ولما ذكر منته عليه ، أمره بشكرها فقال : { فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ } خص هاتين العبادتين بالذكر ؛ لأنهما من أفضل العبادات وأجل القربات .
ولأن الصلاة تتضمن الخضوع [ في ] القلب والجوارح لله ، وتنقلها في أنواع العبودية ، وفي النحر تقرب إلى الله بأفضل ما عند العبد من النحائر ، وإخراج للمال الذي جبلت النفوس على محبته والشح به .
وقوله : { فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ } أي : كما أعطيناك الخير الكثير في الدنيا والآخرة ، ومن ذلك النهرُ -الذي تقدم صفته- فأخلص لربك صلاتك المكتوبة والنافلة ونَحْرَك ، فاعبده وحده لا شريك له ، وانحر على اسمه وحده لا شريك له . كما قال تعالى : { قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ } [ الأنعام : 162 ، 163 ] قال ابن عباس ، وعطاء ، ومجاهد ، وعكرمة ، والحسن : يعني بذلك نحر البُدْن ونحوها . وكذا قال قتادة ، ومحمد بن كعب القرظي ، والضحاك ، والربيع ، وعطاء الخراساني ، والحكم ، وإسماعيل{[30627]} بن أبي خالد ، وغير واحد من السلف . وهذا بخلاف ما كان المشركون عليه من السجود لغير الله ، والذبح على غير اسمه ، كما قال تعالى : { وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ } الآية [ الأنعام : 121 ] .
وقيل : المراد بقوله : { وَانْحَرْ } وضع اليد اليمنى على اليسرى تحت النحر . يروى هذا عن علي ، ولا يصح . وعن الشعبي مثله .
وعن أبي جعفر الباقر : { وَانْحَرْ } يعني : ارفع اليدين عند افتتاح الصلاة .
وقيل : { وَانْحَرْ } أي : استقبل بنحرك القبلة . ذكر هذه الأقوال الثلاثة ابن جرير .
وقد روى ابن أبي حاتم هاهنا حديثا منكرا جدا فقال : حدثنا وهب بن إبراهيم الفامي{[30628]} - سنة خمس وخمسين ومائتين - حدثنا إسرائيل بن حاتم المروزي ، حدثنا مقاتل بن حيان ، عن الأصبغ بن نباتة ، عن علي بن أبي طالب قال : لما نزلت هذه السورة على النبي صلى الله عليه وسلم : { إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ } قال رسول الله : " يا جبريل ، ما هذه النحيرة التي أمرني بها ربي ؟ " فقال : ليست بنحيرة ، ولكنه يأمرك إذا تحرمت للصلاة ارفع يديك إذا كبرت ، وإذا ركعت ، وإذا رفعت رأسك من الركوع ، وإذا سجدت ، فإنها صلاتنا وصلاة الملائكة الذين في السموات السبع ، وإن لكل شيء زينة ، وزينة الصلاة رفع اليدين عند كل تكبيرة .
وهكذا{[30629]} رواه الحاكم في المستدرك ، من حديث إسرائيل بن حاتم ، به . {[30630]}
وعن عطاء الخراساني : { وَانْحَرْ } أي : ارفع صلبك بعد الركوع واعتدل ، وأبرز نحرك ، يعني به الاعتدال . رواه ابن أبي حاتم .
[ كل هذه الأقوال غريبة جدا ]{[30631]} والصحيح القول الأول ، أن المراد بالنحر ذبح المناسك ؛ ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي العيد{[30632]} ثم ينحر نسكه ، ويقول : " من صلى صلاتنا ، ونسك نسكنا ، فقد أصاب النسك . ومن نسك قبل الصلاة فلا نسك له " . فقام أبو بردة بن نيار فقال : يا رسول الله ، إني نَسكتُ شاتي قبل الصلاة ، وعرفت أن اليوم يوم يشتهى فيه اللحم . قال : " شاتك شاة لحم " . قال : فإن عندي عناقا هي أحب إليَّ من شاتين ، أفتجزئ عني ؟ قال : " تجزئك ، ولا تجزئ أحدا بعدك " . {[30633]}
قال أبو جعفر بن جرير : والصواب قول من قال : معنى ذلك : فاجعل صلاتك كلها لربك خالصا دون ما سواه من الأنداد والآلهة{[30634]} ، وكذلك نحرك اجعله له دون الأوثان ؛ شكرًا له على ما أعطاك من الكرامة والخير ، الذي لا كِفَاء له ، وخصك به . {[30635]}
وهذا الذي قاله في غاية الحسن ، وقد سبقه إلى هذا المعنى : محمد بن كعب القرظي ، وعطاء .
