{ وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ } أي : سخرناها { عَاصِفَةً } أي : سريعة في مرورها ، { تَجْرِي بِأَمْرِهِ } حيث دبرت امتثلت أمره ، غدوها شهر ورواحها شهر { إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا } وهي أرض الشام ، حيث كان مقره ، فيذهب على الريح شرقا وغربا ، ويكون مأواها ورجوعها إلى الأرض المباركة ، { وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ } قد أحاط علمنا بجميع الأشياء ، وعلمنا من داود وسليمان ، ما أوصلناهما به إلى ما ذكرنا .
وقوله : { وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً } أي : وسخرنا لسليمان الريح العاصفة ، { تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الأرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا } يعني أرض الشام ، { وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ } وذلك أنه كان له بساط من خشب ، يوضع عليه كل ما يحتاج إليه من أمور المملكة ، والخيل والجمال والخيام والجند ، ثم يأمر الريح أن تحمله فتدخل تحته ، ثم تحمله فترفعه وتسير به ، وتظله الطير من الحر ، إلى حيث يشاء من الأرض ، فينزل وتوضع آلاته وخشبه{[19738]} ، قال الله تعالى : { فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ } [ ص : 36 ] ، وقال { غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ } [ سبأ : 12 ] .
قال ابن أبي حاتم : ذكر عن سفيان بن عيينة ، عن أبي سِنَان ، عن سعيد بن جبير قال : كان يُوضَع لسليمان ستمائة ألف كرسي ، فيجلس مما يليه مؤمنو الإنس ، ثم يجلس من ورائهم مؤمنو الجن ، ثم يأمر الطير فتظلهم ، ثم يأمر الريح فتحمله صلى الله عليه وسلم{[19739]} .
وقال عبد الله بن عُبَيْد بن عمير : كان سليمان يأمر الريح ، فتجتَمع كالطَّود العظيم ، كالجبل ، ثم يأمر بفراشه فيوضع على أعلى مكان منها ، ثم يدعو بفَرَس من ذوات الأجنحة ، فترتفع{[19740]} حتى تصعد{[19741]} على فراشه ، ثم يأمر الريح فترتفع به كُل شَرَف دون السماء ، وهو مطأطئ رأسه ، ما يلتفت يمينا ولا شمالا تعظيمًا لله عز وجل ، وشكرًا لما يعلم من صغر ما هو فيه في ملك الله
تعالى{[19742]} حتى تضعه{[19743]} . الريح حيث شاء أن تضعه{[19744]}
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلِسُلَيْمَانَ الرّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الأرْضِ الّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنّا بِكُلّ شَيْءٍ عَالِمِينَ } .
يقول تعالى ذكره : وَ سخرنا لِسُلَيْمانَ بن داود الرّيحَ عاصِفَةً وعصوفُها : شدة هبوبها تَجْرِي بأمْرِهِ إلى الأرْضِ التي بارَكْنا فِيها يقول : تجري الريح بأمر سليمان إلى الأَرْضِ الّتي بَارَكْنا فيها يعني : إلى الشام وذلك أنها كانت تجري بسليمان وأصحابه إلى حيث شاء سليمان ، ثم تعود به إلى منزله بالشام ، فلذلك قيل : إلى الأرْضِ التي بارَكْنا فِيها . كما :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، عن بعض أهل العلم ، عن وهب بن منبه قال : كان سليمان إذا خرج إلى مجلسه عكفت عليه الطير ، وقام له الجنّ والإنس حتى يجلس إلى سريره . وكان امرءا غزّاءً ، قلما يقعد عن الغزو ، ولا يسمع في ناحية من الأرض بملك إلا أتاه حتى يذله . وكان فيما يزعمون إذا أراد الغزو ، أمر بعسكره فضَرب له بخشب ، ثم نصب له على الخشب ، ثم حمل عليه الناس والدوابّ وآلة الحرب كلها ، حتى إذا حمل معه ما يريد أمر العاصف من الريح ، فدخلت تحت ذلك الخشب فاحتملته ، حتى إذا استقلت أمر الرّخاء ، فمدّته شهرا في روحته وشهرا في غدوته إلى حيث أراد ، يقول الله عزّ وجلّ : فَسَخّرْنا لَهُ الرّيحَ تَجْرِي بأمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أصَابَ قال : وَلِسُلَيْمانَ الرّيحَ غُدُوّها شَهْرٌ وَرَوَاحُها شَهْرٌ . قال : فذكر لي أن منزلاً بناحية دجلة مكتوب فيه كتاب كتبه بعض صحابة سليمان ، إما من الجنّ وإما من الإنس . نحن نزلناه وما بنيناه ، ومبنيّا وجدناه ، غدونا من إصطخر فِقلناه ، ونحن راحلون منه إن شاء الله قائلون الشام .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ولِسُلَيْمانَ الرّيحَ عاصِفَةً . . . إلى قوله : وكُنّا لَهُمْ حافِظِينَ قال : ورث الله سليمان داود ، فورثه نبوّته وملكه وزاده على ذلك أن سخر له الريح والشياطين .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : وَلِسُلَيْمانَ الرّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بأمْرِهِ قال : عاصفة شديدة تَجْرِي بأمْرِهِ إلى الأرْضِ التي بَارَكْنا فيها قال : الشام .
