوان : واحدها قِنْو .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن البراء : صِنْوَانٌ قال : المجتمع ، وغيرُ صِنْوَانٍ : المتفرّق .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، قال : حدثنا الحسين ، عن أبي إسحاق ، عن البراء ، قال : صِنْوَانٌ : هي النخلة التي إلى جنبها نخلات إلى أصلها ، وغيرُ صِنْوَانٍ : النخلة وحدها .
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن البراء بن عازب : صِنْوَانٌ وغيرُ صِنْوَانٍ قال : الصنوان : النخلتان أصلهما واحد ، وغيرُ صِنْوَانٍ النخلة والنخلتان المتفرّقتان .
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن أبي إسحاق ، قال : سمعت البرَاء يقول في هذه الآية ، قال : النخلة يكون لها النخلات ، وغيرُ صِنْوَانٍ النخل المتفرّق .
حدثنا الحسن بن محمد ، قال : حدثنا عمرو بن الهيثم أبو قطن ، ويحيى بن عباد وعفان ، واللفظ لفظ أبي قَطَن ، قال : حدثنا شعبة ، عن أبي إسحاق ، عن البراء ، في قوله : صِنْوَانٌ وغيرُ صِنْوَانٍ قال : الصنوان : النخلة التي جنبها النخَلات ، وغيرُ صنْوَانٍ : المتفرّق .
حدثنا الحسن ، قال : حدثنا شبابة ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن البراء في قوله : صِنْوَانٌ وغيرُ صَنْوَانٍ قال : الصنوان : النخلات الثلاث والأربع والثنتان أصلهنّ واحد ، وغير صنوان : المتفرّق .
حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا سفيان وشريك ، عن أبي إسحاق ، عن البراء في قوله : صِنْوَانٌ وغيرُ صِنْوَانٍ قال : النخلتان يكون أصلهما واحد ، وغير صنوان : المتفرّق .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : صِنْوَانٌ يقول : مجتمع .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : ونَخِيلٌ صِنْوَانٌ وغيرُ صِنْوانِ يعني بالصنوان : النخلة يخرج من أصلها النخَلات ، فَيحمِل بعضه ولا يحمل بعضه ، فيكون أصله واحدا ورؤوسه متفرّقة .
حدثني الحارث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، في قوله : صِنْوَانٌ وغيرٌ صِنْوَانٍ النخيل في أصل واحد ، وغير صنوانٍ : النخيل المتفرّق .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن عطاء ، عن سعيد بن جبير : ونَخيلٌ صِنْوَانٌ وغيرُ صِنْوَانٍ قال : مجتمع ، وغير مجتمع .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا النفيلي ، قال : حدثنا زهير ، قال : حدثنا أبو إسحاق ، عن البرَاء ، قال : الصنوان : ما كان أصله واحدا وهو متفرّق ، وغير صنوان : الذي نبت وحده .
حدثنا الحسن بن محمد ، قال : حدثنا شبابة ، قال : حدثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : صِنْوَانٌ النخلتان وأكثر في أصل واحد ، وَغيرُ صِنْوَانٍ وحدها .
حدثنا المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : صِنْوَانٌ : النخلتان أو أكثر في أصل واحد ، وغيرُ صِنْوَانٍ واحدة .
قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع ، عن سلمة بن نبيط ، عن الضحاك : صِنْوَانٌ وغيرُ صِنْوَانٍ قال : الصنوان : المجتمع أصله واحد ، وغير صنوان : المتفرّق أصله .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عمرو بن عون ، قال : أخبرنا هشيم ، عن جويبر ، عن الضحاك ، في قوله : صِنْوانٌ وغيرُ صِنْوَانٍ قال : الصنوان : المجتمع الذي أصله واحد ، وغير صنوان : المتفرّق .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ونَخِيلٌ صِنْوَانٌ وغيرُ صِنْوانٍ أما الصنوان : فالنخلتان والثلاث أصولهنّ واحدة وفروعهنّ شتى ، وغير صنوان : النخلة الواحدة .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : صِنْوَانٌ وغيرُ صِنْوَانٍ قال : صنوان : النخلة التي يكون في أصلها نخلتان وثلاث أصلهنّ واحد .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد قوله : ونَخِيلٌ صِنْوَانٌ وغيرُ صِنْوَانٍ قال : الصنوان : النخلتان أو الثلاث يكنّ في أصل واحد ، فذلك يعدّه الناس صنوانا .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، قال : حدثني رجل أنه كان بين عمر بن الخطاب وبين العباس قول ، فأسرع إليه العباس ، فجاء عمر إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا رسول الله ، ألم تر عباسا فعل بي وفعل ، فأردت أن أجيبه ، فذكرت مكانه منك فكففت فقال : «يَرْحَمُكَ اللّهُ إنّ عَمّ الرّجُلِ صِنْوُ أبِيهِ » .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة : صِنْوَانٌ : النخلة التي يكون في أصلها نخلتان وثلاث أصلهنّ واحد قال : فكان بين عمر بن الخطاب وبين العباس رضي الله عنهما قول ، فأسرع إليه العباس ، فجاء عمر إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال : يا نبيّ الله ألم تر عباسا فعل بي وفعل ؟ فأردت أن أجيبه ، فذكرت مكانه منك فكففت عند ذلك ، فقال : «يَرْحَمُكَ اللّهُ إنّ عَمّ الرّجُلِ صِنْوُ أبِيهِ » .
قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا ابن عيينة ، عن داود بن شابور ، عن مجاهد ، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم ، قال : «لا تُؤْذُونِي فِي العَبّاسِ فإنّهُ بَقِيّةُ آبائِي ، وإنّ عَمّ الرّجُلِ صِنْوُ أبِيهِ » .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا حجاج ، عن عطاء ، وابن أبي مليكة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعمر : «يا عُمَرُ أما عَلِمْتَ أنّ عَمّ الرّجُلِ صِنْوُ أبِيهِ ؟ » .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : أخبرني القاسم بن أبي بَزّة ، عن مجاهد : صِنْوَانٌ قال : في أصل ثلاث نَخَلات ، كمثل ثلاثة بني أمّ وأب يتفاضلون في العمل ، كما يتفاضل ثمر هذه النخلات الثلاث في أصل واحد . قال ابن جريج : قال مجاهد : كمثل صالح بني آدم وخبيثهم أبوهم واحد .
حدثنا الحسن بن محمد ، قال : حدثنا حجاج بن محمد ، عن ابن جريج ، قال : أخبرني إبراهيم بن أبي بكر بن عبد الله ، عن مجاهد ، نحوه .
حدثني القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن أبي بكر بن عبد الله ، عن الحسن ، قال : هذا مثل ضربه الله لقلوب بني آدم كان الأرض في يد الرحمن طينة واحدة ، فسَطَحها وبطَحَها ، فصارت الأرض قطعا متجاورات ، فينزل عليها الماء من السماء ، فتخرج هذه زهرتها وثمرها وشجرها وتخرج نباتها وتحيي مواتها ، وتخرج هذه سَبَخها ومِلْحها وخَبثها ، وكلتاهما تُسقى بماء واحد ، فلو كان الماء مالحا ، قيل : إنما استسبخت هذه من قبل الماء ، كذلك الناس خلقوا من آدم ، فينزل عليهم من السماء تذكرة ، فترقّ قلوب فتخشع وتخضع ، وتقسو قلوب فتلهو وتسهو وتجفو . قال الحسن : والله ما جالس القرآنَ أحدٌ إلاّ قام بزيادة أو نقصان ، قال الله : ونُنَزّلُ مِنَ القُرآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ للْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظّالِمِينَ إلاّ خَسارًا .
وقوله : «تُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ » اختلفت القرّاء في قوله «تُسْقَى » ، فقرأ ذلك عامّة قرّاء أهل المدينة والعراق من أهل الكوفة والبصرة : «تُسْقَى » بالتاء ، بمعنى : تسقى الجنات والزرع والنخيل . وقد كان بعضهم يقول : إنما قيل : «تُسقى » بالتاء لتأنيث الأعناب . وقرأ ذلك بعض المكيين والكوفيين : يُسْقَى بالياء . وقد اختلف أهل العربية في وجه تذكيره إذا قرىء كذلك ، وإنما ذلك خبر عن الجنات والأعناب والنخيل والزرع أنها تسقى بماء واحد ، فقال بعض نحويّي البصرة : إذا قرىء ذلك بالتاء ، فذلك على الأعناب كما ذكّر الأنعام في قوله : ما فِي بُطُونِهِ وأنّث بعدُ فقال : وَعَلَيْها وَعلى الفُلْكِ تُحْمَلُونَ فمن قال : يُسْقَى بالياء جعل الأعناب مما تذكر وتؤنث ، مثل الأنعام . وقال : بعض نحويي الكوفة : من قال «تُسْقَى » ذهب إلى تأنيث الزرع والجنات والنخيل ، ومن ذكّر ذهب إلى أن ذلك كله يسقى بماء واحد ، وأكله مختلف حامض وحلو ، ففي هذا آية .
وأعجب القراءتين إليّ أن أقرأ بها ، قراءة من قرأ ذلك بالتاء : «تُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ » على أن معناه : تسقى الجنات والنخل والزرع بماء واحد لمجيء «تسقى » بعد ما قد جرى ذكرها ، وهي جماع من غير بني آدم ، وليس الوجه الاَخر بممتنع على معنى يسقى ذلك بماء واحد : أي جميع ذلك يسقى بماء واحد عذب دون المالح .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا الحسن بن محمد ، قال : حدثنا شبابة ، قال : حدثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : «تُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ » ماء السماء كمثل صالح بني آدم وخبيثهم أبوهم واحد .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن ليث ، عن مجاهد : «تُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ » قال : ماء السماء .
حدثني أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا سفيان ، عن ليث ، عن مجاهد ، مثله .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : أخبرنا هشيم ، عن أبي إسحاق الكوفي ، عن الضحاك : «تُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ » قال : ماء المطر .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا سويد ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، قرأه ابن جريج ، عن مجاهد : «تُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ » قال : ماء السماء ، كمثل صالح بني آدم وخبيثهم أبوهم واحد .
قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل وحدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، بنحوه .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، نحوه .
حدثنا عبد الجبار بن يحيى الرملي ، قال : حدثنا ضمرة بن ربيعة ، عن ابن شوذب : «تُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ » قال : بماء السماء .
وقوله : وَنُفَضّلُ بَعْضَها على بَعْضٍ فِي الأُكُلِ اختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأه عامة قرّاء المكيين والمدنيين والبصريين وبعض الكوفيين : ونُفَضّلُ بالنون بمعنى : ونفضل نحن بعضها على بعض في الأكل . وقرأته عامُة قرّاء الكوفيين : «ويفضل » بالياء ، ردا على قوله : يُغْشِي اللّيْلَ النّهارَ ويفضل بعضها على بعض . وهما قراءتان مستفيضتان بمعنى واحد ، فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب ، غير أن الياء أعجبهما إليّ في القراءة ، لأنه في سياق كلام ابتداؤه «الله الذي رفع السموات » فقراءته بالياء إذ كان كذلك أولى .