وقوله : { فَصَلّ لِرَبّكَ وانْحَرْ } اختلف أهل التأويل في الصلاة التي أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يصليها بهذا الخطاب ، ومعنى قوله : { وانْحَرْ } فقال بعضهم : حضّه على المواظبة على الصلاة المكتوبة ، وعلى الحفظ عليها في أوقاتها بقوله : { فَصَلّ لِرَبّكَ وانْحَرْ } . ذكر من قال ذلك :
حدثني عبد الرحمن بن الأسود الطّفاويّ ، قال : حدثنا محمد بن ربيعة ، قال : ثني يزيد بن أبي زياد بن أبي الجعد ، عن عاصم الجحدريّ ، عن عقبة بن ظهير ، عن عليّ رضي الله عنه ، في قوله : { فَصَلّ لِرَبّكَ وَانْحَرْ } قال : وضع اليمين على الشمال في الصلاة .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا حماد بن سَلَمة ، عن عاصم الجَحْدَريّ ، عن عقبة بن ظبيان ، عن أبيه ، عن عليّ رضي الله عنه { فَصَلّ لِرَبّكَ وَانْحَرْ } قال : وضع اليد على اليد في الصلاة .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران ، عن حماد بن سلمة ، عن عاصم الجَحْدَريّ ، عن عُقْبة بن ظَهِير ، عن أبيه ، عن عليّ رضي الله عنه { فَصَلّ لِرَبّكَ وَانْحَرْ } قال : وضع يده اليمنى على وسط ساعده اليسرى ، ثم وضعهما على صدره .
قال : ثنا مهران ، عن حماد بن سلمة ، عن عاصم الأحول ، عن الشعبيّ ، مثله .
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا وكيع ، عن يزيد بن أبي زياد ، عن عاصم الجَحْدريّ ، عن عقبة بن ظهير ، عن عليّ رضي الله عنه : { فَصَلّ لِرَبّكَ وَانْحَرْ } قال : وضع اليمين على الشمال في الصلاة .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا أبو عاصم ، يقال : حدثنا عوف ، عن أبي القَمُوص ، في قوله : { فَصَلّ لِرَبّكَ وَانْحَرْ } قال : وضع اليد على اليد في الصلاة .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا أبو صالح الخُراسانيّ ، قال : حدثنا حماد ، عن عاصم الجَحْدريّ ، عن أبيه ، عن عقبة بن ظبيان ، أن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه قال في قول الله : { فَصَلّ لِرَبّكَ وَانْحَرْ } قال : وضع يده اليمنى على وسط ساعده الأيسر ، ثم وضعهما على صدره .
وقال آخرون : بل عُنِي بقوله : { فَصَلّ لِرَبّكَ } : الصلاة المكتوبة ، وبقوله { وَانْحَرْ } أن يرفع يديه إلى النحر ، عند افتتاح الصلاة والدخول فيها . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا وكيع ، عن إسرائيل ، عن جابر ، عن أبي جعفر { فَصَلّ لِرَبّكَ وَانْحَرْ } الصلاة ، { وانحر } : يرفع يديه أوّل ما يُكبَر في الافتتاح .
وقال آخرون : عُنِي بقوله : { فَصَلّ لِرَبّكَ } المكتوبة ، وبقوله { وَانْحَرْ } : نحر البُدْن . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام بن سلم وهارون بن المُغيرة ، عن عنبسة ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد { فَصَلّ لِرَبّكَ وَانْحَرْ } قال : الصلاة المكتوبة ، ونحر البُدْن .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا هشيم ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جُبير وحجّاج ، أنهما قالا في قوله : { فَصَلّ لِرَبّكَ وَانْحَرْ } قال : صلاة الغداة بجَمْع ، ونحر البُدن بمِنَى .
