{ قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ * مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ }
أي : قل لهؤلاء اليهود ، الذين زعموا أن الذي منعهم من الإيمان بك ، أن وليك جبريل عليه السلام ، ولو كان غيره من ملائكة الله ، لآمنوا بك وصدقوا ، إن هذا الزعم منكم تناقض وتهافت ، وتكبر على الله ، فإن جبريل عليه السلام هو الذي نزل بالقرآن من عند الله على قلبك ، وهو الذي ينزل على الأنبياء قبلك ، والله هو الذي أمره ، وأرسله بذلك ، فهو رسول محض .
مع أن هذا الكتاب الذي نزل به جبريل مصدقا لما تقدمه من الكتب غير مخالف لها ولا مناقض ، وفيه الهداية التامة من أنواع الضلالات ، والبشارة بالخير الدنيوي والأخروي ، لمن آمن به ، فالعداوة لجبريل الموصوف بذلك ، كفر بالله وآياته ، وعداوة لله ولرسله وملائكته ، فإن عداوتهم لجبريل ، لا لذاته بل لما ينزل به من عند الله من الحق على رسل الله .
فيتضمن الكفر والعداوة للذي أنزله وأرسله ، والذي أرسل به ، والذي أرسل إليه ، فهذا وجه ذلك .
قال الإمام أبو جعفر بن جرير الطبري رحمه الله : أجمع أهل العلم بالتأويل جميعًا [ على ]{[2221]} أن هذه الآية نزلت جوابًا لليهود من بني إسرائيل ، إذ زعموا أن جبريل عدو لهم ، وأن ميكائيل ولي لهم ، ثم اختلفوا في السبب الذي من أجله قالوا ذلك . فقال بعضهم : إنما كان سبب قيلهم ذلك من أجل مناظرة جَرَت بينَهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم في{[2222]} أمر نبوته . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كُرَيْب ، حدثنا يونس بن بُكَيْر ، عن عبد الحميد بن بَهرام ، عن شَهْر بن حَوْشَب ، عن ابن عباس أنه قال : حضرت عصابة من اليهود رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : يا أبا القاسم ، حدثنا عن خلال نسألك عنهن ، لا يعلمهن إلا نبي ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " سلوا عما شئتم ، ولكن اجعلوا لي ذمة وما أخذ يعقوب على بنيه ، لئن أنا حدثتكم شيئًا فعرفتموه لتتابِعُنِّي على الإسلام " . فقالوا : ذلك لك . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " سلوني عما شئتم " . فقالوا : أخبرنا عن أربع خلال نسألك عنهن : أخبرنا أيّ الطعام حرم{[2223]} إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة ؟ وأخبرنا كيف ماء{[2224]} المرأة وماء الرجل ؟ وكيف يكون الذكر منه والأنثى ؟ وأخبرنا بهذا النبي الأمي في النوم{[2225]} ووليه من الملائكة ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " عليكم عهد الله لئن أنا أنبأتكم لتتابعنِّي ؟ " فأعطوه ما شاء الله من عهد وميثاق . فقال : " نشدتكم{[2226]} بالذي أنزل التوراة على موسى ، هل تعلمون أن إسرائيل يعقوب مرض مرضًا شديدًا فطال سقمه منه ، فنذر لله نذرًا لئن عافاه الله من سقمه ليحرّمن أحب الطعام والشراب إليه ، وكان أحب الطعام إليه لحوم{[2227]} الإبل وأحب الشراب إليه ألبانها ؟ " . فقالوا : اللهم نعم . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اللهم اشهد{[2228]} عليهم . وأنشدكم بالله الذي لا إله إلا هو ، الذي أنزل التوراة على موسى ، هل تعلمون أن ماء الرجل أبيض غليظ ، وأن ماء المرأة أصفر رقيق ، فأيهما علا كان له الولد والشبه بإذن الله ، وإذا علا ماء الرجل ماء المرأة كان الولد ذكرًا بإذن الله ، وإذا علا ماء المرأة ماء الرجل كان الولد أنثى بإذن الله ؟ " . قالوا : اللهم نعم . قال : " اللهم اشهد " . قال : " وأنشدكم بالله الذي أنزل التوراة على موسى ، هل تعلمون أن هذا النبي الأمي تنام عيناه ولا ينام قلبه ؟ " . قالوا : اللهم نعم . قال : " اللهم اشهد " . قالوا : أنت الآن ، فحدثنا من وليك من الملائكة ، فعندها نجامعك أو نفارقك . قال : " فإن وليي جبريل ، ولم يبعث الله نبيًا قط إلا وهو وليُّه " . قالوا : فعندها نفارقك ، لو كان وليّك سواه من الملائكة تابعناك{[2229]} وصدقناك . قال : " فما مَنَعكم أن تصدقوه ؟ " قالوا : إنه عدونا . فأنزل الله عز وجل : { قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ } إلى قوله : { لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ } [ البقرة : 103 ] فعندها باؤوا بغضب على غضب{[2230]} .
وقد رواه الإمام أحمد في مسنده ، عن أبي النضر هاشم بن القاسم وعبد بن حميد في تفسيره ، عن أحمد بن يونس ، كلاهما عن عبد الحميد بن بَهرام ، به{[2231]} .
ورواه الإمام أحمد - أيضاً - عن الحسين بن محمد المروزي ، عن عبد الحميد ، بنحوه [ به ]{[2232]} {[2233]} .
وقد رواه محمد بن إسحاق بن يسار : حدثني عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي حسين ، عن شهر بن حوشب ، فذكره مرسلا وزاد فيه : قالوا : فأخبرنا عن الروح قال : " أنشدكم بالله وبآياته {[2234]}_
عند بني إسرائيل ، هل تعلمون أنه جبريل ، وهو الذي يأتيني ؟ " قالوا : نعم ، ولكنه لنا عدو ، وهو ملك إنما يأتي بالشدة وسفك الدماء ، فلولا ذلك اتبعناك{[2235]} . فأنزل الله فيهم : { قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نزلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ } إلى قوله : { كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ } [ البقرة : 101 ] .
وقال الإمام أحمد : حدثنا أبو أحمد{[2236]} حدثنا عبد الله بن الوليد العجلي ، عن بكير بن شهاب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : أقبلت يهود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا أبا القاسم ، إنا نسألك عن خمسة أشياء ، فإن أنبأتنا بهن عرفنا أنك نبي واتبعناك . فأخذ عليهم ما أخذ إسرائيل على بنيه إذ قال : { اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ } [ يوسف : 66 ] قال : " هاتوا " . قالوا : أخبرنا عن علامة النبي . قال : " تنام عيناه ولا ينام قلبه " . قالوا : أخبرنا كيف تؤنث المرأة وكيف يذكر الرجل ؟ قال : " يلتقي الماءان فإذا علا ماء الرجل ماء المرأة أذكرت ، وإذا علا ماء المرأة ماء الرجل أنثت " ، قالوا : أخبرنا ما{[2237]} حرّم إسرائيل على نفسه . قال : " كان يشتكي عِرْق النَّساء ، فلم يجد شيئًا يلائمه إلا ألبان كذا وكذا " - قال أحمد : قال بعضهم : يعني الإبل ، فحرم لحومها - قالوا : صدقت . قالوا : أخبرنا ما هذا الرعد ؟ قال " ملك من ملائكة الله ، عز وجل ، موكل بالسحاب بيديه - أو في يده - مِخْراق من نار يزجر به السحاب ، يسوقه حيث أمره الله عز وجل " . قالوا : فما هذا الصوت الذي نسمعه ؟ قال : " صوته " . قالوا : صدقت . إنما بقيت واحدة وهي التي نتابعك إن أخبرتنا {[2238]} إنه ليس من نبي إلا وله مَلَك يأتيه بالخبر ، فأخبرنا من صاحبك ؟ قال : " جبريل عليه السلام " ، قالوا : جبريل ذاك الذي ينزل بالحرب والقتال والعذاب عدونا ، لو قلت : ميكائيل الذي ينزل بالرحمة والنبات والقطر لكان{[2239]} فأنزل الله عز وجل : { قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ } إلي آخر الآية .