ومعنى الكلام : أن الجنات من الأعناب والزرع والنخيل ، الصنوان وغير الصنوان ، تسقى بماء واحد عذب لا ملح ، ويخالف الله بين طعوم ذلك ، فيفضل بعضها على بعض في الطعم ، فهذا حلو وهذا حامض .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن عطاء ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : وَنُفَضّلُ بَعْضَها على بَعْضٍ فِي الأُكُلِ قال : الفارسي والدّقَل والحلو والحامض .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير : وَنُفَضّلُ بَعْضَها على بَعْضٍ فِي الأُكُلِ قال : الأرض الواحدة يكون فيها الخوخ والكمثري والعنب الأبيض والأسود ، وبعضها أكثر حملاً من بعض ، وبعضه حلو وبعضه حامض ، وبعضه أفضل من بعض .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عارم أبو النعمان ، قال : حدثنا حماد بن زيد ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير : وَنُفَضّلُ بَعْضَها على بَعْضٍ فِي الأُكُلِ قال : برنيّ وكذا وكذا ، وهذا بعضه أفضل من بعض .
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا مؤمل ، قال : حدثنا سفيان ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، في قوله : وَنُفَضّلُ بَعْضَها على بَعْضٍ فِي الأُكُلِ قال : هذا حامض ، وهذا حلو ، وهذا مزّ .
حدثني محمود بن خداش ، قال : حدثنا سيف بن محمد بن أحمد ، عن سفيان الثوري ، قال : حدثنا الأعمش عن أبي صالح ، عن أبي هريرة ، قال : قال النبيّ صلى الله عليه وسلم في قوله : وَنُفَضّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ قال : «الدّقَلُ والفَارِسيّ والحُلْوُ والحَامِضُ » .
حدثنا أحمد بن الحسن الترمذي ، قال : حدثنا سليمان بن عبد الله الرقي ، قال : حدثنا عبيد الله بن عمر الرقي ، عن زيد بن أبي أنيسة ، عن الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ، في قوله : وَنُفَضّلُ بَعْضَها على بَعْضٍ فِي الأُكُلِ قال : «الدّقَلُ والفَارِسِيّ والحُلْوُ والحَامِضُ » .
وقوله : إنّ فِي ذلكَ لاَياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ يقول تعالى ذكره : إن في مخالفة الله عزّ وجلّ بين هذا القطع من الأرض المتجاورات وثمار جناتها وزروعها على ما وصفنا وبينا لدليلاً واضحا وعبرة لقوم يعقلون اختلاف ذلك ، أن الذي خالف بينه على هذا النحو الذي خالف بينه ، هو المخالف بين خلقه فيما قسم لهم من هداية وضلال وتوفيق وخذلان ، فوفق هذا وخذل هذا ، وهدى ذا وأضلّ ذا ، ولو شاء لسوّى بين جميعهم ، كما لو شاء سوّى بين جميع أُكل ثماء الجنة التي تشرب شربا واحدا ، وتسقى سقيا ( واحدا ) ، وهي متفاضلة في الأكل .
وقوله تعالى : { وفي الأرض قطع . . . } الآية ، «القطع » : جمع قطعة وهي الأجزاء ، وقيد منها في هذا المثال ما جاور وقرب بعضه من بعض ، لأن اختلاف ذلك في الأكل أغرب{[6890]} .
وقرأ الجمهور «وجناتٌ » بالرفع ، عطفاً على { قطع } ، وقرأ الحسن بن أبي الحسن «وجناتٍ » بالنصب بإضمار فعل ، وقيل : هو عطف على { رواسي } ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحفص - عن عاصم - «وزرعٌ ونخيلٌ صنوانٌ وغيرُ » بالرفع في الكل - عطفاً على { قطع } - وقرأ الباقون : «وزرعٍ » بالخفض في الكل - عطفاً على { أعناب } وجعل الجنة من الأعناب من رفع الزرع .
و «الجنة » حقيقة إنما هي الأرض التي فيها الأعناب وفي ذلك تجوز ومنه قول الشاعر : [ زهير بن أبي سلمى ] [ البسيط ]
كأن عيني في غربي مقتلة *** من النواضح تسقي جنة سحقا{[6891]}
أي نخيل جنة ، إذ لا توصف بالسحق إلا النخل ، ومن خفض «الزرع » ف «الجنات » من مجموع ذلك لا من الزرع وحده ، لأنه لا يقال للمزرعة جنة إلا إذا خالطتها شجرات{[6892]} .
و { صنوان } جمع صنو ، وهو الفرع يكون مع الآخر في أصل واحد ، وربما كان أكثر من فرعين ، قال البراء بن عازب : الصنوان : المجتمع ، «وغير الصنوان » المتفرق فرداً فرداً ، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم : «العم صنو الأب »{[6893]} وروي أن عمر بن الخطاب أسرع إليه العباس في ملاحاة فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : أردت يا رسول الله أن أقول يا رسول الله لعباس ، فذكرت مكانك منه فسكت ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «يرحمك الله يا عمر العم صنو الأب » وفي كتاب الزكاة من صحيح مسلم أنه قال : «يا عمر أما شعرت أن العم صنو الأب » وجمع الصنو صنوان{[6894]} ، وهو جمع مكسر ، قال أبو علي : وكسرة الصاد في الواحد ليست التي في الجمع ، وهو جار مجرى فلك . وتقول : صنو وصنوان في الجمع بتنوين النون وإعرابه .