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا وكيع ، عن قطر ، عن عطاء : { فَصَلّ لِرَبّكَ وَانْحَرْ } قال : صلاة الفجر ، وانحر البُدْن .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس { فَصَلّ لِرَبّكَ وَانْحَرْ } قال : الصلاة المكتوبة ، والنحر : النّسُك والذبح يوم الأضحى .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن الحكم ، في قوله : { فَصَلّ لِرَبّكَ وَانْحَرْ } قال : صلاة الفجر .
وقال آخرون : بل عُنِي بذلك : صلّ يوم النحر صلاة العيد ، وانحر نُسُكَك . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا هارون بن المُغيرة ، عن عنبسة ، عن جابر ، عن أنس بن مالك ، قال : كان النبيّ صلى الله عليه وسلم ينحَر قبل أن يصلي ، فأُمر أن يصليَ ثم ينحر .
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن جابر ، عن عكرِمة : فصلّ الصلاة ، وانحر النّسُك .
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا وكيع ، عن ثابت بن أبي صفية ، عن أبي جعفر { فَصَلّ لِرَبّكَ } قال : الصلاة . وقال عكرِمة : الصلاة ونحر النّسك .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، عن أبي جعفر ، عن الربيع { فَصَلّ لِرَبّكَ وَانْحَرْ } قال : إذا صليت يوم الأضحى فانحر .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، قال : حدثنا قطر ، قال : سألت عطاء ، عن قوله : { فَصَلّ لِرَبّكَ وَانْحَرْ } قال : تصلي وتنحر .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عوف ، عن الحسن { فَصَلّ لِرَبّكَ وَانْحَرْ } قال : اذبح .
قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا أبان بن خالد ، قال : سمعت الحسن يقول { فَصَلّ لِرَبّكَ وَانْحَرْ } قال : الذبح .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة { فَصَلّ لِرَبّكَ وَانْحَرْ } قال : نحر البُدن ، والصلاة يوم النحر .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة { فَصَلّ لِرَبّكَ وَانْحَرْ } قال : صلاة الأضحى ، والنحر : نحر البُدن .
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد { فَصَلّ لِرَبّكَ وَانْحَرْ } قال : مناحر البُدن بِمِنَى .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن جابر ، عن عكرِمة { فَصَلّ لِرَبّكَ وَانْحَرْ } قال : نحر النسك .
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، في قوله : { فَصَلّ لِرَبّكَ وَانْحَرْ } يقول : اذبح يوم النحر .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : { فَصَلّ لِرَبّكَ وَانْحَرْ } قال : نحر البُدْن .
وقال آخرون : قيل ذلك للنبيّ صلى الله عليه وسلم ؛ لأن قوما كانوا يصلون لغير الله ، وينحرون لغيره ، فقيل له : اجعل صلاتَك ونحرَك لله ؛ إذ كان من يكفر بالله يجعله لغيره . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : ثني أبو صخر ، عن محمد بن كعب القرظي ، أنه كان يقول في هذه الاَية : { إنّا أعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ فَصَلّ لِرَبّكَ وَانْحَرْ } يقول : إن ناسا كانوا يصلون لغير الله ، وينحرون لغير الله ، فإذا أعطيناك الكوثر يا محمد ، فلا تكن صلاتك ونحرك إلاّ لي .
وقال آخرون : بل أنزلت هذه الاَية يوم الحُدَيْبية ، حين حُصِرَ النبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، وصُدّوا عن البيت ، فأمره الله أن يصلي ، وينحر البُدْن ، وينصرف ، ففعل . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني أبو صخر ، قال : ثني أبو معاوية البَجَلِيّ ، عن سعيد بن جُبير أنه قال : كانت هذه الآية ، يعني قوله : { فَصَلّ لِرَبّكَ وَانْحَرْ } يوم الحديبية ، أتاه جبريل عليه السلام ، فقال : انحر وارجع ، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فخطب خطبة الفطر والنحر ، ثم ركع ركعتين ، ثم انصرف إلى البُدن فنحرها ، فذلك حين يقول : { فَصَلّ لِرَبّكَ وَانْحَرْ } .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : فصلّ وادع ربّك وَسَلْه . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن أبي سنان ، عن ثابت ، عن الضحاك { فَصَلّ لِرَبّكَ وَانْحَرْ } قال : صلّ لربك وسَلْ .