واختلفت القرّاء في قراءة قوله : وَلِسُلَيْمانَ الرّيحَ فقرأته عامة قرّاء الأمصار بالنصب على المعنى الذي ذكرناه . وقرأ ذلك عبد الرحمن الأعرج : «الرّيحُ » رفعا بالكلام في سليمان على ابتداء الخبر عن أن لسليمان الريح .
قال أبو جعفر : والقراءة التي لا أستجيز القراءة بغيرها في ذلك ما عليه قرّاء الأمصار لإجماع الحجة من القرّاء عليه .
وقوله : وكُنّا بِكُلّ شَيْءٍ عالِمِينَ يقول : وكنا عالمين بأن فعلنا ما فعلنا لسليمان من تسخيرنا له وإعطائنا ما أعطيناه من الملك وصلاح الخلق ، فعلى علم منا بموضع ما فعلنا به من ذلك فعلنا ، ونحن عالمون بكلّ شيء لا يخفي علينا منه شيء .
{ ولسليمان } وسخرنا له ولعل اللام فيه دون الأول لأن الخارق فيه عائد إلى سليمان نافع له ، وفي الأول أمر يظهر في الجبال والطير مع داود وبالإضافة إليه . { الريح عاصفة } شديدة الهبوب من حيث إنها تبعد بكرسيه في مدة يسيرة كما قال تعالى { غدوها شهر ورواحها شهر } وكانت رخاء في نفسها طيبة وقيل كانت رخاء تارة وعاصفة أخرى حسب إرادته { تجري بأمره } بمشيئته حال ثانية أو بدل من الأولى أو حال من ضميرها . { إلى الأرض التي باركنا فيها } إلى الشام رواحا بعد ما سارت به منه بكرة . { وكنا بكل شيء عالمين } فنجريه على ما تقتضيه الحكمة .
عطف على جملة { وسخرنا مع داوود الجبال يسبحن } [ الأنبياء : 79 ] بمناسبة تسخيرٍ خارق للعادة في كلتا القصتين معجزة للنبئين عليهما السلام .
والأرض التي بارك الله فيها هي أرض الشام . وتسخير الريح : تسخيرها لما تصلح له ، وهو سير المراكب في البحر . والمراد أنها تجري إلى الشام راجعة عن الأقطار التي خرجت إليها لمصالح مُلك سليمان من غزو أو تجارة بقرينة أنها مسخرة لسليمان فلا بد أن تكون سائرة لفائدة الأمة التي هُو مَلِكها .
وعلم من أنها تجري إلى الأرض التي بارك الله فيها أنها تخرج من تلك الأرض حاملة الجنود أو مصدّرة البضائع التي تصدرها مملكة سليمان إلى بلاد الأرض وتقفل راجعة بالبضائع والميرة ومواد الصناعة وأسلحة الجند إلى أرض فلسطين ، فوقع في الكلام اكتفاء اعتماداً على القرينة . وقد صرح بما اكتفى عنه هنا في آية سورة سبأ ( 12 ) { ولسليمان الريح غدوها شهر ورواحها شهر } ووصفها هنا ب عاصفة } بمعنى قوية . ووصفها في سورة ص ( 36 ) بأنها { رُخاء } في قوله تعالى : { فسخرنا له الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب } والرخاء : الليلة المناسبة لسير الفُلك . وذلك باختلاف الأحوال فإذا أراد الإسراع في السير سارت عاصفة وإذا أراد اللين سارت رُخاء ، والمقام قرينة على أن المراد المَواتاه لإرادة سليمان كما دل عليه قوله تعالى : تجري بأمره } في الآيتين المشعر باختلاف مقصد سليمان منها كما إذا كان هو راكباً في البحر فإنه يريدها رُخاء لئلا تزعجه وإذا أصدرت مملكتُه بضاعة أو اجتلبتها سارت عاصفة وهذا بيّن بالتأمل .
وعبر { بأمره } عن رغبته وما يلائم أسفار سفائنه وهي رياح مَوْسمية منتظمة سخرها الله له .
وأمر سليمان دعاؤه الله أن يُجري الريحَ كما يريد سليمانُ : إما دعوة عامة كقوله { وهب لي ملكاً لا ينبغي لأحد من بعدي } [ ص : 35 ] فيشمل كل ما به استقامة أمور المُلك وتصاريفه ، وإما دعوة خاصة عند كل سفر لمراكب سليمان فجعل الله الرياح الموسمية في بحار فلسطين مدة ملك سليمان إكراماً له وتأييداً إذا كان همه نشر دين الحقّ في الأرض .
وإنما جعل الله الريح تجري بأمر سليمان ولم يجعلها تجري لسفنه لأن الله سخر الريح لكل السفن التي فيها مصلحة مُلك سليمان فإنه كانت تأتيه سفن ( ترشيش ) يُظن أنها طرطوشة بالأندلس أو قرطجنة بإفريقية وسفن حيرام ملك صور حاملة الذهب والفضة والعاج والقِردة والطواويس وهدَايا الآنية والحلل والسلاح والطيب والخيل والبغال كما في الإصحاح 10 من سفر الملوك الأول .
وجملة { وكنا بكل شيء عالمين } معترضة بين الجمل المسوقة لذكر عناية الله بسليمان . والمناسبةُ أن تسخير الريح لمصالح سليمان أثر من آثار علم الله بمختلف أحوال الأمم والأقاليم وما هو منها لائق بمصلحة سليمان فيُجري الأمور على ما تقتضيه الحكمة التي أرادها سبحانه إذ قال : { وشددنا ملكه } [ ص : 20 ] .