وقرأ عاصم - في رواية القواس عن حفص - «صُنوان » بضم الصاد قال أبو علي : هو مثل ذئب وذؤبان .
قال القاضي أبو محمد : وهي قراءة ابن مصرف وأبي عبد الرحمن السلمي ، وهي لغة تميم وقيس ، وكسر الصاد هي لغة أهل الحجاز ، وقرأ الحسن وقتادة «صَنوان » بفتح الصاد وهو اسم جمع لا جمع ونظير هذه الللفظة : قنو وقنوان ، وإنما نص على «الصنوان » في هذه الآية لأنها بمثابة التجاوز في القطع ، تظهر فيه غرابة اختلاف الأكل .
وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وحمزة والكسائي والحسن وأبو جعفر وأهل مكة : «تسقى » بالتاء ، وأمال حمزة والكسائي القاف . وقرأ عاصم وابن عامر «يسقى » بالياء ، على معنى يسقى ما ذكر . وقرأ الجمهور «نفضل » بالنون وقرأ حمزة والكسائي «ويفضل » بالياء ، وقرأ ابن محيصن : «يسقى بماء واحد ، ويفضل » بالياء فيهما ، وقرأ يحيى بن يعمر وأبو حيوة «ويفضَّل » بالياء وفتح الضاد «بعضُها » بالرفع ، قال أبو حاتم : وجدته كذلك في نقط يحيى بن يعمر في مصحفه - وهو أول من نقط المصاحف .
و { الأكل } اسم ما يؤكل ، بضم الهمزة ، والأكل المصدر .
وقرأت فرقة «في الأُكُل » بضم الهمزة والكاف ، وقد تقدم هذا في البقرة{[6895]} وحكى الطبري عن غير واحد - ابن عباس وغيره - { قطع متجاورات } أي واحدة سبخة ، وأخرى عذبة ، ونحو هذا من القول ، وقال قتادة المعنى : قرى متجاورات .
قال القاضي أبو محمد : وهذا وجه من العبرة كأنه قال : وفي الأرض قطع مختلفات بتخصيص الله لها بمعانٍ فهي «تسقى بماء واحد » ، ولكن تختلف فيما تخرجه والذي يظهر من وصفه لها بالتجاور إنما هو أنها من تربة واحدة ونوع واحد ، وموضع العبرة في هذا أبين لأنها مع اتفاقها في التربة والماء ، تفضل القدرة والإرادة بعض أكلها على بعض ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم - حين سئل عن هذه الآية - فقال :
«الدقل والفارسي{[6896]} والحلو والحامض{[6897]} » وعلى المعنى الأول قال الحسن : هذا مثل ضربه الله لقلوب بني آدم : كانت الأرض في يد الرحمن طينة واحدة فسطحها فصارت قطعاً متجاورة فينزل عليها ماء واحد من السماء - فتخرج هذه زهرة وثمرة ، وتخرج هذه سبخة وملحاً وخبثاً ، فكذلك الناس : خلقوا من آدم فنزلت عليهم من السماء تذكرة -فرقت قلوب وخشعت ، وقست قلوب ولهت وجفت : قال الحسن : فوالله ما جالس أحد القرآن إلا قام عنه بزيادة أو نقصان ، قال الله تعالى : { وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خساراً }{[6898]} [ الإسراء : 82 ] .
والتفضيل في الأكل [ يشمل ]{[6899]} الأذواق والألوان والملمس وغير ذلك .
لله بلاغة القرآن في تغيير الأسلوب عند الانتقال إلى ذكر النعم الدالة على قدرة الله تعالى فيما ألهم الناس من العمل في الأرض بفلحها وزرعها وغرسها والقيام عليها ، فجاء ذلك معطوفاً على الأشياء التي أسند جَعْلها إلى الله تعالى ، ولكنه لم يسند إلى الله حتى بلغ إلى قوله : { ونفضل بعضها على بعض في الأكل } ، لأن ذلك بأسرار أودعها الله تعالى فيها هي موجب تفاضلها . وأمثال هذه العِبر ، ولَفْتِ النظر مما انفرد به القرآن من بين سائر الكتب .
وأعيد اسم { الأرض } الظاهر دون ضميرها الذي هو المقتضَى ليستقل الكلام ويتجدد الأسلوب ، وأصل انتظام الكلام أن يقال : جَعل فيها زوجين اثنين ، وفيها قطعٌ متجاورات ، فعدل إلى هذا توضيحاً وإيجازاً .
والقِطع : جمع قِطعة بكسر القاف ، وهي الجزء من الشيء تشبيهاً لها بما يقتطع . وليس وصف القِطع بمتجاورات مقصوداً بالذات في هذا المقام إذ ليس هو محل العبرة بالآيات ، بل المقصود وصفٌ محذوف دل عليه السياق تقديره ؛ مختلفات الألوان والمنابت ، كما دل عليه قوله : { ونفضل بعضها على بعض في الأكل } .
وإنما وصفت بمتجاورات لأن اختلاف الألوان والمنابت مع التجاور أشد دلالة على القدرة العظيمة ، وهذا كقوله تعالى : { ومن الجبال جُدَدٌ بِيض وحُمر مختلفٌ ألوانها وغرابيب سود } [ فاطر : 27 ] .
فمعنى { قطع متجاورات } بقاعٌ مختلفة مع كونها متجاورةً متلاصقة .