وكان بعض أهل العربية يتأوّل قوله : { وَانْحَرْ } واستقبل القبلة بنحرك . وذُكر أنه سمع بعض العرب يقول : منازلهم تتناحَر : أي هذا بنحر هذا : أي قبالته . وذُكر أن بعض بني أسد أنشده :
أبا حَكَمٍ هَلْ أنْتَ عَمّ مُجَالِدٍ *** وَسَيّدُ أهْلِ الأَبْطَحِ المُتَناحِرِ ؟
وأولى هذه الأقوال عندي بالصواب : قول من قال : معنى ذلك : فاجعل صلاتَك كلّها لربك خالصا دون ما سواه من الأنداد والآلهة ، وكذلك نحرك اجعله له دون الأوثان ، شكرا له على ما أعطاك من الكرامة والخير الذي لا كُفْء له ، وخصك به ، من إعطائه إياك الكوثر .
وإنما قلت : ذلك أولى الأقوال بالصواب في ذلك ؛ لأن الله جلّ ثناؤه أخبر نبيه صلى الله عليه وسلم بما أكرمه به من عطيته وكرامته ، وإنعامه عليه بالكوثر ، ثم أتبع ذلك قوله : { فَصَلّ لِرَبّكَ وَانْحَرْ } ، فكان معلوما بذلك أنه خصه بالصلاة له ، والنحر على الشكر له ، على ما أعلمه من النعمة التي أنعمها عليه ، بإعطائه إياه الكوثَر ، فلم يكن لخصوص بعض الصلاة بذلك دون بعض ، وبعض النحر دون بعض ، وجه ؛ إذ كان حثا على الشكر على النّعم .
فتأويل الكلام إذن : إنا أعطيناك يا محمد الكوثر ، إنعاما منا عليك به ، وتكرمة منا لك ، فأخلص لربك العبادة ، وأفرد له صلاتك ونُسُكَك ، خلافا لما يفعله من كفر به ، وعبد غيره ، ونحر للأوثان .
{ فصل لربك } فدم على الصلاة خالصا لوجه الله تعالى خلاف الساهي عنها المرائي فيها ، شكرا لإنعامه ، فإن الصلاة جامعة لأقسام الشكر ، وانحر البدن التي هي خيار أموال العرب ، وتصدق على المحاويج خلافا لمن يدعهم ويمنع عنهم الماعون ، فالسورة كالمقابلة للسورة المتقدمة ، وقد فسرت الصلاة بصلاة العيد ، والنحر بالتضحية .
وقوله تعالى : { فصلّ لربك وانحر } أمر بالصلاة على العموم ، ففيه المكتوبات بشروطها والنوافل على ندبها ، والنحر : نحر البدن والنسك في الضحايا في قول جمهور الناس ، فكأنه قال : ليكن شغلك هذين ، ولم يكن في ذلك الوقت جهاد ، وقال أنس بن مالك : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم : ينحر يوم الأضحى قبل الصلاة ، فأمر أن يصلي وينحر ، وقال قتادة والقرطبي وغيره : في الآية طعن على كفار مكة ، أي إنهم يصلون لغير الله مكاء{[12007]} وتصدية ، وينحرون للأصنام ونحوه ، فافعل أنت هذين لربك تكن على صراط مستقيم . وقال ابن جبير : نزلت هذه الآية يوم الحديبية وقت صلح قريش . قيل لمحمد صلى الله عليه وسلم : صل وانحر الهدي ، وعلى هذا تكون الآية من المدني . وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال : معنى الآية : صل لربك وضع يمينك على شمالك عند نحرك في الصلاة ، فالنحر على هذين ليس بمصدر نحر ؛ بل هو الصدر . وقال آخرون المعنى : ارفع يدك في استفتاح صلاتك عند نحرك .
وقوله : { فصل لربك } اعتراض والفاء للتفريع على هذه البشارة بأن يشكر ربه عليها ، فإن الصلاة أفعال وأقوال دالة على تعظيم الله والثناء عليه وذلك شكر لنعمته .