ورواه الترمذي ، والنسائي من حديث عبد الله بن الوليد ، به{[2240]} . وقال الترمذي : حسن غريب .
وقال سُنَيْد في تفسيره ، عن حجاج بن محمد ، عن ابن جُرَيْج : أخبرني القاسم بن أبي بَزَّة أن يهود سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن صاحبه الذي ينزل{[2241]} عليه بالوحي . قال : " جبريل " . قالوا : فإنه لنا عدو ، ولا يأتي إلا بالشدة والحرب والقتال . فنزل : { قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ } الآية . قال ابن جريج : وقال مجاهد : قالت يهود : يا محمد ، ما ينزل{[2242]} جبريل إلا بشدة وحرب وقتال ، وإنه لنا عدو . فنزل : { قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ } الآية .
وقال البخاري : قوله : { مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ } قال عكرمة : جبر ، وميك ، وإسراف : عبد . وإيل : الله . حدثنا عبد الله بن مُنير{[2243]} سَمِع عبد الله بن بكر{[2244]} حدثنا حُمَيد ، عن أنس بن مالك ،
قال : سمع عبد الله بن سلام بمقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في أرض يخترف . فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن{[2245]} إلا نبي : ما أول أشراط الساعة ؟ وما أول طعام أهل الجنة ؟ وما ينزع الولد إلى أبيه أو إلى أمه ؟ قال : " أخبرني بِهن جبريل آنفًا " . قال : جبريل ؟ قال : " نعم " . قال : ذاك عدو اليهود من الملائكة ، فقرأ هذه الآية : { مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نزلَهُ عَلَى قَلْبِكَ } " أما أول أشراط الساعة فنار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب ، وأما أول طعام يأكله أهل الجنة فزيادة كبد الحوت ، وإذا سبق ماء الرجل ماء المرأة نزع الولد ، وإذا سبق ماء المرأة [ ماء الرجل ] {[2246]} نزعت " . قال : أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك{[2247]} رسول الله . يا رسول الله ، إن اليهود قوم بُهُت ، وإنهم إن يعلموا بإسلامي قبل أن تسألهم يبهتوني{[2248]} . فجاءت اليهود فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " أي رجل عبد الله بن سلام فيكم ؟ " قالوا : خيرنا وابن خيرنا ، وسيدنا وابن سيدنا . قال : " أرأيتم إن أسلم عبد الله بن سلام " . فقالوا : أعاذه الله من ذلك . فخرج عبد الله فقال : أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله . فقالوا : شرنا وابن شرنا . فانتقصوه .
قال{[2249]} هذا الذي كنت أخاف يا رسول الله .
انفرد به البخاري من هذا الوجه{[2250]} وقد أخرجه من وجه آخر ، عن أنس بنحوه{[2251]} وفي صحيح مسلم ، عن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قريب من هذا السياق{[2252]} كما سيأتي في موضعه{[2253]} .
وحكاية البخاري عن عكرمة هو المشهور أن " إيل " هو الله . وقد رواه سفيان الثوري ، عن خَصِيف ، عن عكرمة .
ورواه عبد بن حميد ، عن إبراهيم بن الحكم ، عن أبيه ، عن عكرمة ، ورواه ابن جرير ، عن الحسين بن يزيد الطحان ، عن إسحاق بن منصور ، عن قيس ، عن عاصم ، عن عكرمة ، أنه قال : إن جبريل اسمه عبد الله وميكائيل : عبيد الله . إيل : الله .
ورواه يزيد النحوي ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، مثله سواء . وكذا قال غير واحد من السلف ، كما سيأتي قريبا .
[ وقال الإمام أحمد في أثناء حديث سمرة بن جندب : حدثنا محمد بن سلمة ، حدثنا محمد بن إسحاق ، حدثنا محمد بن عمرو بن عطاء قال : قال لي علي بن الحسين : اسم جبريل عبد الله ، واسم ميكائيل : عبيد الله ]{[2254]} .
ومن الناس من يقول : " إيل " عبارة عن عبد ، والكلمة الأخرى هي اسم الله ؛ لأن كلمة " إيل " لا تتغير في الجميع ، فوزانه : عبد الله ، عبد الرحمن ، عبد الملك ، عبد القدوس ، عبد السلام ، عبد الكافي ، عبد الجليل . فعبد موجودة في هذا كله ، واختلفت الأسماء المضاف إليها ، وكذلك جبريل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل ونحو ذلك ، وفي كلام غير العرب يقدمون المضاف إليه على المضاف ، والله أعلم .
ثم قال ابن جرير : وقال آخرون : بل كان سبب قيلهم ذلك من أجل مناظرة جرت بين عمر بن الخطاب وبينهم في أمر النبي صلى الله عليه وسلم . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن المثنى ، حدثني ربعي بن عُلَيّة ، عن داود بن أبي هند ، عن الشعبي ، قال : نزل عمر الروحاء ، فرأى رجالا يبتدرون أحجارًا يصلون إليها ، فقال : ما بال هؤلاء ؟ قالوا : يزعمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى هاهنا . قال : فكفر ذلك . وقال : إنما رسول الله صلى الله عليه وسلم أدركته الصلاة بواد صلاها ثم ارتحل ، فتركه . ثم أنشأ يحدثهم ، فقال : كنت أشهد اليهود يوم مِدْرَاسهم{[2255]} فأعجب من التوراة كيف تصدق الفرقان ومن الفرقان كيف يصدق التوراة ؟ فبينما أنا عندهم ذات يوم ، قالوا : يا ابن الخطاب ، ما من أصحابك أحد أحب إلينا منك . قلت : ولم ذلك ؟ قالوا : إنك تغشانا وتأتينا . فقلت : إني آتيكم فأعجب من الفرقان{[2256]} كيف يصدق التوراة ، ومن التوراة كيف تصدق الفرقان . قال : ومر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا ابن الخطاب ، ذاك صاحبكم فالحق به ، قال : فقلت لهم عند ذلك : نشدتكم{[2257]} بالله الذي لا إله إلا هو ، وما استرعاكم من حقه واستودعكم من كتابه : أتعلمون أنه رسول الله ؟ قال : فسكتوا . فقال لهم عالمهم وكبيرهم : إنه قد غَلَّظ عليكم فأجيبوه . فقالوا : فأنت عالمنا وكبيرنا فأجبه أنت . قال : أما إذ نشدتنا بما نشدتنا به فإنا نعلم أنه رسول الله ، قال : قلت : ويحكم فأنَّي هلكتم ؟ ! قالوا{[2258]} إنا لم نهلك{[2259]} [ قال ]{[2260]} : قلت : كيف ذلك وأنتم تعلمون أنه رسول الله [ ثم ]{[2261]} ولا تتبعونه ولا تصدقونه ؟ قالوا : إن لنا عدوا من الملائكة وسِلْمًا من الملائكة ، وإنه قرن بنبوته عدونا من الملائكة . قال : قلت : ومن عدوكم ومن سلمكم ؟ قالوا : عدونا جبريل ، وسلمنا ميكائيل . قال : قلت : وفيم عاديتم جبريل ، وفيم سالمتم ميكائيل ؟ قالوا : إن جبريل مَلَك الفظاظة والغلظة والإعسار والتشديد والعذاب ونحو هذا ، وإن ميكائيل ملك الرأفة والرحمة والتخفيف ونحو هذا .
