80- فلما انقطع منهم الأمل ، ويئسوا من قبول الرجاء ، اختلوا بأنفسهم يتشاورون في موقفهم من أبيهم ، فلما انتهى الرأي إلى كبيرهم المدبر لشئونهم قال لهم : ما كان ينبغي أن تنسوا عهدكم الموثق بيمين الله لأبيكم أن تحافظوا على أخيكم حتى تردوه إليه ، ولأنكم عاقدتموه من قبل على صيانة يوسف ثم ضيعتموه ، ولذلك سأبقى بمصر لا أفارقها ، إلا إذا فهم أبي الوضع على حقيقته ، وسمح لي بالرجوع إليه ، أو قضى الله لي بالرجوع الكريم ، ويسره لي بسبب من الأسباب ، وهو أعدل الحاكمين .
{ 80 - 83 } { فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ * ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ * وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ * قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ }
أي : فلما استيأس إخوة يوسف من يوسف أن يسمح لهم بأخيهم { خَلَصُوا نَجِيًّا } أي : اجتمعوا وحدهم ، ليس معهم غيرهم ، وجعلوا يتناجون فيما بينهم ، ف { قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ } في حفظه ، وأنكم تأتون به إلا أن يحاط بكم { وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ } ، فاجتمع عليكم الأمران ، تفريطكم في يوسف السابق ، وعدم إتيانكم بأخيه باللاحق ، فليس لي وجه أواجه به أبي .
{ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ } أي : سأقيم في هذه الأرض ولا أزال بها { حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي } أي : يقدر لي المجيء وحدي ، أو مع أخي { وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ }
يخبر تعالى عن إخوة يوسف : أنهم لما يئسوا من تخليص أخيهم بنيامين ، الذي قد التزموا لأبيهم برده إليه ، وعاهدوه على ذلك ، فامتنع عليهم ذلك ، { خَلَصُوا } أي : انفردوا عن الناس { نَجِيًّا } يتناجون فيما بينهم .
{ قَالَ كَبِيرُهُمْ } وهو رُوبيل ، وقيل : يهوذا ، وهو الذي أشار عليهم بإلقائه في البئر عندما همّوا بقتله ، قال لهم : { أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ } لتردنَّه إليه ، فقد رأيتم كيف تعذر عليكم ذلك مع ما تقدم لكم من إضاعة يوسف عنه ، { فَلَنْ أَبْرَحَ الأرْضَ } أي : لن أفارق هذه البلدة ، { حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي } في الرجوع إليه راضيًا عني ، { أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي } قيل : بالسيف . وقيل : بأن يمكنني من أخذ أخي ، { وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ } {[15250]} .
ثم أمرهم أن يخبروا أباهم بصورة ما وقع ، حتى يكون عذرا لهم عنده ويتنصلوا إليه ، ويبرءوا مما وقع بقولهم .
وقوله : { وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ } قال عكرمة وقتادة : ما [ كنا ]{[15251]} نعلم أن ابنك سرق{[15252]} .
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : ما علمنا في الغيب أنه يسرق{[15253]} له شيئا ، إنما سألنا{[15254]} ما جزاء السارق ؟
{ وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا } قيل : المراد مصر . قاله قتادة ، وقيل : غيرها ، { وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا } أي : التي رافقناها ، عن صدقنا وأمانتنا وحفظنا وحراستنا ، { وَإِنَّا لَصَادِقُونَ } فيما أخبرناك به ، من أنه سرق وأخذوه بسرقته .
القول في تأويل قوله تعالى : { فَلَمّا اسْتَيْأَسُواْ مِنْهُ خَلَصُواْ نَجِيّاً قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوَاْ أَنّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مّوْثِقاً مّنَ اللّهِ وَمِن قَبْلُ مَا فَرّطتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الأرْضَ حَتّىَ يَأْذَنَ لِيَ أَبِيَ أَوْ يَحْكُمَ اللّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ } .
يعني تعالى ذكره : فَلَمّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ فلما يئسوا منه من أن يخلى يوسف عن بنيامين ويأخذ منهم واحدا مكانه وأن يجيبهم إلى ما سألوه من ذلك . وقوله : اسْتَيْأَسُوا استفعلوا ، من يئس الرجل من كذا ييأس . كما :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : فَلَمّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ يئسوا منه ورأوا شدّته في أمره .