وناسب أن يكون الشكر بالازدياد مما عاداه عليه المشركون وغيرهم ممن قالوا مقالتهم الشنعاء : إنه أبتر ، فإن الصلاة لله شكر له وإغاظة للذين ينهونه عن الصلاة كما قال تعالى : { أرأيت الذي ينهى عبداً إذا صلى } [ العلق : 9 ، 10 ] لأنهم إنما نهَوْه عن الصلاة التي هي لوجه الله دون العبادة لأصنامهم ، وكذلك النحر لله .
والعدول عن الضمير إلى الاسم الظاهر في قوله : { فصل لربك } دون : فصلِّ لنا ، لما في لفظ الرب من الإِيماء إلى استحقاقه العبادة لأجل ربوبيته فضلاً عن فرط إنعامه .
وإضافة ( رب ) إلى ضمير المخاطب لقصد تشريف النبي صلى الله عليه وسلم وتقريبه ، وفيه تعريض بأنه يربُّه ويرأف به .
ويتعين أن في تفريع الأمر بالنحر مع الأمر بالصلاة على أن أعطاه الكوثر خصوصية تناسب الغرض الذي نزلت السورة له ، ألا ترى أنه لم يذكر الأمر بالنحر مع الصلاة في قوله تعالى : { ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين } في سورة الحجر ( 97 ، 98 ) .
ويظهر أن هذه تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم عن صدّ المشركين إيّاه عن البيت في الحديبية ، فأعلمه الله تعالى بأنه أعطاه خيراً كثيراً ، أي قدره له في المستقبل وعُبر عنه بالماضي لتحقيق وقوعه ، فيكون معنى الآية كمعنى قوله تعالى : { إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً } [ الفتح : 1 ] فإنه نزل في أمر الحديبية فقد قال له عمر بن الخطاب : أفتح هذا ؟ قال : نعم .
وهذا يرجع إلى ما رواه الطبري عن قول سعيد بن جبير : أن قوله : { فصل لربك وانحر } أمر بأن يصلي وينحر هديه وينصرفَ من الحديبية .
وأفادت اللام من قوله : { لربك } أنه يخُص الله بصلاته فلا يصلي لغيره . ففيه تعريض بالمشركين بأنهم يصلون للأصنام بالسجود لها والطواف حولها .
وعطف { وانحر } على { فصل لربك } يقتضي تقدير متعلِّقه مماثلاً لمتعلِّق { فصل لربك } لدلالة ما قبله عليه كما في قوله تعالى : { أسمع بهم وأبصر } [ مريم : 38 ] أي وأبصر بهم ، فالتقدير : وانحر له . وهو إيماء إلى إبطال نحر المشركين قرباناً للأصنام فإن كانت السورة مكية فلعل رسول الله صلى الله عليه وسلم حين اقترب وقت الحج وكان يحج كل عام قبلَ البعثة وبعدها قد تردد في نحر هداياه في الحج بعد بعثته ، وهو يود أن يُطعم المحاويج من أهل مكة ومن يحضر في الموسم ويتحرجُ من أن يشارك أهل الشرك في أعمالهم فأمره الله أن ينحر الهدي لله ويطعمها المسلمين ، أي لا يمنعك نحرهم للأصنام أن تنحر أنت ناوياً بما تنحره أنه لله .
وإن كانت السورة مدنية ، وكان نزولها قبل فرض الحج كان النحر مراداً به الضحايا يومَ عيد النحر ولذلك قال كثير من الفقهاء إن قوله : { فصل لربك } مراد به صلاة العيد ، ورُوي ذلك عن مالكٍ في تفسير الآية وقال : لم يبلغني فيه شيء .
وأخذوا من وقوع الأمر بالنحر بعد الأمر بالصلاة دلالةً على أن الضحية تكون بعد الصلاة ، وعليه فالأمر بالنحر دون الذبح مع أن الضّأن أفضل في الضحايا وهي لا تنحر وأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يضحّ إلا بالضأن تغليب للفظ النحر وهو الذي روعي في تسمية يوم الأضحى يومَ النحر وليشمل الضحايا في البدن والهدايا في الحج أو ليشمل الهدايا التي عُطل إرسالها في يوم الحديبية كما علمت آنفاً . ويرشح إيثارَ النحر رَعْيُ فاصلة الراء في السورة . وللمفسرين الأولين أقوال أخر في تفسير « انحر » تجعله لفظاً غريباً .