قال : قلت : وما منزلتهما من ربهما عز وجل ؟ قالوا : أحدهما عن يمينه والآخر عن يساره . قال : قلت : فو [ الله ]{[2262]} الذي لا إله إلا هو ، إنهما والذي بينهما لعدو لمن عاداهما وسلم لمن سالمهما وما ينبغي لجبريل أن يسالم عدو ميكائيل وما ينبغي لميكائيل أن يسالم عدو جبريل . ثم قمت فاتبعت النبي صلى الله عليه وسلم فلحقته وهو خارج من خَوْخة لبني فلان ، فقال : يا ابن الخطاب ، ألا أقرئك آيات نزلن{[2263]} قبل ؟ " فقرأ عليّ : { مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نزلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ } حتى قرأ هذه الآيات . قال : قلت : بأبي وأمي يا رسول الله ، والذي بعثك بالحق لقد جئت وأنا أريد أن أخبرك ، فأسمع اللطيف الخبير قد سبقني إليك بالخبر{[2264]} .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا أبو أسامة ، عن مجالد ، أنبأنا عامر ، قال : انطلق عمر بن الخطاب إلى اليهود ، فقال : أنشدكم بالذي أنزل التوراة على موسى : هل تجدون محمدًا في كتبكم ؟ قالوا : نعم . قال : فما يمنعكم أن تتبعوه ؟ قالوا : إن الله لم يبعث رسولا{[2265]} إلا جعل له من الملائكة كفْلا وإن جبريل كَفَل محمَّدًا ، وهو الذي يأتيه ، وهو عدونا من الملائكة ، وميكائيل سلمنا ؛ لو كان ميكائيل هو الذي يأتيه أسلمنا . قال : فإني أنشدكم بالله الذي أنزل التوراة على موسى : ما منزلتهما من رب العالمين ؟ قالوا : جبريل عن يمينه وميكائيل عن شماله . قال عمر . وإني أشهد ما ينزلان إلا بإذن الله ، وما كان ميكائيل ليسالم عدو جبريل ، وما كان جبريل ليسالم عدو ميكائيل . فبينما هو عندهم إذ مر النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : هذا صاحبك يا ابن الخطاب : فقام إليه عمر ، فأتاه ، وقد أنزل الله ، عز وجل ، عليه : { مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ }{[2266]} .
وهذان الإسنادان يدلان على أن الشعبي حدث به عن عمر ، ولكن فيه انقطاع بينه وبين عمر ، فإنه لم يدرك وفاته{[2267]} ، والله أعلم .
وقال ابن جرير : حدثنا بشر{[2268]} حدثنا يزيد بن زُرَيع ، عن سعيد ، عن قتادة ، قال : ذُكر لنا أن عمر بن الخطاب انطلق ذات يوم إلى اليهود . فلما أبصروه{[2269]} رحبوا به ، فقال لهم عمر : أما والله ما جئت لحبكم ولا للرغبة فيكم ، ولكن جئت لأسمع منكم . فسألهم وسألوه . فقالوا : من صاحب صاحبكم{[2270]} ؟ فقال لهم : جبريل . فقالوا : ذاك عدونا من أهل السماء ، يُطلع محمدًا على سرنا ، وإذا جاء جاء الحرب والسَّنَة ، ولكن صاحب صاحبنا ميكائيل ، وكان إذا جاء جاء الخصب والسلم . فقال لهم عمر : هل تعرفون جبريل وتنكرون محمدًا صلى الله عليه وسلم ؟ ففارقهم عمر عند ذلك وتوجه نحو النبي صلى الله عليه وسلم ،
ليحدثه حديثهم ، فوجده قد أنزلت عليه هذه الآية : { قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نزلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ }{[2271]} .
ثم قال : حدثني المثنى ، حدثنا آدم ، حدثنا أبو جعفر عن قتادة ، قال : بلغنا أن عمر أقبل إلى اليهود يومًا ، فذكر نحوه . وهذا - أيضًا - منقطع ، وكذلك رواه أسباط ، عن السدي ، عن عمر مثل هذا أو نحوه ، وهو{[2272]} منقطع أيضًا .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن عمار ، حدثنا عبد الرحمن - يعني الدَّشْتَكي - حدثنا أبو جعفر ، عن حصين بن عبد الرحمن ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى أن يهوديا أتي{[2273]} عمر بن الخطاب ، فقال : إن جبريل الذي يذكر صاحبكم عدو لنا . فقال عمر : { مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ } قال : فنزلت على لسان عمر ، رضي الله عنه{[2274]} .
وقال ابن جرير : حدثني يعقوب بن إبراهيم ، حدثنا هشيم ، أخبرنا حصين بن عبد الرحمن ، عن ابن أبي ليلى في قوله : { مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ } قال : قالت اليهود للمسلمين : لو أن ميكائيل كان الذي ينزل عليكم اتبعناكم ، فإنه ينزل بالرحمة والغيث ، وإن جبريل ينزل بالعذاب والنقمة ، فإنه لنا عدو{[2275]} قال : فنزلت هذه الآية .
حدثني يعقوب قال : حدثنا هُشَيْم ، أخبرنا عبد الملك ، عن عطاء ، بنحوه . وقال عبد الرزاق : أخبرنا مَعْمَر ، عن قتادة في قوله : { قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ } قال : قالت اليهود : إن جبريل عدونا ، لأنه ينزل بالشدة والسَّنَة ، وإن ميكائيل ينزل بالرخاء والعافية والخصب ، فجبريل عدونا . فقال الله تعالى : { مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ } [ الآية ]{[2276]} .
وأما تفسير الآية فقوله تعالى : { قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نزلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ } أي : من عادى جبريل فليعلم أنه الروح الأمين الذي نزل بالذكر الحكيم على قلبك من الله بإذنه له في ذلك ، فهو رسول من رسل الله مَلَكي [ عليه وعلى سائر إخوانه من الملائكة السلام ]{[2277]} ومن عادى رسولا فقد عادى جميع الرسل ، كما أن من آمن برسول فإنه يلزمه الإيمان بجميع الرسل ، وكما أن من كفر برسول فإنه يلزمه الكفر بجميع الرسل ، كما قال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلا أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا } [ النساء : 150 ، 151 ] فحكم عليهم بالكفر المحقّق ، إذْ آمنوا ببعض الرسل وكفروا ببعضهم{[2278]} وكذلك من عادى جبريل فإنه عدو لله ؛ لأن جبريل لا ينزل بالأمر من تلقاء نفسه ، وإنما ينزل بأمر ربه كما قال : { وَمَا نَتَنزلُ إِلا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا } [ مريم : 64 ] وقال تعالى : { وَإِنَّهُ لَتَنزيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ نزلَ بِهِ الرُّوحُ الأمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ } [ الشعراء : 192 - 194 ] وقد روى البخاري في صحيحه ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من عادى لي وليا فقد بارزني بالحرب " {[2279]} . ولهذا غضب الله لجبريل على من عاداه ، فقال : { مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نزلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ } أي : مِنَ الكتب المتقدمة { وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ } أي : هدى لقلوبهم وبشرى لهم بالجنة ، وليس ذلك إلا للمؤمنين . كما قال تعالى : { قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ } [ فصلت : 44 ] ، وقال تعالى : { وَنُنزلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلا خَسَارًا } [ الإسراء : 82 ] .