والاقتصار على ذكر الأرض وقِطعها يشير إلى اختلاف حاصل فيها عن غير صنع الناس وذلك اختلاف المراعي والكلأ . ومجرد ذكر القطَع كاف في ذلك فأحالهم على المشاهدة المعروفة من اختلاف منابت قطع الأرض من الأبّ والكلإ وهي مراعي أنعامهم ودوابّهم ، ولذلك لم يقع التعرض هنا لاختلاف أُكله إذ لا مذاق للآدمي فيه ولكنه يختلف شَرعهُ بعض الحيوان على بعضه دون بعض .
وتقدم الكلام على { وجنات من أعناب } عند قوله تعالى : { ومن النخل من طلعها قنوان دانية وجنات من أعناب } [ الأنعام : 99 ] .
والزرع تقدم في قوله : { والنخل والزرع مختلفا أكله } [ الأنعام : 141 ] .
والنخيل : اسم جمع نخلة مثل النخل ، وتقدم في تلك الآية ، وكلاهما في سورة الأنعام .
والزرع يكون في الجنات يزرع بين أشجارها .
وقرأ الجمهور { وزرع ونخيل } بالجر عطفاً على { أعناب } ، وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وحفص ، ويعقوب بالرفع عطفاً على { جنات } . والمعنى واحد لأن الزرع الذي في الجنات مساوٍ للذي في غيرها فاكتُفي به قضاء لحق الإيجاز . وكذلك على قراءة الرفع هو يغني عن ذكر الزرع الذي في الجنات ، والنخل لا يكون إلاّ في جنات .
وصنوان : جمع صِنو بكسر الصاد في الأفصح فيهما وهي لغة الحجاز ، وبضمها فيهما أيضاً وهي لغة تميم وقيسسٍ . والصنو : النخلة المجتمعة مع نخلة أخرى نابتتين في أصل واحد أو نخلات .
الواحد صنو والمثنى صنواننِ بدون تنوين ، والجمع صِنوانٌ بالتنوين جمع تكسير . وهذه الزنة نادرة في صيغ أو الجموع في العربية لم يحفظ منها إلا خمسةُ جموع : صِنو وصنوانٌ ، وقِنْو وقنوانٌ ، وزِيدٍ بمعنى مِثْل وزِيدَاننٍ ، وشِقْذ ( بذال معجمة اسم الحرباء ) وشِقذان ، وحِشّ ( بمعنى بستان ) وحِشانٍ .
وخصّ النخل بذكر صفة صنوان لأن العبرة بها أقوى . ووجه زيادة { وغير صنوان } تجديد العبرة باختلاف الأحوال .
وقرأ الجمهور { صنوان وغير صنوان } بجر { صنوان } وجر { وغير } عطفاً على { زرع } . وقرأهما ابن كثير ، وأبو عمرو ، وحفص ، ويعقوب بالرفع عطفاً على { وجنات } .
والسقي : إعطاء المشروب . والمراد بالماء هنا ماء المطر وماء الأنهار وهو واحد بالنسبة للمسقى ببعضه .
والتفضيل : منة بالأفضل وعبرة به وبضده وكناية عن الاختلاف .
وقرأ الجمهور { تُسقَى } بفوقية اعتباراً بجمع { جنات } ، وقرأه ابن عامر ، وعاصم ، ويعقوب { يسقى } بتحتية على تأويل المذكور .
وقرأ الجمهور { ونفضل } بنون العظمة ، وقرأه حمزة ، والكسائي ، وخلف { ويفضل } بتحتية . والضمير عائد إلى اسم الجلالة في قوله : { الله الذي رفع السماوات بغير عمد } . وتأنيث { بعضها } عند من قرأ { يسقى } بتحتية دون أن يقول بعضه لأنه أريد يفضل بعض الجنات على بعض في الثمرة .
والأُكْل : بضم الهمزة وسكون الكاف هو المأكول . ويجوز في اللغة ضم الكاف .
وظرفية التفضيل في { الأكل } ظرفية في معنى الملابسة لأن التفاضل يظهر بالمأكول ، أي نفضل بعض الجنات على بعض أو بعض الأعناب والزرع والنخيل على بعض من جنسه بما يثمره . والمعنى أن اختلاف طعومه وتفاضلها مع كون الأصل واحداً والغذاء بالماء واحداً ما هو إلا لقوى خفيّة أودعها الله فيها فجاءت آثارها مختلفة .
ومن ثم جاءت جملة { إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون } مجيء التذييل .
وأشار قوله : { ذلك } إلى جميع المذكور من قوله : { وهو الذي مدّ الأرض } [ سورة الرعد : 3 ] . وقد جعل جميع المذكور بمنزلة الظرف للآيات . وجعلت دلالته على انفراده تعالى بالإلهية دلالات كثيرة إذ في كل شيء منها آية تدل على ذلك .
ووصفت الآيات بأنها من اختصاص الذين يعقلون تعريضاً بأن من لم تقنعهم تلك الآيات منزّلون منزلة من لا يعقل . وزيد في الدلالة على أن العقل سجية للذين انتفعوا بتلك الآيات بإجراء وصف العقل على كلمة { قَوم } إيماء إلى أن العقل من مقومات قوميتهم كما بيناه في الآية قبلها .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره:"وفي الأرْض قطَعٌ مُتَجاوِرَاتٌ": وفي الأرض قطع منها متقاربات متدانيات يقرب بعضها من بعض بالجوار، وتختلف بالتفاضل مع تجاورها وقرب بعضها من بعض، فمنها قطعة سَبِخة لا تنبت شيئا في جوار قطعة طيبة تنبت وتنفع...