وقوله : خَلَصُوا نَجِيّا يقول بعضهم لبعض : يتناجون ، لا يختلط بهم غيرهم . والنجيّ جماعة القوم المنتجين يسمى به الواحد والجماعة ، كما يقال : رجل عدل ورجال عدل ، وقوم زور وفطر ، وهو مصدر من قول القائل : نجوت فلانا أنجوه نجيّا ، جعل صفة ونعتا . ومن الدليل على أن ذلك كما ذكرنا قول الله تعالى : وَقَرّبْناهُ نَجِيّا فوصف به الواحد ، وقال في هذا الموضع : خَلَصوا نَجِيّا فوصف به الجماعة ، ويجمع النّجِيّ أنجية ، كما قال لبيد :
وشَهدْتُ أنْجِيَةَ الأُفاقَةِ عالِيا *** كَعْبِي وأرْدَافُ المُلُوكِ شُهُودُ
وقد يقال للجماعة من الرجال : نجوى ، كما قال جلّ ثناؤه : وَإذْ هُمْ نَجْوَى وقال : ما يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ وهم القوم الذين يتناجون . وتكون النجوى أيضا مصدراكما قال الله : وإنّمَا النّجْوَى مِنَ الشّيْطانِتقول منه : نجوت أنجو نجوى ، فهي في هذا الموضع : المناجاة نفسها ، ومنه قول الشاعر :
بُنَيّ بَدَا خِبّ نَجْوَى الرّجالِ *** فَكُنْ عِنْدَ سِرّكَ خَبّ النّجِي
فالنجوى والنجيّ في هذا البيت بمعنى واحد ، وهو المناجاة ، وقد جمع بين اللغتين .
وبنحو الذي قلنا في تأويل قوله : خَلَصُوا نَجِيّا قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عمرو ، عن أسباط ، عن السديّ : فَلَمّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيّا وأخلص لهم شمعون ، وقد كان ارتهنه ، خَلَوْا بينهم نجيّا يتناجون بينهم .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : خَلَصُوا نَجِيّا خلصوا وحدهم نجيّا .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : خَلَصُوا نَجِيّا : أي خلا بعضهم ببعض ، ثم قالوا : ماذا ترون .
وقوله : قالَ كَبِيرُهُمْ اختلف أهل العلم في المعنيّ بذلك ، فقال بعضهم : عنى به كبيرهم في العقل والعلم ، لا في السنّ ، وهو شمعون ، قالوا : وكان روبيل أكبر منه في الميلاد . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله تعالى : قالَ كَبيرُهُمْ قال : هو شمعون الذي تخلف ، وأكبر منه ، وأكبر منهم في الميلاد روبيل .
حدثنا الحسن بن محمد ، قال : حدثنا شبابة ، قال : حدثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : قالَ كَبيرهُمْ : شمعون الذي تخلف ، وأكبر منه في الميلاد روبيل .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثني المثنى ، قال : أخبرنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله بن الزبير ، عن سفيان ، عن ابن جريج ، عن مجاهد : قالَ كَبيرُهُمْ قال : شمعون الذي تخلف ، وأكبرهم في الميلاد روبيل .
وقال آخرون : بل عَنَى به كبيرهم في السنّ وهو روبيل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا زيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : قالَ كَبيرُهُمْ وهو روبيل أخو يوسف ، وهو ابن خالته ، وهو الذي نهاهم عن قتله .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : قالَ كَبيرهُمْ قال : رُوبيل ، وهو الذي أشار عليهم أن لا يقتلوه .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عمرو ، عن أسباط ، عن السديّ : قالَ كَبيرُهُمْ في العلم أنّ أباكُمْ قَدْ أخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثقا مِنَ اللّهِ وَمِنْ قَبْلُ ما فَرّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أبْرَحَ الأرْضَ . . . الآية ، فأقام روبيل بمصر ، وأقبل التسعة إلى يعقوب فأخبروه الخبر ، فبكى وقال : يا بنيّ ما تذهبون مرّة إلاّ نقصتم واحدا ، ذهبتم مرّة فنقصتم يوسف ، وذهبتم الثانية فنقصتم شمعون ، وذهبتم الاَن فنقصتم روبيل .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : فَلَمّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيّا قال : ماذا ترون ؟ فقال رُوبيل كما ذُكر لي ، وكان كبير القوم : ألَمْ تَعْلَمُوا أنّ أباكمْ قَدْ أخَذَ عَلَيْكمْ مَوْثِقا مِنَ اللّهِ لَتَأْتُنّنِي بِهِ إلاّ أنْ يُحاطَ بِكُمْ وَمِنْ قَبْلُ ما فَرّطْتُمْ فِي يُوسُفَ . . . الآية .