{ قُلْ مَن كَانَ عَدُوّاً لّجِبْرِيلَ فَإِنّهُ نَزّلَهُ عَلَىَ قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللّهِ مُصَدّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَىَ لِلْمُؤْمِنِينَ }
أجمع أهل العلم بالتأويل جميعا على أن هذه الآية نزلت جوابا لليهود من بني إسرائيل ، إذْ زعموا أن جبريل عدوّ لهم ، وأن ميكائيل وليّ لهم . ثم اختلفوا في السبب الذي من أجله قالوا ذلك ، فقال بعضهم : إنما كان سبب قيلهم ذلك من أجل مناظرة جرت بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمر نبوّته ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا يونس ، عن بكير ، عن عبد الحميد بن بهرام ، عن شهر بن حوشب ، عن ابن عباس أنه قال : حضرت عصابة من اليهود رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا أبا القاسم حدثنا عن خلال نسألك عنهنّ لا يعلمهن إلا نبيّ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «سَلُوا عَمّا شِئْتُمْ ، وَلَكِنْ اجْعَلُوا لِي ذِمّةَ اللّهِ وَمَا أخَذَ يَعْقُوبُ على بَنِيهِ لَئِنْ أنا حَدّثْتُكُمْ شَيْئا فَعَرَفْتُمُوهُ لَتُتابِعُنّي على الإسْلامِ » . فقالوا : ذلك لك . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «سَلُونِي عَمّا شِئْتُمْ » فقالوا : أخبرنا عن أربع خلال نسألك عنهن أخبرنا أيّ الطعام حرّم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة ؟ وأخبرنا كيف ماء المرأة وماء الرجل ، وكيف يكون الذكر منه والأنثى ؟ وأخبرنا بهذا النبيّ الأميّ في النوم ومَنْ وليه من الملائكة ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «عَلَيْكُمْ عَهْدُ اللّهِ لَئِنْ أنا أنْبَأْتُكُمْ لَتُتابعُنّي » . فأعطوه ما شاء من عهد وميثاق ، فقال : «نَشَدْتُكُمْ بالّذِي أنْزَلَ التّوْرَاةَ على مُوسَى هَلْ تَعْلَمُونَ أنّ إسْرَائِيلَ مَرِضَ مَرَضا شَدِيدا فَطالَ سَقَمُه مِنْه ، فَنَذَرَ نَذْرا لَئِنْ عافاه الله مِنْ سَقَمِهِ لَيُحَرّمَنّ أحَبّ الطّعامِ والشرَابِ إلَيْهِ وكانَ أحَبّ الطّعامِ إلَيْهِ لَحْمُ الإبِلِ ؟ » ( قال أبو جعفر : فيما أَرى ) : «وأحَبّ الشّرَابِ إلَيْهِ ألْبانها » فقالوا : اللهم نعم . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أشْهِد الله عَلَيْكُمْ وأنْشُدُكُمْ بِاللّهِ الّذِي لا إلَه إلاّ هُوَ الّذِي أنْزَلَ التّوْرَاةَ على مُوسَى ، هَلْ تَعْلَمُونَ أنّ ماءَ الرّجُلِ أبْيَضُ غَلِيظٌ ، وأنّ مَاءَ المَرأةِ أصْفَرُ رَقِيقٌ ، فَأيّهُما عَلاَ كَانَ لَهُ الوَلَدُ وَالشّبَهُ بإذْنِ اللّهِ ، فَاذَا عَلاَ مَاءُ الرّجُلِ مَاءَ المَرْأَةِ كَانَ الْوَلَدُ ذَكَرا بِاذْنِ اللّهِ وَإِذَا عَلاَ مَاءُ الْمَرَأَةِ مَاءَ الرّجُلِ كَانَ الْوَلَدُ أُنْثَى بِاذْنِ اللّهِ ؟ » . قالوا : اللهم نعم قال : «اللّهُمّ اشْهَدْ » . قال : «وَأنْشُدُكُمْ بالّذِي أنْزَلَ التّوْرَاةَ على مُوسَى ، هَلْ تَعْلَمُونَ أنّ هَذَا النّبِيّ الأمي تَنامُ عَيْنَاهُ وَلاَ يَنامُ قَلْبُهُ ؟ » . قالوا : اللهم نعم قال : «اللّهُمّ أشهَدْ » . قالوا : أنت الاَن تحدثنا مَنْ وليك من الملائكة ؟ فعندها نتابعك أو نفارقك . قال : «فَانّ وَلِيّي جِبْرِيلُ ، وَلَمْ يَبْعَثِ اللّهُ نَبِيّا قَطّ إِلاّ وَهُوَ وَلِيّهُ » . قالوا : فعندها نفارقك ، لو كان وليك سواه من الملائكة تابعناك وصدقناك . قال : «فَمَا يَمْنَعُكُمْ أنْ تُصَدّقُوهُ ؟ » قالوا : إنه عدوّنا . فأنزل الله عزّ وجل : مَنْ كَانَ عَدُوّا لِجِبْرِيلَ فَانّهُ نَزّلَهُ على قَلْبِكَ بِاذْنِ اللّهِ إلى قوله : كأنّهُمْ لا يَعْلَمُونَ . فعندها باءوا بغضب على غضب .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : حدثني محمد بن إسحاق ، قال : حدثني عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي الحسين ، يعني المكي ، عن شهر بن حوشب الأشعري ، أن نفرا من اليهود جاءوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا محمد أخبرنا عن أربع نسألك عنهن فإن فعلت اتبعناك وصدّقناك وآمنا بك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «عَلَيْكُمْ بِذَلِكَ عَهْدُ اللّهِ وَمِيثَاقُهُ لَئِنْ أنا أخْبَرْتُكُمْ بِذَلِكَ لَتُصَدّقُنّي » قالوا : نعم . قال : «فاسألُوا عَمّا بَدَا لَكُمْ » . فقالوا : أخبرنا كيف يشبه الولد أمه وإنما النطفة من الرجل ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أَنْشُدُكُمْ بِاللّهِ وَبِأيّامِهِ عِنْدَ بَنِي إسْرَائِيلَ هَلْ تَعْلَمُونَ أنّ نُطْفَةَ الرّجُلِ بَيْضَاءُ غَلِيظَةٌ ، وَنُطْفَةَ المَرأةِ صَفْرَاءُ رَقِيقَةٌ ، فَأيّهُمَا غَلَبَتْ صَاحِبَتها كانَ لَهَا الشّبَهُ ؟ » قالوا : نعم . قالوا : فأخبرنا كيف نومك ؟ قال : «أنْشُدُكُمْ بِاللّهِ وَبِأيّامِهِ عِنْدَ بَنِي إسْرَائِيلَ ، هَلْ تَعْلَمُونَ أنّ هَذَا النّبِيّ الأميّ تَنَامُ عَيْنَاهُ وَلاَ يَنَامُ قَلْبُهُ ؟ » قالوا : اللهم نعم . قال : «اللّهُمّ اشْهَدْ » قالوا : أخبرنا أيّ الطعام حرّم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة ؟ قال : «هَلْ تَعْلَمُونَ أنّهُ كَانَ أحَبّ الطّعامِ وَالشّرابِ إلَيْهِ ألْبانُ الإبِلِ ولُحُومِهَا ، وأنّهُ اشْتَكَى شَكْوَى فَعافَاهُ اللّهُ مِنْهَا ، فَحَرّمَ أحَبّ الطّعامِ وَالشّرَابِ إلَيْهِ شُكْرا لِلّهِ فَحَرّمَ على نَفْسِهِ لُحُومَ الإبِلِ وألْبَانِهَا ؟ » قالوا : اللهم نعم . قالوا : فأخبرنا عن الروح قال : «أنْشَدُكُمْ بالله وبأيّامِهِ عِنْدَ بَنِي إسْرَائِيلَ ، هَلْ تَعْلَمُونَ أنّهُ جِبْرِيلُ وَهُوَ الّذِي يأتِينِي ؟ » قالوا : نعم ، ولكنه لنا عدوّ ، وهو مَلَك إنما يأتي بالشدّة وسفك الدماء ، فلولا ذلك اتبعناك . فأنزل الله فيهم : { قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوّا لِجِبْرِيلَ فَانّهُ نَزّلَهُ على قَلْبِكَ } إلى قوله : { كأنّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : حدثني القاسم بن أبي بزة : أن يهود سألوا النبيّ صلى الله عليه وسلم مَنْ صاحبه الذي ينزل عليه بالوحي ، فقال : «جِبْرِيل » . قالوا : فإنه لنا عدوّ ولا يأتي إلا بالحرب والشدة والقتال . فَنَزَلَ : { مَنْ كَانَ عَدُوّا لِجِبْرِيلَ } الآية .