وقوله: "وَجَنّاتٌ مِنْ أعْنابِ وَزَرْعٌ ونَخِيلٌ صِنْوَانٌ وغيرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ ونُفَضّلُ بَعْضَها على بَعْضٍ فِي الأُكُلِ "يقول تعالى ذكره: وفي الأرض مع القطع المختلفات المعاني منها، بالملوحة والعذوبة، والخبيث والطيب، مع تجاورها وتقارب بعضها من بعض، بساتينُ من أعناب وزرع ونخيل أيضا، متقاربة في الخِلقة مختلفة في الطعوم والألوان، مع اجتماع جميعها على شِرب واحد، فمِنْ طيّبٍ طعمُه منها حَسَنٍ منظره طيبة رائحته، ومِن حامض طعمه ولا رائحة له...
وأما قوله: "ونَخِيلٌ صِنْوَانٌ وغيرُ صِنْوَانٍ "فإن الصنوان: جمع صنو، وهي النخَلات يجمعهن أصل واحد... عن البراء، قال: صِنْوَانٌ: هي النخلة التي إلى جنبها نخلات إلى أصلها، وغيرُ صِنْوَانٍ: النخلة وحدها... عن ابن عباس، قوله: "ونَخِيلٌ صِنْوَانٌ وغيرُ صِنْوانِ" يعني بالصنوان: النخلة يخرج من أصلها النخَلات، فَيحمِل بعضه ولا يحمل بعضه، فيكون أصله واحدا ورؤوسه متفرّقة...
وقوله: «تُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ»...: أي جميع ذلك يسقى بماء واحد عذب دون المالح... عن مجاهد، في قوله: «تُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ» ماء السماء كمثل صالح بني آدم وخبيثهم أبوهم واحد.
وقوله: "وَنُفَضّلُ بَعْضَها على بَعْضٍ فِي الأُكُلِ"... ومعنى الكلام: أن الجنات من الأعناب والزرع والنخيل، الصنوان وغير الصنوان، تسقى بماء واحد عذب لا ملح، ويخالف الله بين طعوم ذلك، فيفضل بعضها على بعض في الطعم، فهذا حلو وهذا حامض...
وقوله: "إنّ فِي ذلكَ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ" يقول تعالى ذكره: إن في مخالفة الله عزّ وجلّ بين هذا القطع من الأرض المتجاورات وثمار جناتها وزروعها على ما وصفنا وبينا لدليلاً واضحا وعبرة لقوم يعقلون اختلاف ذلك، أن الذي خالف بينه على هذا النحو الذي خالف بينه، هو المخالف بين خلقه فيما قسم لهم من هداية وضلال وتوفيق وخذلان، فوفق هذا وخذل هذا، وهدى ذا وأضلّ ذا، ولو شاء لسوّى بين جميعهم، كما لو شاء سوّى بين جميع أُكل ثمار الجنة التي تشرب شربا واحدا، وتسقى سقيا (واحدا)، وهي متفاضلة في الأكل.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
وأصله أن الأرض واحدة قِطعها متجاورة متصلة بعضها ببعض، والماء واحد. ثم خرجت الثمار والفواكه والزروع مختلفة متفرقة، ليعلم أن ذلك ليس هو عمل الأرض ولا عمل الماء ولا عمل الأسباب والطباع، ولكن باللطف من الله لأنه لو كان بالماء أو بالأرض أو بالأسباب أو الطباع لكانت متفقة مستوية...
(إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ) لما ذكرنا من وحدانيته وتدبيره وعلمه وحكمته (لقوم يعقلون) أي لقوم همتهم العقل والفهم والنظر والتفكر في الآيات، لا لقوم همتهم العناد والمكابرة، أو لقوم ينتفعون بعقلهم وعملهم...
في الآية مسائل: المسألة الأولى: اعلم أن المقصود من هذه الآية إقامة الدلالة على أنه لا يجوز أن يكون حدوث الحوادث في هذا العالم لأجل الاتصالات الفلكية، والحركات الكوكبية، وتقريره من وجهين:
الأول: أنه حصل في الأرض قطع مختلفة بالطبيعة والماهية وهي مع ذلك متجاورة، فبعضها تكون سبخية، وبعضها تكون رخوة، وبعضها تكون صلبة، وبعضها تكون منبتة، وبعضها تكون حجرية أو رملية وبعضها يكون طينا لزجا، ثم إنها متجاورة وتأثير الشمس وسائر الكواكب في تلك القطع متساوية، فدل هذا على أن اختلافها في صفاتها بتقدير العليم القدير.
والثاني: أن القطعة الواحدة من الأرض تسقى بماء واحد فيكون تأثير الشمس فيها متساويا، ثم إن تلك الثمار تجيء مختلفة في الطعم واللون والطبيعة والخاصية حتى أنك قد تأخذ عنقودا من العنب فيكون جميع حباته حلوة ناضجة إلا حبة واحدة فإنها بقيت حامضة يابسة... وهذا يدل دلالة قطعية على أن الكل بتدبير الفاعل المختار، لا بسبب الاتصالات الفلكية وهو المراد من قوله سبحانه وتعالى: {يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل} فهذا تمام الكلام في تقرير هذه الحجة وتفسيرها وبيانها. واعلم أن بذكر هذا الجواب قد تمت الحجة فإن هذه الحوادث السفلية لا بد لها من مؤثر، وبينا أن ذلك المؤثر ليس هو الكواكب والأفلاك والطبائع فعند هذا يجب القطع بأنه لا بد من فاعل آخر سوى هذه الأشياء، وعندها يتم الدليل، ولا يبقى بعده للفكر مقام البتة، فلهذا السبب قال ههنا: {إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون}...