وأولى الأقوال في ذلك بالصحة قول من قال : عنى بقوله : قالَ كَبيرُهُمْ رُوبيل لإجماع جميعهم على أنه كان أكبرهم سنّا ، ولا تفهم العرب في المخاطبة إذا قيل لهم : فلان كبير القوم مطلقا بغير وصل إلاّ أحد معنيين ، إما في الرياسة عليهم والسؤدد وإما في السنّ ، فأما في العقل فإنهم إذا أرادوا ذلك وصلوه ، فقالوا : هو كبيرهم في العقل ، فأما إذا أطلق بغير صلته بذلك فلا يفهم إلاّ ما ذكرت . وقد قال أهل التأويل : لم يكن لشمعون وإن كان قد كان من العلم والعقل بالمكان الذي جعله الله به على إخوته رياسة وسؤدد ، فيعلم بذلك أنه عنى بقوله : قالَ كَبِيرُهُمْ فإذا كان ذلك كذلك فلم يبق إلاّ الوجه الاَخر ، وهو الكبر في السنّ ، وقد قال الذين ذكرنا جميعا : رُوبيل كان أكبر القوم سنّا ، فصحّ بذلك القول الذي اخترناه .
وقوله : ألَمْ تَعْلَمُوا أنّ أباكُمْ قَدْ أخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقا مِنَ اللّهِ يقول : ألم تعلموا أيها القوم أن أباكم يعقوب قد أخذ عليكم عهود الله ومواثيقه لنأتينه به جميعا ، إلاّ أن يُحاط بكم ، ومن قبل فعلتكم هذه تفريطكم في يوسف يقول : أو لم تعلموا من قبل هذا تفريطكم في يوسف . وإذا صرف تأويل الكلام إلى هذا الذي قلناه ، كانت «ما » حينئذٍ في موضع نصب . وقد يجوز أن يكون قوله : وَمِنْ قَبْلُ ما فَرّطْتُمْ فِي يُوسُفَ خبرا مبتدأ ، ويكون قوله : ألَمْ تَعْلَمُوا أنّ أباكُمْ قَدْ أخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقا مِنَ اللّهِ خبرا متناهيا ، فتكون «ما » حينئذٍ في موضع رفع ، كأنه قيل : ومن قبل هذا تفريطكم في يوسف ، فتكون «ما » مرفوعة ب «من » قبل هذا ، ويجوز أن تكون «ما » التي تكون صلة في الكلام ، فيكون تأويل الكلام : ومن قبل هذا تفريطكم في يوسف .
وقوله : فَلَنْ أبْرَحَ الأرْضَ التي أنا بها وهي مصر فأفارقها ، حتى يَأْذَنَ لي أبي بالخروج منها ، كما :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : فَلَنْ أبْرَحَ الأرْضَ التي أنا بها اليوم ، حتى يَأْذَنَ لي أبِي بالخروج منها .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال شمعون : لَنْ أبْرَحَ الأرْضَ حتى يَأْذَنَ لي أبِي أوْ يَحْكُمَ اللّهُ لي وَهُوَ خَيْرُ الحاكمِينَ .
وقوله : أوْ يَحْكُمَ اللّهُ لي : أو يفضَي لي ربي بالخروج منها وترك أخي بنيامين ، وإلاّ فإني غير خارج : وَهُوَ خَيْرُ الحاكمينَ يقول : والله خير من حكم وأعدل من فصَل بين الناس .
وكان أبو صالح يقول في ذلك بما :
حدثني الحسين بن يزيد السبيعيّ ، قال : حدثنا عبد السلام بن حرب ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن أبي صالح في قوله : حتى يَأْذَنَ لي أبِي أوْ يَحْكُمَ اللّهُ لي قال : بالسيف .