قال ابن جريج : وقال مجاهد : قالت يهود : يا محمد ما ينزل جبريل إلا بشدة وحرب ، وقالوا : إنه لنا عدوّ فنزل : { مَنْ كَانَ عَدُوّا لِجِبْرِيلَ } الآية .
وقال آخرون : بل كان سبب قيلهم ذلك من أجل مناظرة جرت بين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وبينهم في أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن المثنى ، قال : حدثنا ربعي بن علية ، عن داود بن أبي هند ، عن الشعبي ، قال : نزل عمر الرّوْحَاء ، فرأى رجالاً يبتدرون أحجارا يصلّون إليها ، فقال : ما هؤلاء ؟ قالوا : يزعمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى ههنا . فكره ذلك وقال : إنما رسول الله صلى الله عليه وسلم أدركته الصلاة بوادٍ فصلى ثم ارتحل فتركه . ثم أنشأ يحدثهم فقال : كنت أشهد اليهود يوم مِدْرَاسهم فأعجب من التوراة كيف تصدّق الفرقان ومن الفرقان كيف يصدّق التوراة ، فبينما أنا عندهم ذات يوم قالوا : يا ابن الخطاب ما من أصحابك أحد أحبّ إلينا منك قلت : ولم ذلك ؟ قالوا : إنك تغشانا وتأتينا . قال : قلت إني آتيكم فأعجب من الفرقان كيف يصدّق التوراة ومن التوراة كيف تصدّق الفرقان قال : ومَرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا ابن الخطاب ذاك صاحبكم فالحق به قال : فقلت لهم عند ذلك : أنشدكم بالله الذي لا إلَه إلا هو وما استرعاكم من حقه واستودعكم من كتابه ، أتعلمون أنه رسول الله ؟ قال : فسكتوا . قال : فقال عالمهم وكبيرهم : إنه قد عظّم عليكم فأجيبوه قالوا : أنت عالمنا وسيدنا فأجبه أنت . قال : أما إذْ أنشدتنا به ، فإنا نعلم أنه رسول الله . قال : قلت : ويحكم إذا هلكتم . قالوا : إنا لم نهلك . قال : قلت : كيف ذاك وأنتم تعلمون أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم لا تتبعونه ، ولا تصدقونه ؟ قالوا : إن لنا عدوّا من الملائكة وسِلْما من الملائكة ، وإنه قُرِنَ به عدوّنا من الملائكة . قال : قلت : ومن عدوّكم ومن سِلْمُكم ؟ قالوا : عدوّنا جبريل وسلمنا ميكائيل . قال : قلت : وفيم عاديتم جبريل وفيم سالمتم ميكائيل ؟ قالوا : إن جبريل ملك الفظاظة والغلظة والإعسار والتشديد والعذاب ونحو هذا ، وإن ميكائيل ملك الرأفة والرحمة والتخفيف ونحو هذا . قال : قلت : وما منزلتهما من ربهما ؟ قالوا : أحدهما عن يمينه والاَخر عن يساره ، قال : قلت : فوالله الذي لا إلَه إلا هو إنهما والذي بينهما لعدوّ لمن عاداهما وسلم لمن سالمهما ، ما ينبغي لجبريل أن يسالم عدوّ ميكائيل ، ولا لميكائيل أن يسالم عدوّ جبريل . قال : ثم قمت فاتبعت النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فلحقته وهو خارج من مَخْرَفة لبني فلان فقال لي : «يَا ابْنَ الخَطّابِ أَلاَ أُقْرِئُكَ آياتٍ نَزَلْنَ ؟ » فقرأ علي : قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوّا لِجبْرِيلَ فَانّهُ نَزّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِاذْنِ اللّهِ مُصَدّقا لَمَا بَيْنَ يَدَيْهِ حتى قرأ الاَيات . قال : قلت : بأبي أنت وأمي يا رسول الله والذي بعثك بالحقّ لقد جئت وأنا أريد أن أخبرك الخبر فأسمع اللطيف الخبير قد سبقني إليك بالخبر .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا إبراهيم ، قال : حدثنا ابن علية ، عن داود ، عن الشعبي ، قال : قال عمر : كنت رجلاً أغشى اليهود في يوم مدراسهم ثم ذكر نحو حديث ربعي .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : ذكر لنا أن عمر بن الخطاب انطلق ذات يوم إلى اليهود ، فلما أبصروه رحّبوا به ، فقال لهم عمر : أما والله ما جئت لحبكم ولا للرغبة فيكم ، ولكن جئت لأسمع منكم فسألهم وسألوه ، فقالوا : من صاحب صاحبكم ؟ فقال لهم : جبريل . فقالوا : ذاك عدوّنا من أهل السماء يُطْلع محمدا على سرّنا ، وإذا جاء جاء بالحرب والسّنَةِ ، ولكن صاحب صاحبنا ميكائيل ، وكان إذا جاء جاء بالخصب وبالسلم ، فقال لهم عمر : أفتعرفون جبريل وتنكرون محمدا ففارقهم عمر عند ذلك وتوجه نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم ليحدّثه حديثهم ، فوجده قد أُنزل عليه هذه الآية : { قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوّا لِجبْرِيلَ فإنّهُ نَزّلَهُ على قَلْبِكَ بإذْنِ اللّهِ } .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا آدم ، قال : حدثنا أبو جعفر عن قتادة ، قال : بلغنا أن عمر بن الخطاب أقبل على اليهود يوما فذكر نحوه .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : مَنْ كَانَ عَدُوّا لِجِبْرِيلَ قال : قالت اليهود : إن جبريل هو عدوّنا لأنه ينزل بالشدّة والحرب والسنة ، وإن ميكائيل ينزل بالرخاء والعافية والخصب ، فجبريل عدوّنا . فقال الله جل ثناؤه : مَنْ كَانَ عَدُوّا لجِبْرِيلَ .
حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : { قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوّا لِجِبْرِيلَ فَانّهُ نَزّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِاذْنِ اللّهِ مُصَدّقا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ } قال : كان لعمر بن الخطاب أرض بأعلى المدينة ، فكان يأتيها ، وكان ممرّه على طريق مدراس اليهود ، وكان كلما دخل عليهم سمع منهم . وإنه دخل عليهم ذات يوم ، فقالوا : يا عمر ما في أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أحد أحبّ إلينا منك إنهم يمرّون بنا فيؤذوننا ، وتمرّ بنا فلا تؤذينا ، وإنا لنطمع فيك . فقال لهم عمر : أيّ يمين فيكم أعظم ؟ قالوا : الرحمن الذي أنزل التوراة على موسى بطور سيناء . فقال لهم عمر : فأنشدكم بالرحمن الذي أنزل التوراة على موسى بطور سيناء ، أتجدون محمدا صلى الله عليه وسلم عندكم ؟ فسكتوا . فقال : تكلموا ما شأنكم ؟ فوالله ما سألتكم وأنا شاكّ في شيء من ديني فنظر بعضهم إلى بعض ، فقام رجل منهم فقال : أخبروا الرجل لتخْبِرُنّه أو لأخبرنّه قالوا : نعم ، إنا نجده مكتوبا عندنا ولكن صاحبه من الملائكة الذي يأتيه بالوحي هو جبريل وجبريل عدوّنا ، وهو صاحب كل عذاب أو قتال أو خسف ، ولو أنه كان وليه ميكائيل إذا لاَمنا به ، فإن ميكائيل صاحب كل رحمة وكل غيث . فقال لهم عمر : فأنشدكم بالرحمن الذي أنزل التوراة على موسى بطور سيناء ، أين مكان جبريل من الله ؟ قالوا : جبريل عن يمينه ، وميكائيل عن يساره . قال عمر : فأشهدكم أن الذي هو عدوّ للذي عن يمينه عدوّ للذي هو عن يساره ، والذي هو عدوّ للذي هو عن يساره عدوّ للذي هو عن يمينه ، وأنه من كان عدوّهما فإنه عدوّ الله . ثم رجع عمر ليخبر النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فوجد جبريل قد سبقه بالوحي ، فدعاه النبيّ صلى الله عليه وسلم فقرأ عليه ، فقال عمر : والذي بعثك بالحقّ ، لقد جئتك وما أريد إلاّ أن أخبرك .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق بن الحجاج الرازي ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن مغراء ، قال : حدثنا زهير ، عن مجاهد ، عن الشعبي ، قال : انطلق عمر إلى يهود ، فقال : إني أنشدكم بالذي أنزل التوراة على موسى هل تجدون محمدا في كتابكم ؟ قالوا : نعم . قال : فما يمنعكم أن تتبعوه ؟ قالوا : إن الله لم يبعث رسولاً إلا كان له كِفْلٌ من الملائكة ، وإن جبريل هو الذي يتكفل لمحمد ، وهو عدوّنا من الملائكة ، وميكائيل سِلْمُنا فلو كان هو الذي يأتيه اتبعناه . قال : فإني أنشدكم بالذي أنزل التوراة على موسى ، ما منزلتهما من ربّ العالمين ؟ قالوا : جبريل عن يمينه ، وميكائيل عن جانبه الاَخر . فقال : إني أشهد ما يقولون إلا بإذن الله ، وما كان لميكائيل أن يعادي سلم جبريل ، وما كان جبريل ليسالم عدوّ ميكائيل . ( فبينما هو عندهم ) إذ مرّ نبيّ الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : هذا صاحبك يا ابن الخطاب . فقام إليه فأتاه وقد أنزل عليه : { مَن كَانَ عَدُوّا لِجِبْرِيلَ فَانّهُ نَزّلَهُ على قَلْبِكَ بِاذْنِ اللّهِ } إلى قوله : { فَانّ اللّهَ عَدُوّ للكافِرِينَ } .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا حصين بن عبد الرحمن ، عن ابن أبي ليلى في قوله : { مَنْ كَانَ عَدُوّا لِجِبْرِيلَ } قال : قالت اليهود للمسلمين : لو أن ميكائيل كان الذي ينزل عليكم لتبعناكم ، فإنه ينزل بالرحمة والغيث ، وإن جبريل ينزل بالعذاب والنقمة وهو لنا عدوّ . قال : فنزلت هذه الآية : { مَنْ كَانَ عَدُوّا لِجِبْرِيلَ } .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا عبد الملك ، عن عطاء بنحو ذلك .
وأما تأويل الآية ، أعني قوله : { قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوّا لِجِبْرِيلَ فَانّهُ نَزّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِاذْنِ اللّهِ } فهو أن الله يقول لنبيه : قل يا محمد لمعاشر اليهود من بني إسرائيل الذين زعموا أن جبريل لهم عدوّ من أجل أنه صاحب سطوات وعذاب وعقوبات لا صاحب وحي وتنزيل ورحمة ، فأبوا اتباعك وجحدوا نبوّتك ، وأنكروا ما جئتهم به من آياتي وبينات حكمي من أجل أن جبريل وليك وصاحب وحيي إليك ، وزعموا أنه عدوّ لهم : من يكن من الناس لجبريل عدوّا ومنكرا أن يكون صاحب وحي الله إلى أنبيائه وصاحب رحمته فإني له وليّ وخليل ، ومقرّ بأنه صاحب وحي إلى أنبيائه ورسله ، وأنه هو الذي ينزل وحي الله على قلبي من عند ربي بإذن ربي له بذلك يربط به على قلبي ويشدّ فؤادي . كما :
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا عثمان بن سعيد ، قال : حدثنا بشر بن عمارة ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس في قوله : { قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوّا لِجِبْرِيلَ } قال : وذلك أن اليهود قالت حين سألت محمدا صلى الله عليه وسلم عن أشياء كثير ، فأخبرهم بها على ما هي عندهم إلا جبريل ، فإن جبريل كان عند اليهود صاحب عذاب وسطوة ، ولم يكن عندهم صاحب وحي يعني تنزيل من الله على رسله ولا صاحب رحمة . فأخبرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما سألوه عنه أن جبريل صاحب وحي الله ، وصاحب نقمته ، وصاحب رحمته . فقالوا : ليس بصاحب وحي ولا رحمة هو لنا عدوّ . فأنزل الله عزّ وجل إكذابا لهم : { قُلْ يا محمد مَنْ كَانَ عَدُوّا لِجِبْرِيلَ فَانّهُ نَزّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ } يقول : فإن جبريل نزّله . يقول : نزل القرآن بأمر الله يشدّ به فؤادك ويربط به على قلبك ، يعني بوحينا الذي نزل به جبريل عليك من عند الله ، وكذلك يفعل بالمرسلين والأنبياء من قبلك .
حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : { قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوّا لِجِبْرِيلَ فَانّهُ نَزّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بإذْنِ الله } يقول : أنزل الكتاب على قلبك بإذن الله .
وحدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : { فإنّهُ نَزّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ } يقول : نزّل الكتاب على قلبك جبريلُ .
قال أبو جعفر : وإنما قال جل ثناؤه : { فَانّهُ نَزّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ } وهو يعني بذلك قلب محمد صلى الله عليه وسلم ، وقد أمر محمدا في أول الآية أن يخبر اليهود بذلك عن نفسه ، ولم يقل : فإنه نزّله على قلبي . ولو قيل «على قلبي » كان صوابا من القول لأن من شأن العرب إذا أمرت رجلاً أن يحكي ما قيل له عن نفسه أن تخرج فعل المأمور مرّة مضافا إلى كناية نفس المخبر عن نفسه ، إذ كان المخبر عن نفسه ومرّة مضافا إلى اسمه كهيئة كناية اسم المخاطب لأنه به مخاطب فتقول في نظير ذلك : «قل للقوم إن الخير عندي كثير » فتخرج كناية اسم المخبر عن نفسه لأنه المأمور أن يخبر بذلك عن نفسه ، و«قل للقوم : إن الخير عندك كثير » فتخرج كناية اسمه كهيئة كناية اسم المخاطب لأنه وإن كان مأمورا بقيل ذلك فهو مخاطب مأمور بحكاية ما قيل له . وكذلك : «لا تقل للقوم : إني قائم » ، و«لا تقل لهم : إنك قائم » ، والياء من إني اسم المأمور بقول ذلك على ما وصفنا ومن ذلك قول الله عزّ وجل : «قُلْ لِلّذِينَ كَفَرُوا سَيُغْلَبُونَ » و«تُغلبون » بالياء والتاء .
وأما جبريل ، فإن للعرب فيه لغات . فأما أهل الحجاز فإنهم يقولون جبريل وميكال بغير همز بكسر الجيم والراء من جبريل وبالتخفيف وعلى القراءة بذلك عامة قراء أهل المدينة والبصرة . أما تميم وقيس وبعض نجد فيقولون جَبْرَئيل وميكائيل ، على مثال جَبْرَعِيل وميكاعيل بفتح الجيم والراء وبهمز وزيادة ياء بعد الهمزة . وعلى القراءة بذلك عامة قرّاء أهل الكوفة ، كما قال جرير بن عطية :
عَبَدُوا الصّلِيبَ وَكَذّبوا بِمُحَمّدٍ *** وبِجَبْرَئِيلَ وَكَذّبُوا مِيكالاَ
وقد ذكر عن الحسن البصري وعبد الله بن كثير أنهما كانا يقرآن : «جَبْريل » بفتح الجيم وترك الهمز .