المسألة الثانية: قوله: {وفى الأرض قطع متجاورات} قال أبو بكر الأصم: أرض قريبة من أرض أخرى، واحدة طيبة، وأخرى سبخة، وثالثة حرة، ورابعة رملة، وخامسة تكون حصباء، وسادسة تكون حمراء. وسابعة تكون سوداء. وبالجملة فاختلاف بقاع الأرض في الارتفاع والانخفاض والطباع والخاصية أمر معلوم...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما كان الدليل -مع وضوحه- فيه بعض غموض، شرع تعالى في شيء من تفصيل ما في الأرض من الآيات التي هي أبين من ذلك دليلاً ظاهراً جداً على إبطال قول الفلاسفة، فقال: {وفي الأرض} أي التي أنتم سكانها، تشاهدون ما فيها مشاهدة لا تقبل الشك {قطع متجاورات} فهي متحدة البقعة مختلفة الطبع، طيبة إلى سبخة، وكريمة إلى زهيدة، وصلبة إلى رخوة، وصالحة للزرع لا للشجر وعكسها، مع انتظام الكل في الأرضية {وجنات} جمع جنة، وهي البستان الذي تجنه الأشجار {من أعناب} وكأنه قدمها لأن أصنافها -الشاهدة بأن صانعها إنما هو الفعال لما يريد- لا تكاد تحصر حتى أنه في الأصل الواحد يحصل تنوع الثمرة ولذلك جمعها.
ولما كان تفاوت ما أصله الحب أعجب، قال: {وزرع} أي منفرداً -في قراءة ابن كثير وأبي عمرو وحفص عن عاصم بالرفع، وفي خلل الجنات- في قراءة الباقين بالجر.
ولما كان ما جمعه أصل واحد ظاهر أغرب أخر قوله: {ونخيل صنوان} فروع متفرقة على أصل واحد {وغير صنوان} باعتبار افتراق منابتها وأصولها؛ قال أبو حيان: والصنو: الفرع يجمعه وآخر أصل واحد، وأصله المثل، ومنه قيل للعم: صنو وقال الرماني: والصنوان: المتلاصق، يقال: هو ابن أخيه صنو أبيه أي لصيق أبيه في ولادته، وهو جمع صنو، وقيل: الصنوان: النخلات التي أصلها واحد -عن البراء بن عازب وابن عباس ومجاهد وقتادة رضي الله عنهم؛ وقال الحسن رضي الله عنه: الصنوان: النخلتان أصلهما واحد- انتهى...
ولما كان الماء بمنزلة الأب والأرض بمنزلة الأم، وكان الاختلاف مع اتحاد الأب والأم أعجب وأدل على الإسناد إلى الموجد المسبب، لا إلى شيء من الأسباب، قال: {تسقى} أي أرضها الواحدة كلها {بماء واحد} فتخرج أغصانها وثمراتها في وقت معلوم لا يتأخر عنه ولا يتقدم بعد أن يتصعد الماء فيها علوّاً ضد ما في طبعه من التسفل، ثم يتفرق في كل من الورق والأغصان والثمار بقسطه مما فيه صلاحه {ونفضل} أي بما لنا من العظمة المقتضية للطاعة {بعضها} أي بعض تلك الجنات وبعض أشجارها {على بعض} ولما كان التفضيل على أنحاء مختلفة، بين المراد بقوله: {في الأكل} أي الثمر المأكول، ويخالف في المطعوم مع اتحاد الأرض وبعض الأصول، وخص الأكل لأنه أغلب وجوه الانتفاع، وهو منبه على اختلاف غيره من الليف والسعف واللون للمأكول والطعم والطبع والشكل والرائحة والمنفعة وغيرها مع أن نسبة الطبائع والاتصالات الفلكية إلى جميع الثمار على حد سواء لا سيما إذا رأيت العنقود الواحد جميع حباته حلوة نضيجة كبيرة إلا واحدة فإنها حامضة صغيرة يابسة.
ولما كان المراد في هذا السياق -كما تقدم- تفصيل ما نبه على كثرته بقوله: {وكأين من آية في السماوات والأرض} الآية، قال: {إن في ذلك} أي الأمر العظيم الذي تقدم {لآيات} بصيغة الجمع فإنها بالنظر إلى تفصيلها بالعطف جمع وإن كانت بالنظر إلى الماء مفردة، وهذا بخلاف ما يأتي في النحل لأن المحدث عنه هناك الماء، وهنا ما ينشأ عنه، فلما اختلف المحدث عنه كان الحديث بحسبه، فالمعنى: دلالات واضحات على أن ذلك كله فعل واحد مختار عليم قادر على ما يريد من ابتداء الخلق ثم تنويعه بعد إبداعه، فهو قادر على إعادته بطريق الأولى.