وكأن أبا صالح وجه تأويل قوله : أوْ يَحْكُمَ اللّهُ لي إلى : أو يفضي الله لي بِحَربَ مَنْ منعني من الانصراف بأخي بنيامين إلى أبيه يعقوب ، فأحاربه .
وقوله : { فلما استيأسوا منه } الآية ، يقال : يئس واستيأس بمعنى واحد ، كما يقال : سخر واستسخر ، ومنه قوله تعالى : { يستسخرون }{[6767]} [ الصافات : 14 ] وكما يقال : عجب واستعجب ، ومنه قول أوس بن حجر : [ الطويل ]
ومستعجب مما يرى من أناتنا*** ولو زبنته الحرب لم يترمرم{[6768]}
ومنه نوك واستنوك{[6769]} - وعلى هذا يجيء قول الشاعر في بعض التأويلات : واستنوكت وللشباب نوك{[6770]} . وهذه قراءة الجمهور ، وقرأ ابن كثير : «استأيسوا »{[6771]} و «لا تأيسوا »{[6772]} و «لا يأيس »{[6773]} و «حتى استأيس الرسل »{[6774]} أصله استأيسوا - استفعلوا - ومن أيس - على قلب الفعل من يئس إلى أيس ، وليس هذا كجذب وجبذ بل هذان أصلان والأول قلب ، دل على ذلك أن المصدر من يئس وأيس واحد ، وهو اليأس ، ولجذب وجبذ مصدران{[6775]} .
وقوله : { خلصوا نجياً } معناه انفردوا عن غيرهم يناجي بعضهم بعضاً ، والنجي لفظ يوصف به من له نجوى واحداً أو جماعة أو مؤنثاً أو مذكراً ، فهو مثل عدو وعدل ، وجمعه أنجية ، قال لبيد :
وشهدت أنجية الأفاقة عالياً*** كعبي وأرداف الملوك شهود{[6776]}
و { كبيرهم } قال مجاهد : هو شمعون لأنه كان كبيرهم رأياً وتدبيراً وعلماً - وإن كان روبيل أسنهم - وقال قتادة : هو روبيل لأنه أسنهم ، وهذا أظهر ورجحه الطبري . وقال السدي : معنى الآية : وقال كبيرهم في العلم ، وذكرهم أخوهم الميثاق في قوله يعقوب { لتأتنني به إلا أن يحاط بكم } [ يوسف : 66 ] .
وقوله : { ما فرطتم } يصح أن تكون { ما } صلة في الكلام لا موضع لها من الإعراب . ويصح أن تكون في موضع رفع بالابتداء والخبر قوله : { في يوسف } - كذا قال أبو علي - ولا يجوز أن يكون قوله : { من قبل } متعلقاً ب { فرطتم } .
قال القاضي أبو محمد : وإنما تكون - على هذا - مصدرية ، التقدير : من قبل تفريطكم في يوسف واقع أو مستقر ، وبهذا المقدر يتعلق قوله : { من قبل } . ويصح أن يكون في موضع نصب عطفاً ، على أن التقدير : وتعلموا تفريطكم أو تعلموا الذي فرطتم ، فيصح - على هذا الوجه - أن يكون بمعنى الذي ويصح أن تكون مصدرية{[6777]} .
وقوله تعالى : { فلن أبرح الأرض } أراد أرض القطر والموضع الذي ناله فيه المكروه المؤدي إلى سخط أبيه ، والمقصد بهذا اللفظ التحريج على نفسه والتزام التضييق ، كأنه سجن نفسه في ذلك القطر ليبلي عذراً{[6778]} .
وقوله : { أو يحكم الله لي } لفظ عام بجميع ما يمكن أن يرده من القدر كالموت أو النصرة وبلوغ الأمل وغير ذلك ، وقال أبو صالح : أو يحكم الله لي بالسيف . ونصب { يحكم } بالعطف على { يأذن } ، ويجوز أن تكون { أو } في هذا الموضع بمعنى إلا أن ، كما تقول : لألزمنك أو تقضيني حقي ، فتنصب على هذا { يحكم } ب { أو } .