قال أبو جعفر : وهي قراءة غير جائزة القراءة بها ، لأن «فعيل » في كلام العرب غير موجود . وقد اختار ذلك بعضهم ، وزعم أنه اسم أعجمي كما يقال : سَمْوِيل ، وأنشد في ذلك :
بِحَيْثُ لَوْ وُزِنَتْ لَخْمٌ بأجمَعِها *** ما وَازَنَتْ رِيشَةً مِنْ رِيشِ سَمْوِيلا
وأما بنو أسد فإنها تقول «جِبْرِين » بالنون . وقد حكي عن بعض العرب أنها تزيد في جبريل ألفا فتقول : جبرائيل وميكائيل . وقد حكي عن يحيى بن يعمر أنه كان يقرأ «جَبْرَئَلّ » بفتح الجيم والهمز وترك المدّ وتشديد اللام ، فأما «جبر » و«ميك » فإنهما هما الاسمان اللذان أحدهما بمعنى عبد والاَخر بمعنى عبيد ، وأما «إيل » فهو الله تعالى ذكره . كما :
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا جرير بن نوح الحماني ، عن الأعمش ، عن المنهال ، عن سعيد بن جبير ، قال : قال ابن عباس : جبريل وميكائيل كقولك عبد الله .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، قال : حدثنا الحسين بن واقد ، عن يزيد النحوي ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : جبريل : عبد الله ، وميكائيل : عبيد الله ، وكل اسم إيل فهو الله .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن الأعمش ، عن إسماعيل بن رجاء ، عن عمير مولى ابن عباس : أن إسرائيل وميكائيل وجبريل وإسرافيل ، كقولك عبد الله .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن الأعمش ، عن المنهال بن عمرو ، عن عبد الله بن الحارث ، قال : «إيل » الله بالعبرانية .
حدثنا الحسين بن يزيد الضحاك ، قال : حدثنا إسحاق بن منصور ، قال : حدثنا قيس ، عن عاصم ، عن عكرمة ، قال : جبريل اسمه عبد الله ، وميكائيل اسمه عبيد الله ، إيل : الله .
حدثني الحسين بن عمرو بن محمد العبقري ، قال : حدثنا أبو أحمد الزبيري ، قال : حدثنا سفيان ، عن محمد بن عمرو بن عطاء ، عن عليّ بن حسين ، قال : اسم جبريل عبد الله ، واسم ميكائيل عبيد الله ، واسم إسرافيل عبد الرحمن وكل معبد بإيل فهو عبد الله .
حدثنا المثنى ، قال : حدثنا قبيصة بن عقبة ، قال : حدثنا سفيان ، عن محمد المدني قال المثنى ، قال قبيصة : أراه محمد بن إسحاق عن محمد بن عمرو بن عطاء ، عن علي بن حسين ، قال : ما تعدّون جبريل في أسمائكم ؟ قال : جبريل عبد الله ، وميكائيل عبيد الله ، وكل اسم فيه إيل فهو معبّد لله .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن محمد بن عمرو بن عطاء ، عن عليّ بن حسين ، قال : قال لي : هل تدري ما اسم جبريل من أسمائكم ؟ قلت : لا ، قال : عبد الله ، قال : فهل تدري ما اسم ميكائيل من أسمائكم ؟ قال : لا ، قال : عبيد الله . وقد سمّى لي إسرائيل باسم نحو ذلك فنسيته ، إلا أنه قد قال لي : أرأيت كل اسم يرجع إلى إيل فهو معبد به .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن خصيف ، عن عكرمة في قوله : جِبْرِيلَ قال : جبر : عبد ، إيل : الله ، وميكا قال : عبد ، إيل : الله .
قال أبو جعفر : فهذا تأويل من قرأ جبرائيل بالفتح والهمز والمدّ ، وهو إن شاء الله معنى من قرأ بالكسر وترك الهمز .
وأما تأويل من قرأ ذلك بالهمز وترك المدّ وتشديد اللام ، فإنه قصد بقوله ذلك كذلك إلى إضافة «جبر » و«ميكا » إلى اسم الله الذي يسمى به بلسان العرب دون السرياني والعبراني وذلك أن إِلالّ بلسان العرب الله كما قال : لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاّ وَلاَ ذِمّةً فقال جماعة من أهل العلم : إِلالّ : هو الله . ومنه قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه لوفد بني حنيفة حين سألهم عما كان مسيلمة يقول ، فأخبروه ، فقال لهم : ويحكم أين ذهب بكم والله ، إن هذا الكلام ما خرج من إلَ ولا بِرَ . يعني من إلّ : من الله . وقد :
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن علية ، عن سليمان التيمي ، عن أبي مجلز في قوله : لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاّ وَلاَ ذِمّةً قال : قول جبريل وميكائيل وإسرافيل ، كأنه يقول حين يضيف «جبر » و«ميكا » و«إسرا » إلى «إيل » يقول : عبد الله ، لا يرقبون في مُؤْمِنٍ إِلاّ كأنه يقول : لا يرقبون الله عزّ وجلّ .
القول في تأويل قوله تعالى : مُصَدّقا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ .
يعني جل ثناؤه بقوله : { مُصَدّقا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ القرآن } . ونصب مصدّقا على القطع من الهاء التي في قوله : نَزّلَهُ على قَلْبِكَ . فمعنى الكلام : فإن جبريل نزّل القرآن على قلبك يا محمد مصدقا لما بين يدي القرآن ، يعني بذلك مصدقا لما سلف من كتب الله أمامه ، ونزلت على رسله الذين كانوا قبل محمد صلى الله عليه وسلم وتصديقه إياها موافقة معانيه معانيها في الأمر باتباع محمد صلى الله عليه وسلم . وما جاء به من عند الله ، وهي تصدّقُه . كما :
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا عثمان بن سعيد ، قال : حدثنا بشر بن عمارة ، عن أبي روق عن الضحاك ، عن ابن عباس : { مُصَدّقا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ } يقول : لما قبله من الكتب التي أنزلها الله والاَيات والرسل الذين بعثهم الله بالاَيات نحو موسى ونوح وهود وشعيب وصالح وأشباههم من الرسل صلى الله عليهم .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : { مُصَدّقا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التّورَاةِ وَالإنجِيلِ } .
حدثت عن عمار قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، مثله .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَهُدًى وبُشْرَى للْمُؤْمِنِينَ } .
يعني بقوله جل ثناؤه : { وَهُدًى } ودليل وبرهان . وإنما سماه الله جل ثناؤه «هُدًى » لاهتداء المؤمن به ، واهتداؤه به اتخاذه إياه هاديا يتبعه وقائدا ينقاد لأمره ونهيه وحلاله وحرامه . والهادي من كل شيء ما تقدم أمامه ، ومن ذلك قيل لأوائل الخيل : هَوَادِيها ، وهو ما تقدم أمامها ، وكذلك قيل للعنق : الهادي ، لتقدمها أمام سائر الجسد .
وأما البشرى فإنها البشارة . أخبر الله عباده المؤمنين جل ثناؤه أن القرآن لهم بشرى منه لأنه أعلمهم بما أعدّ لهم من الكرامة عنده في جناته ، وما هم إليه صائرون في معادهم من ثوابه . وذلك هو البشرى التي بشر الله بها المؤمنين في كتابه لأن البشارة في كلام العرب هي إعلام الرجل بما لم يكن به عالما مما يسره من الخير قبل أن يسمعه من غيره أو يعلمه من قبل غيره . وقد روي في ذلك عن قتادة قول قريب المعنى مما قلناه .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : { هُدًى وبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ } لأن المؤمن إذا سمع القرآن حفظه ووعاه وانتفع به واطمأن إليه وصدّق بموعود الله الذي وعد فيه ، وكان على يقين من ذلك .