ولما كانت هذه المفصلة أظهر من تلك المجملة، فكانت من الوضوح بحال لا يحتاج ناظره في الاعتبار به إلى غير العقل، قال: {لقوم} أي ذوي قوة على ما يحاولونه {يعقلون} فإنه لا يمكن التعبير في وجه هذه الدلالة إلا بأن يقال هذه الحوادث السفلية حدثت بغير محدث، فيقال للقائل: وأنت لا عقل لك، لأن العلم بافتقار الحادث إلى المحدث ضرورة، فعدم العلم بالضروري يستلزم عدم العقل.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
لله بلاغة القرآن في تغيير الأسلوب عند الانتقال إلى ذكر النعم الدالة على قدرة الله تعالى فيما ألهم الناس من العمل في الأرض بفلحها وزرعها وغرسها والقيام عليها، فجاء ذلك معطوفاً على الأشياء التي أسند جَعْلها إلى الله تعالى، ولكنه لم يسند إلى الله حتى بلغ إلى قوله: {ونفضل بعضها على بعض في الأكل}، لأن ذلك بأسرار أودعها الله تعالى فيها هي موجب تفاضلها. وأمثال هذه العِبر، ولَفْتِ النظر مما انفرد به القرآن من بين سائر الكتب. وأعيد اسم {الأرض} الظاهر دون ضميرها الذي هو المقتضَى ليستقل الكلام ويتجدد الأسلوب، وأصل انتظام الكلام أن يقال: جَعل فيها زوجين اثنين، وفيها قطعٌ متجاورات، فعدل إلى هذا توضيحاً وإيجازاً. والقِطع: جمع قِطعة بكسر القاف، وهي الجزء من الشيء تشبيهاً لها بما يقتطع. وليس وصف القِطع بمتجاورات مقصوداً بالذات في هذا المقام إذ ليس هو محل العبرة بالآيات، بل المقصود وصفٌ محذوف دل عليه السياق تقديره؛ مختلفات الألوان والمنابت، كما دل عليه قوله: {ونفضل بعضها على بعض في الأكل}. وإنما وصفت بمتجاورات لأن اختلاف الألوان والمنابت مع التجاور أشد دلالة على القدرة العظيمة، وهذا كقوله تعالى: {ومن الجبال جُدَدٌ بِيض وحُمر مختلفٌ ألوانها وغرابيب سود} [فاطر: 27]. فمعنى {قطع متجاورات} بقاعٌ مختلفة مع كونها متجاورةً متلاصقة. والاقتصار على ذكر الأرض وقِطعها يشير إلى اختلاف حاصل فيها عن غير صنع الناس وذلك اختلاف المراعي والكلأ. ومجرد ذكر القطَع كاف في ذلك فأحالهم على المشاهدة المعروفة من اختلاف منابت قطع الأرض من الأبّ والكلإ وهي مراعي أنعامهم ودوابّهم، ولذلك لم يقع التعرض هنا لاختلاف أُكله إذ لا مذاق للآدمي فيه ولكنه يختلف شَرعهُ بعض الحيوان على بعضه دون بعض. وتقدم الكلام على {وجنات من أعناب} عند قوله تعالى: {ومن النخل من طلعها قنوان دانية وجنات من أعناب} [الأنعام: 99]. والزرع تقدم في قوله: {والنخل والزرع مختلفا أكله} [الأنعام: 141]. والنخيل: اسم جمع نخلة مثل النخل، وتقدم في تلك الآية، وكلاهما في سورة الأنعام. والزرع يكون في الجنات يزرع بين أشجارها... وصنوان: جمع صِنو بكسر الصاد في الأفصح فيهما وهي لغة الحجاز، وبضمها فيهما أيضاً وهي لغة تميم وقيسٍ. والصنو: النخلة المجتمعة مع نخلة أخرى نابتتين في أصل واحد أو نخلات... وخصّ النخل بذكر صفة صنوان لأن العبرة بها أقوى. ووجه زيادة {وغير صنوان} تجديد العبرة باختلاف الأحوال... والسقي: إعطاء المشروب. والمراد بالماء هنا ماء المطر وماء الأنهار وهو واحد بالنسبة للمسقى ببعضه. والتفضيل: منة بالأفضل وعبرة به وبضده وكناية عن الاختلاف... والأُكْل: بضم الهمزة وسكون الكاف هو المأكول. ويجوز في اللغة ضم الكاف. وظرفية التفضيل في {الأكل} ظرفية في معنى الملابسة لأن التفاضل يظهر بالمأكول، أي نفضل بعض الجنات على بعض أو بعض الأعناب والزرع والنخيل على بعض من جنسه بما يثمره. والمعنى أن اختلاف طعومه وتفاضلها مع كون الأصل واحداً والغذاء بالماء واحداً ما هو إلا لقوى خفيّة أودعها الله فيها فجاءت آثارها مختلفة. ومن ثم جاءت جملة {إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون} مجيء التذييل. وأشار قوله: {ذلك} إلى جميع المذكور من قوله: {وهو الذي مدّ الأرض} [سورة الرعد: 3]. وقد جعل جميع المذكور بمنزلة الظرف للآيات. وجعلت دلالته على انفراده تعالى بالإلهية دلالات كثيرة إذ في كل شيء منها آية تدل على ذلك. ووصفت الآيات بأنها من اختصاص الذين يعقلون تعريضاً بأن من لم تقنعهم تلك الآيات منزّلون منزلة من لا يعقل. وزيد في الدلالة على أن العقل سجية للذين انتفعوا بتلك الآيات بإجراء وصف العقل على كلمة {قَوم} إيماء إلى أن العقل من مقومات قوميتهم كما بيناه في الآية قبلها...
... أعلم أنه لا يوجد شيء أو أمر مفضل على إطلاقه، وأمر آخر مفضول على إطلاقه، فما دمنا نفضل بعضه على البعض الآخر؛ فهذا يعني أن كلاً منهما مفضل في ناحية، ومفضول عليه في ناحية أخرى...