وروي أنهم لما وصلوا إلى يعقوب بكى وقال : يا بني ما تذهبون عني مرة إلا نقصتم : ذهبتم فنقصتم يوسف ، ثم ذهبتم فنقصتم شمعون حيث ارتهن ، ثم ذهبتم فنقصتم بنيامين وروبيل .
{ استيأسوا } بمعنى يئسوا فالسين والتاء للتأكيد ، ومثلها { فاستجاب له ربه } [ سورة يوسف : 34 ] { واستعصَم } .
واليأس منه : اليأس من إطلاقه أخاهم ، فهو من تعليق الحكم بالذات . والمراد بعض أحوالها بقرينة المقام للمبالغة .
وقرأ الجمهور { استيأسوا } بتحتية بعد الفوقية وهمزة بعد التحتية على أصل التصريف . وقرأه البزي عن ابن كثير بخلف عنه بألف بعد الفوقية ثم تحتية على اعتبار القلب في المكان ثم إبدال الهمزة .
و { خلصوا } بمعنى اعتزلوا وانفردوا . وأصله من الخلوص وهو الصفاء من الأخلاط . ومنه قول عبد الرحمان بن عوف لعمر بن الخطاب رضي الله عنهما في آخر حجة حجّها حيث عزم عمر رضي الله عنه على أن يخطب في الناس فيحذرهم من قوم يريدون المزاحمة في الخلافة بغير حق ، قال عبد الرحمان بن عوف رضي الله عنه : « يا أمير المؤمنين إن المَوسم يجمع رَعاع الناس فأمهل حتى تقدم المدينة فتخلص بأهل الفقه . . . » إلخ .
والنجيّ : اسم من المناجاة ، وانتصابه على الحال . ولما كان الوصف بالمصدر يلازم الإفراد والتذكير كقوله تعالى : { وإذْ هم نجوى } . والمعنى : انفردوا تناجيا . والتناجي : المحادثة سراً ، أي متناجين .
وجملة { قال كبيرهم } بدل من جملة { خلصوا نجيا } وهو بدل اشتمال ، لأن المناجاة تشتمل على أقوال كثيرة منها قَول كبيرهم هذا ، وكبيرهم هو أكبرهم سناً وهو رُوبين بِكرُ يعقوب عليه السلام .
والاستفهام في { ألم تعلموا } تقريري مستعمل في التذكير بعدم اطمئنان أبيهم بحفظهم لابنه .
وجملة { ومن قبل ما فرطتم } جملة معترضة . و { ما } مصدرية ، أي تفريطكم في يوسف عليه السلام كان من قبل المَوثق ، أي فهو غير مصدقكم فيما تخبرون به من أخذ بنيامين في سرقة الصُّوَاع . وفرع عليه كبيرهم أنه يبقى في مصر ليكون بقاؤه علامة عند يعقوب عليه السلام يعرف بها صدقهم في سبب تخلف بنيامين ، إذ لا يرضى لنفسه أن يبقى غريباً لولا خوفه من أبيه ، ولا يرضى بقية أشقائه أن يكيدوا له كما يكيدون لغير الشقيق .
وقوله : { أو يحكم الله لي } ترديد بين ما رسمه هو لنفسه وبين ما عسى أن يكون الله قد قدره له مما لا قبل له بدفعه ، فحذف متعلّق { يحكم } المجرور بالباء لتنزيل فعل { يحكم } منزلة ما لا يطلب متعلقاً .
واللام للأجل ، أي يحكم الله بما فيه نفعي . والمراد بالحكم التقدير .
وجملة { وهو خير الحاكمين } تذييل . و { خير الحاكمين } إن كان على التعميم فهو الذي حكمه لا جور فيه أو الذي حكمه لا يستطيع أحد نقضه ، وإن كان على إرادة وهو خير الحاكمين لي فالخبر مستعمل في الثناء للتعريض بالسؤال أن يقدر له ما فيه رأفة في رد غربته .
وعدم التعرّض لقول صدَر من بنيامين يدافع به عن نفسه يدل على أنه لازم السكوت لأنه كان مطلعاً على مراد يوسف عليه السلام من استبقائه عنده ، كما تقدم في قوله : { آوى إليه أخاه قال إني أنا أخوك } [ يوسف : 69 ] .