{ قل من كان عدوا لجبريل } نزل في عبد الله بن صوريا ، سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عمن ينزل عليه بالوحي ، فقال جبريل ، فقال : ذاك عدونا عادانا مرارا وأشدها أنه أنزل على نبينا أن بيت المقدس سيخربه بختنصر ، فبعثنا من يقتله فرآه ببابل فدفع عنه جبريل . وقال : إن كان ربكم أمره بهلاككم فلا يسلطكم عليه وإلا فيم تقتلونه ؟ وقيل : دخل عمر رضي الله تعالى عنه مدارس اليهود يوما ، فسألهم عن جبريل فقالوا : ذاك عدونا يطلع محمدا على أسرارنا وإنه صاحب كل خسف وعذاب ، وميكائيل صاحب الخصب والسلام ، فقال : وما منزلتهما من الله ؟ قالوا : جبريل عن يمينه وميكائيل عن يساره وبينهما عداوة ، فقال ؛ لئن كانا كما تقولون فليسا بعدوين ولأنتم أكفر من الحمير ، ومن كان عدو أحدهما فهو عدو الله . ثم رجع عمر فوجد جبريل قد سبقه بالوحي فقال عليه الصلاة والسلام " لقد وافقك ربك يا عمر " . وفي جبريل ثمان لغات قرئ بهن أربع في : المشهور " جبرئيل " كسلسبيل قراءة حمزة والكسائي ، و{ جبريل } بكسر الراء وحذف الهمزة قراءة ابن كثير ، و " جبرئيل " كجحمرش قراءة عاصم برواية أبي بكر ، و{ جبريل } كقنديل قراءة الباقين . وأربع في الشواذ : " جبرائيل " كجبراعيل ، و " جبريل " وجبرين ومنع صرفه للعجمة ، والتعريف ، ومعناه عبد الله . { فإنه نزله } البارز الأول لجبريل ، والثاني للقرآن ، وإضماره غير مذكور يدل على فخامة شأنه كأنه لتعينه وفرط شهرته لم يحتج إلى سبق ذكره . { على قلبك } فإنه القابل الأول للوحي ، ومحل الفهم والحفظ ، وكان حقه على قلبي لكنه جاء على حكاية كلام الله تعالى كأنه قال : قل ما تكلمت به . { بإذن الله } بأمره ، أو تيسيره حال من فاعله نزله . { مصدقا لما بين يديه وهدى وبشرى للمؤمنين } أحوال من مفعوله ، والظاهر أن جواب الشرط { فإنه نزله } ، والمعنى من عادى منهم جبريل فقد خلع ربقه الإنصاف ، أو كفر بما معه من الكتاب بمعاداته إياه لنزوله عليك بالوحي ، لأنه نزول كتابا مصدقا للكتب المتقدمة ، فحذف الجواب وأقيم علته مقامه ، أو من عاداه فالسبب في عداوته أنه نزله عليك . وقيل محذوف مثل : فليمت غيظا ، أو فهو عدو لي وأنا عدو له كما قال :
{ قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ } ( 97 )
وقوله تعالى : { قل من كان عدواً لجبريل } الآية : نزل على سبب لم يتقدم له ذكر فيما مضى من الآيات ، ولكن أجمع أهل التفسير أن اليهود قالت : جبريل عدونا ، واختلف في كيفية ذلك( {[986]} ) ، فقيل إن يهود فدك قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : نسألك عن أربعة أشياء فإن عرفتها اتبعناك ، فسألوه عما حرم إسرائيل على نفسه ، فقال : لحوم الإبل وألبانها ، وسألوه عن الشبه في الولد ، فقال : أي ماء علا كان الشبه له ، وسألوه عن نومه ، فقال : تنام عيني ولا ينام قلبي ، وسألوه عمن يجيئه من الملائكة ، فقال : جبريل ، فلما ذكره قالوا ذاك عدونا ، لأنه ملك الحرب والشدائد والجدب ، ولو كان الذي يجيئك ميكائيل ملك الرحمة والخصب والأمطار لاتبعناك ، وقيل إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يتكرر على بيت المدارس فاستحلفتهم يوماً بالذي أنزل التوراة على موسى بطور سيناء أتعلمون أن محمداً نبي ؟ قالوا نعم ، قال : فلم تهلكون في تكذبيه( {[987]} ) ، قالوا : صاحبه جبريل وهو عدونا ، وذكر أنهم قالوا سبب عداوتهم له أنه حمى بختنصر حين بعثوا إليه قبل أن يملك من يقتله ، فنزلت هذه الآية لقولهم .
وفي جبريل لغات : «جِبرِيل » بكسر الجيم والراء من غير همز ، وبها قرأ نافع ، و «جَبرِيل » بفتح الجيم وكسر الراء من غير همز ، وبها قرأ ابن كثير ، وروي عنه أنه قال : «رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم وهو يقرأ ( جبريل وميكال ) ( {[988]} ) فلا أزال أقرؤهما أبداً كذلك( {[989]} ) » ، وجَبرَيل بفتح الجيم والراء وهمزة بين الراء واللام وبها قرأ عاصم ، و «جَبرَءيل » بفتح الجيم والراء وهمزة بعد الراء وياء بين الهمزة واللام ، وبها قرأ حمزة والكسائي وحكاها الكسائي عن عاصم ، «وجبرائل » بألف بعد الراء ثم همزة وبها قرأ عكرمة ، و «جبرائيل » بزيادة ياء بعد الهمزة( {[990]} ) ، و «جبراييل » بياءين وبها قرأ الأعمش ، و «جَبرَئلّ » بفتح الجيم والراء وهمزة ولام مشددة ، وبها قرأ يحيى بن يعمر ، و «جبرال » لغة فيه ، و «جِبرِين » بكسر الجيم والراء وياء ونون ، قال الطبري : «هي لغة بني أسد » ولم يقرأ بها ، و «جبريل » اسم أعجمي عربته العرب فلها فيه هذه اللغات( {[991]} ) ، فبعضها هي موجودة في أبنية العرب ، وتلك أدخل في التعريب كجبريل الذي هو كقنديل ، وبعضها خارجة عن أبنية العرب فذلك كمثل ما عربته العرب ولم تدخله في بناء كإبريسم وفرند وآجُرّ ونحوه( {[992]} ) .
وذكر ابن عباس رضي الله عنه وغيره أن «جبر » و «ميك » و «سراف » هي كلها بالأعجمية بمعنى عبد ومملوك ، وإيل اسم الله تعالى( {[993]} ) ، ويقال فيه إلّ ، ومنه قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه حين سمع سجع مسيلمة : هذا كلام لم يخرج من إلّ .
وقوله تعالى : { فإنه نزّله على قلبك }( {[994]} ) الضمير في { فإنه } عائد على الله عز وجل ، والضمير في { نزّله } عائد على جبريل صلى الله عليه وسلم ، والمعنى بالقرآن وسائر الوحي ، وقيل : الضمير في «إنه » عائد على جبريل وفي { نزله } على القرآن ، وخص القلب بالذكر لأنه موضع العقل والعلم وتلقي المعارف( {[995]} ) ، وجاءت المخاطبة بالكاف في { قلبك } اتساعاً في العبارة إذ ليس ثم من يخاطبه النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الكاف ، وإنما يجيء قوله : فأنه نزله على قلبي ، لكن حسن هذا إذ يحسن في الكلام العرب أن تحرز اللفظ الذي يقوله المأمور بالقول ويحسن أن تقصد المعنى الذي يقوله فتسرده مخاطبة له( {[996]} ) ، كما تقول لرجل : قل لقومك لا يهينوك ، فكذلك هي الآية ، ونحو من هذا قول الفرزدق [ الطويل ]
ألم تَرَ أنّي يوم جو سويقة . . . بكيت فنادتْني هنيدةُ ما ليا( {[997]} )
فأحرز المعنى ونكب عن نداء هنيدة «ما لك » ، و { بإذن الله } معناه : بعلمه وتمكينه إياه من هذه المنزلة ، و { مصدقاً } حال من ضمير القرآن( {[998]} ) في { نزله } و { ما بين يديه } : ما تقدمه من كتب الله تعالى ، { هدى } إرشاد ، والبشرى : أكثر استعمالها في الخير ، ولا تجيء في الشر إلا مقيدة به ، ومقصد هذه الآية : تشريف جبريل صلى الله عليه وسلم وذم معاديه .